أصدر وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى في تاريخ 9 آب 2023 قرارا أعلن فيه مآخذه على فيلم باربي والأسباب التي تدفعه إلى المطالبة بمنعه. وأكثر ما يلفت في القرار، أمور ثلاثة:
أولا، أنه لم يشِرْ إلى أيّ نصّ دستوري أو قانوني. فعدا عن أن القرار لم يوضح النصّ الذي استند إليه الوزير لإصداره (وهو غير موجود)، فإنه خلا أيضا من أيّ إشارة إلى القانون الناظم للرقابة على الأعمال السينمائية 1947) أو إلى أي نص من شأنه أن يبرر مطلبه بمنع عرض الفيلم،
ثانيا، أنه استشهد بالمقابل بما خلص إليه اللقاء الوزاري التشاوري في الديمان قبل يوم واحد من قراره وتحديدا لجهة وجوب “التشبث بالهوية الوطنية وآدابها العامّة وأخلاقياتها المتوارثة جيلا بعد جيل، وقيمها الإيمانية لا سيما قيمة الأسرة وحمايتها ومواجهة الأفكار التي تخالف نظام الخالق والمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون”. وقد بدا من خلال ذلك أنه يعلن مرجعيّة هذا النص بعدما قفز فوق كل القوانين اللبنانية، وذلك بقوله أن “وزارة الثقافة وسائر الجهات المعنية، مدعوون إلى الالتزام تمام الالتزام بما خلص إليه هذا اللقاء،
ثالثا، أن القرار عجّ فضلا عن ذلك بالآراء الشخصية والأحكام القيمية من قبله. وهذا الأمر يتحصل ليس فقط من اعتماد مفهوم الشذوذ الجنسي (الذي لا علاقة للفيلم به) على غرار ما كان فعله وزير الداخلية بسام المولوي من قبل (بيان 24 حزيران 2022) وفي تماهٍ مع مطلب أمين عام حزب الله باستعادة هذا التعبير والكفّ عن استخدام عبارة المثلية (خطاب تموز 2023)، بل أيضا من تكثيف استخدام مفهوم “البشاعة” وتحويله إلى معيار جديد لمقصّ الرقيب على الأعمال السينمائية. وقد ورد هذا التعبير أولا حين رأى الوزير أن الفيلم يسوّق “فكرة بشعة مؤداها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم والتشكيك بدور الزواج وبناء الأسرة وعائقا أمام التطور الذاتي للفرد”. وقد عاد ليستخدم مفهوم البشاعة مرة أخرى حين رأى أن عرض الفيلم في لبنان سيكون له أبشع الآثار والنتائج لا سيما على الأطفال بشكل خاص والناشئة بشكل عام. وفي حين أن استخدام هذا المفهوم يبقى نادرا في الخطاب السياسي اللبناني، فإنه برز مؤخرا في خطاب لنصرالله تحدث فيه عن بشاعة العلاقات المثلية.
وقد انتهى القرار إلى إبلاغ نسخة عنه إلى الأمن العام من خلال وزير الداخلية لاتخاذ كل الإجراءات اللازمة لمنع عرض هذا الفيلم في لبنان، فضلا عن إبلاغ نسخة للنائب العام التمييزي للتفضّل بالاطلاع وإجراء المقتضى، كأنه يلمّح إلى وجود جرم جزائي (لا نعرف ماهيته) من دون توضيح النص القانوني الذي يستند إليه.
هذا القرار يستدعي الملاحظات الآتية:
1- القفز البهلواني فوق النظام الدستوري
أول ما نلحظه في قرار الوزير هو القفز فوق مجمل القوانين وتاليا فوق مجمل الضوابط الدستورية والقانونية والمؤسساتية، مقابل إعلاء شأن خلاصات اللقاء “الوزاري الاستشاري” في الديمان والتي أبرزها على أنها قواعد يجدر على كل إدارات الدولة الالتزام بها تمام الالتزام. ولا نبالغ إذا قلنا أن هذا القفز أخذ طابعا بهلوانيّا بكل ما للكلمة من معنى.
ليس أدلّ على ذلك من أن وزير الثقافة تجاهل تماما مجمل ضمانات حريتي التعبير والمعتقد وأبرزها المادتين 9 (حرية المعتقد مطلقة) و13 من الدستور والمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وصولا إلى إعلان ما يراه مناسبا على أساس خلاصات لقاء الديمان الذي لا يعدو كونه اجتماعا سياسيا مجردا عن أي صلاحية تشريعية أو سلطة تقريريّة.
يضاف إلى ذلك أن الوزير تجاهل تماما المعايير التي حدّدها قانون 1947 لممارسة الرقابة على الأفلام، والتي لم تتضمّن قط الحؤول دون عرض تصورات مخالفة للتصوّرات التقيلديّة للعائلة أو سلطة الأب أو دون عرض الأفكار التي تخالف نظام الخالق أو المبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون. بهذا المعنى، بدا الوزير وكأنه يعمل للتحرر من النظام الدستوري والقانوني بأكمله وضمنا من ضمانات الحرية ليلتزِم بالمقابل فقط بالضوابط المتزمتة التي صنعتها الحكومة نفسها من خارج صلاحياتها وكتبها هو بنفسه. فضلا عن ذلك، تجاهل وزير الثقافة الأجهزة والمؤسسات المحددة بموجب قانون 1947 والمخولة ممارسة الرقابة، حيث أنه ليس لوزارة الثقافة أو الأمن العام منع أيّ فيلم بل يناط الأمر حصرا بوزير الداخلية وذلك بناء على رأي تصدره لجنة خاصة للرقابة والتي تتكون من ممثلي وزارات عدة.
2- الفيتو السياسي على تطوّر المجتمع
الأمر الثاني الذي نستشفّه من قرار الوزير هو مسعاه لتسخير سلطته كوزير ثقافة لممارسة وصاية على الأعمال الثقافية، وضمنا على النقاشات العامّة، وهو مسعى يلتقي طبعا مع خلاصات لقاء الديمان وخطابات رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والأمين العام لحزب الله حسن نصرالله. فكأنما يُراد تعميم نظام الفيتوات السياسية، بحيث يشمل ليس فقط القرارات والمؤسسات العامة بل أيضا الفضاء العامّ وتطوّر الوعي والثقافة الاجتماعية، وصولا إلى وضع المجتمع برمّته تحت وصاية السلطة السياسية الحاكمة وما تحبّه أو تكرهه وما تستحليه او تستبشعه. وما يزيد من قابلية موقف وزير الثقافة للانتقاد أنه يحصر ضمنا الثقافة بالموروث التقليدي (الأخلاقيات المتوارثة جيلا بعد جيل) منكرا عليها احتمالات التطور بنتيجة التطور الفكري والعلمي أو المعيشي أو تطور وسائل التواصل عالميا أو العولمة. وقد بدا الوزير هنا وكأنه يقفز ليس فقط فوق النظام الدستوري بل قبل كل شيء فوق الواقع والمعقول. وليس أدلّ على ذلك من أنّ منع عرض الفيلم في لبنان في حال حصوله سيزيد من حضوره من قبل اللبنانيين بواسطة نتفلكس أو شبكات الإنترنت وليس العكس.
من هذه الزاوية، بدا أنّ الهدف الأساسي من القرار ليس منع الفيلم أو منع أفلام مماثلة، بل استغلال وجود الفيلم للإعلان عن موقف سياسيّ معادٍ للأقليات الجنسية وحقوق النساء ومعها لأي تشكيك بمنظومة الأحوال الشخصية السائدة، وهو موقف باتت تتبنّاه قوى سياسية لأسباب مختلفة ليس هنا المكان المناسب لمناقشتها. وما يؤكد ذلك هو تعمّد وزير الإعلام انتقاد الفيلم على خلفية تشجيع “الشذوذ الجنسي” من دون أن يكون في الفيلم أيّ صلة بالمثلية الجنسية.
3- إبراز قيم السلطوية الذكورية واللاتسامح
أخيرا، وبما لا يقل خطورة، شكّل القرار وثيقة رسمية غير مسبوقة للتسويق لقيم السلطوية والذكورية واللاتسامح. فعدا عن استخدام تعبير “الشذوذ الجنسي” بما يعكسه من جهل للعلوم الطبية والاجتماعية وازدراء للأقليات الجنسية وحقّ الاختلاف والحقّ بالكرامة والخصوصية، تميّز القرار بانحيازه للنظام الأسري القائم، وبخاصة لوصاية الأب بما يعكسه من ذكورية على العائلة. فضلا عن ذلك، ذهب القرار إلى شيطنة أي خيارات أو أفكار أو معتقدات حول الحياة الخاصة تخالف التقاليد الموروثة أو نموذج العائلة السائد، معتبرا إياها مخالفة لنظام الخالق وللمبادئ التي يجمع عليها اللبنانيون. وقد بدا القرار من خلال ذلك وكأنه يتولى الدفاع عن حقّ السلطة في التدخّل في الحيّز الخاص تمهيدا للهيمنة عليه أيضا.
للاطّلاع على قرار الوزير