لا تزال قضية قطاع البريد تتوالى فصولاً. الموضوع الأساس لم يعد إجراء مزايدة لإدارة القطاع، المتوقع فض عروضها في نهاية كانون الثاني المقبل، بل الأهمّ: هل سيُسمح بمشاركة “ليبان بوست” أم لا؟
تلك المشاركة التي يتحمّس لها كثيرون في موقع المسؤولية، ومنهم وزير الاتصالات جوني القرم، لا تزال غير ممكنة قانوناً، بسبب استمرار وجود دعوى عالقة بينها وبين الدولة. لكن مع ذلك، ثمة مساعٍ لتجاوز هذه العقبة، والاكتفاء بالإيحاء أن الشركة سدّدت كل التزاماتها تجاه الدولة، ولم يبقَ عمليّاً سوى حصولها على براءة الذمّة، لتتمكن من المشاركة في المزايدة. وهو أمر يعني بعبارة أخرى التخلّي عمداً عن تحصيل حقوق الدولة، وبالتالي تفويت أموال على الخزينة. فديوان المحاسبة كان واضحاً في التقرير الذي أصدره في حزيران 2021 بالإشارة إلى أن عدم تنفيذ العقد حسب الأصول حرم الخزينة مبالغ مالية كبيرة وألحق ضرراً فادحاً بالأموال العمومية. وهو اعتبر، رداً على مطالبة الشركة ب3.2 مليار ليرة، أنها مدينة للدولة ب1.5 مليار ليرة لا العكس، مشككاً أيضاً بمدفوعات إضافية ينبغي التدقيق فيها.
كل ذلك لم يلق اهتماماً من الشركة التي ادّعت على الدولة أمام مجلس شورى الدولة متهمة إياها بعدم احترام الحق الحصري للشركة وعدم تجديد العقد آنذاك، مطالبة بتعويض بحوالى 4 مليار ليرة. وقد أجابت مديرية البريد، عبر هيئة القضايا في وزارة العدل، أنّ لا حقّا مكتسباً للشركة بالتجديد (علماً أن الحكومة عادت وجدّدت لها حتى نهاية أيار 2023). لكن مع ذلك أصرّت “ليبان بوست” على المضي بالدعوى، ليحسم الشورى المسألة مؤكداً أن لا حقّا حصريا إلا بقانون.
بعدما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، حاولتْ الشركة سحب الدعوى ودفع مبلغ 1.5 مليار ليرة المحدد في تقرير الديوان، مؤكدة في الوقت نفسه أن الوزارة لا تمانع سحب الدعوى وإعطاء الشركة براءة الذمة في حال تسديدها المتوجب عليها.
هنا، كان لهيئة القضايا في وزارة العدل رأي ثان: فالهيئة رفضت الموافقة على الرجوع عن الدعوى، مؤكّدة أن للدولة أموالاً في ذمّة الشركة. وقد استندتْ في خطوتها تلك إلى المادة 519 من أصول المحاكمات الجزائية، التي تنصّ على أنّه لا يكتمل التّنازل إلا بموافقة المدّعي عليه، في حال قدّم جواباً يشتمل على دفاع في الموضوع أو دفع بعدم القبول أو طلب مقابل.
وعلى ما تشير المصادر، وافق “الشورى” على عدم إسقاط الدعوى، ما يُستنتج منه تحقق الشرطين المطلوبين في هذه الحالة: الشرط الشكلي المتعلق بتقديم المدعى عليه لجوابه في القضية، وشرط موضوعي متعلق بوجود “سبب مشروع” لمعارضة المدعى عليه سحب الدعوى (المادة 520 من أصول المحاكمات المدنية).
وبناء عليه، جمدت مسألة براءة الذمة، وهي شرط أساسي لتتمكن الشركة من المشاركة في المزايدة، بالرغم من أن قانون الشراء العام ينصّ على إمكانية مشاركة أي عارض في حال لم يكن قد صدر حكم قضائي بحقه. لكن هذا الشرط لا ينطبق على حالة “ليبان بوست” التي لا تزال متعاقدة مع الدولة ولا تزال في نزاع قضائي معها. وبالرغم من تأكيد رئيس هيئة الشراء العام جان العلية على أن قانون الشراء لا يمنع أي عارض من التقدم إلى الصفقة أثناء أي دعوى، لكنه عاد وأكد على رفض أي طلب غير مرفق بالمستندات المطلوبة في دفتر شروط المزايدة. وهذا الدفتر يؤكد على وجوب إرفاق العارض لطلبه ببراءة ذمة من وزارة المالية تُثبت سداده للضرائب والرسوم كافة. كما يفترض به تقديم إفادة تُثبت أنه لا يترتب عليه أي أموال مستحقة للجمهورية اللبنانية (ضرائب، تراخيص، رسوم، عقوبات وغيرها من الأموال…).
هذا يعني ببساطة أن وزارة الاتصالات غير قادرة على إعطاء الشركة براءة ذمة طالما أن الدعوى لا تزال مرفوعة، إذ لا يمكن تقدير ما إذا كان سيصدر بحقها حكم أم لا ولا يمكن تقدير ما إذا كان سيحكم عليها بالتعويض على الدولة أم لا. وبالتالي لا يمكن أن تحصل على براءة ذمة ثم يتبين أن ثمة أموالاً مستحقة عليها. علماً أنه حتى لو أنجزت التسوية المالية حتى نهاية 2019، فمن يضمن عدم نشوء خلاف بشأن المستحقات المتعلقة بالسنوات التي أعقبتْ؟
هنا لا بد من الإشارة إلى أن تقرير ديوان المحاسبة تطرّق إلى عدد من القضايا التي يفترض حلها بين وزارة الاتصالات والدولة، وهي لا تقتصر فقط على ال1.5 مليار دولار التي تشكل تصحيحاً للمقاصة المقدمة من الشركة، والتي أشارت بموجبها إلى أنها تريد من الدولة مبلغ 3.2 مليار ليرة (الفارق بين ما تطلبه من الدولة لقاء نقل بريد المؤسسات والإدارات الرسمية وبين حصة الدولة من إيرادات البريد)، قبل أن يتبيّن للديوان أن الشركة مدينة للدولة لا العكس. ومن هذه القضايا التي يفترض أن يبت بها القضاء:
- استفادت الشركة من أملاك الدولة من دون مقابل ولم تدفع أي بدلات تذكر على مركزي المطار ورياض الصلح.
- حُمّلت الخزينة أمولاً طائلة تُقدّر ب43 مليار ليرة، منذ العام 2001 وحتى العام 2019، بدلاً لنقل بريد المؤسسات والوزارات (لم يتمكّن الديوان من التحقّق منها)، متغاضية عن وجوب التحاسُب المباشر بينهما وبين الجهات المعنية، على ما ينص العقد، مع تغافلها أيضاً عن وجوب التوقّف عن نقل بريد الإدارات المتخلّفة عن الدفع، مفضّلة بالتالي الاستمرار بنقل البريد، ومن ثم حسم كلفة النقل من حصة وزارة الاتصالات، خلافاً للنص. وعليه، يُفترض بالشركة إبراز الوثائق التي تظهر ما الذي حصلت عليه من أموال من الجهات الرسمية التي نقلت بريدها، من دون أن يكون لها حق بأي أكلاف أخرى، ما يستوجب بالتالي إسقاط هذه المبالغ من المقاصة، التي يعتبرها الديوان، في الأساس، مخالفة للقانون. أما في حال عدم وجود إيصالات، فيفترض أيضاً أن تتحمّل الشركة المسؤولية، لأن العقد ينص على أن يحتفظ المشغّل بحسابات وسجلّات صحيحة ومنظّمة.
- كان العقد ينص على أن تراقب “ليبان بوست” شركات نقل البريد الدولي، مقابل رسوم تدفعها هذه الشركات، على أن تحصل الدولة على حصة في حال فاقت هذه الرسوم 50 ألف دولار شهرياً، أي ما يعادل 900 مليون ليرة سنوياً. لكن بحسب البيانات المقدّمة من الشركة، لم يتم تخطي هذا المبلغ خلال 20 سنة، ما حرم الخزينة أموالاً طائلة، خاصة أن هذه الرقابة كانت من مهام المديرية العامة للبريد. وما يزيد شك الديوان بهذه الأرقام إشارته في تقريره إلى أنه تواصل مع شركة واحدة وتبين أنها دفعت في العام 2019 حده 850 مليون ليرة.
أمام كل هذه الوقائع التي لا تزال أمام القضاء ويُنتظر أن يبت بها، كان واضحاً أن الشركة لن تكون قادرة على الحصول على براءة الذمّة. لكن وزارة الاتصالات تجاوزت كل هذه الإشكالات، مُفضّلة طلب تفويض من مجلس الوزراء لإبراء ذمة الشركة. ويأتي ذلك، بعدما عمدت شركة ليبان بوست، في 29/9/2022، إلى إيداع شيكين في وزارة المالية، الأول بقيمة 1.5 مليار ليرة والثاني بقيمة 13.7 مليار ليرة، متوجبة لغاية 31/12/2019 على ما ذكرت في كتابها. وفيما يبدو جلياً أن مبلغ ال1.5 مليار ليرة هو المبلغ نفسه المشار إليه في تقرير ديوان المحاسبة، إلا أن المبلغ المتبقي لم يُعرف سبب دفعه، خاصة أن لا شيء في التقرير يدل عليه. علماّ أن الإشارة إلى نهاية 2019 تلغي احتمال أن يكون ذلك المبلغ هو نتيجة مقاصة جديدة أجريت للأعوام 2020 حتى 2022. وعند سؤال مسؤولي الشركة، أبدوا رفض التعليق بتاتاً، وأشاروا إلى أنه “عندما يحين الأوان سنتكلم”. وفي حين لم يجب وزير الاتصالات على الهاتف، رفض مدير عام البريد بدوره التعليق من دون إذن من الوزير، علماً أنه تردد أن المبلغ المدفوع هو المتبقي من مبلغ 20 مليار ليرة كان متوجّباً على الدولة، سبق أن دفعت الشركة منه مبلغ 5 مليار ليرة. وهو ما لا يبدو واضحاً في كل السجلات التي قدمت إلى الديوان.
لكن في مطلق الأحوال، فإن بيت القصيد في الرسالة الموجّهة من وزير الاتصالات إلى ديوان المحاسبة، في 24/10/2022، هي العبارة الأخيرة التي تشير إلى أنه “مع العلم أن إبراء الذمة لن يتمّ إلا بعد تفويضنا من قبل مجلس الوزراء بذلك”.
وفيما لم يعرف سبب إيراد هذه العبارة، فقد بدا جلياً تغاضي وزير الاتصالات جوني القرم عن ربط إبراء الذمة بالقضية العالقة مع الدولة، أضف إلى أنه ليس واضحاً أن الوزير بحاجة فعلاً إلى تفويض من مجلس الوزراء. وللتذكير فإن سابقة مشابهة حصلت مع شركة “زين” التي كانت تدير الشبكة الثانية للخلوي، إذ أعلنت حينها هيئة القضايا رفض إبراء ذمة الشركة في ظل وجود قضية مرفوعة بحقها.
بالنتيجة، لكن بدت هذه الخطوة أقرب إلى رفع المسؤولية عن كاهله، ورميها على كاهل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سياسياً، فإن أراد فتح الباب أمام عودة الشركة، فما عليه سوى إعطاء التفويض، من دون أن تتّضح إمكانية القيام بذلك قانوناً، في ظل حكومة تصريف أعمال وفي ظل فراغ رئاسي.