حلّت وزيرة العمل الإيطالية “مارينا إلفيرا كالديروني” في زيارة رسمية إلى تونس يوم الرابع من نوفمبر المنقضي، ضمن الملتقى التونسي الإيطالي حول الكفاءات المهنية والعمل. وقد صاحَبَ هذا الملتقى افتتاح الدورة التكوينية الأولى في اللغة والثقافة الإيطالية ضمن برنامج من أجل مقاربة شاملة لحوكمة هجرة اليد العاملة وتنقّل العمالة في شمال إفريقيا THAMM+. كان الهدف الأساسي من هذه الزيارة تطبيق أحد أهداف مُذكرة التفاهم بين تونس والاتحاد الأوروبي المُوقّعة في 16 جويلية 2023، من أجل”شراكة استراتيجية وشاملة”، وبالأخص تطبيق مذكرة التفاهم الفرعية المنبثقة عنها، الممضاة بتاريخ 20 أكتوبر 2023 بين وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج نبيل عمار ونائب رئيس مجلس الوزراء الإيطالي ووزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي “أنطونيو تاياني”. وقد نصّت مذكرة التفاهم الأخيرة على بروتوكول تنفيذي في مجال التصرف في تدفقات الهجرة بين تونس وإيطاليا تم توقيعه يوم 4 مارس 2024 بين رئيس ديوان وزير التشغيل والتكوين المهني والمكلف بتسيير الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل من الجانب التونسي ورئيسة الوكالة الإيطالية للتشغيل من الطرف المقابل.
ورغم الوعود السخية التي نَصّت عليها مذكرة التفاهم حول التشغيل، إلا أنها تشهد تعثرا على مستوى التطبيق، ولازالت في مرمى الانتقادات لعدم وجود مرافقة جادة لها من الأطراف الحكومية أو الشركات الخاصة.
سياسات تتدثر بثوب الإنسانية
لم يكن البروتوكول التنفيذي حول التصرف في سياسات الهجرة سوى تفصيل جانبي ضمن سياسة رئيسة الحكومة الإيطالية “جورجيا ميلوني” التي أوهَمَت بتوزيع بعض الهدايا الرمزية، لتحقيق مكاسب سياسية أكبر، ضمن برنامج “ماتي” لصد الهجرة غير النظامية والترويج له أوروبيا كنموذج يُحتذَى به، مثلما تم في القمة الأوروبية التي انعقدت في جوان 2024 . ففي 17 أفريل المنقضي، وخلال زيارة “مِيلوني” الرابعة إلى تونس في ظرف أقل من سنة، وقَّعَت تونس وإيطاليا ثلاث اتفاقيات تَخصّ تمويل اتفاق بشأن الدعم المباشر لميزانية الدولة التونسية بـ50 مليون يورو لدعم كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة، وتوفير خطّ ائتمان بقيمة 55 مليون يورو للشركات التونسية الصغرى والمتوسطة، إضافة إلى مذكرة تفاهم بين وزارة الجامعات والبحث الإيطالية ووزارة التعليم العالي التونسية في إطار التعاون. وقد صرّحت “ميلوني” على هامش هذه الزيارة بأن “إيطاليا تُريد العمل خاصة على التدفقات المنظمة، وأن المذكرة تنص على دخول 12 ألف تونسي، من بين الذين تلقوا تكوينا مهنيا، سيكون في مقدورهم الذهاب بشكل قانوني إلى إيطاليا”. وكأن الأمر أشبه بالمكافأة لسياسات الدولة التونسية في صد الهجرة غير النظامية، فقد سبق لوزير الداخلية الإيطالي “ماتيو بانديتوسي” الإقرار في 25 سبتمبر الماضي، بأن السلطات التونسية قد منعت مغادرة 61 ألف مهاجر إلى إيطاليا انطلاقا من أراضيها منذ بداية سنة 2024.
ظلّ النقاش حول المذكرة المتعلقة بالهجرة النظامية إلى إيطاليا متواصلا منذ مارس 2024، وكان أحد محاور زيارة وزير الشؤون الاجتماعية حينذاك مالك الزاهي إلى روما ولقاءه مع وزيرة العمل الإيطالية كالديروني. وقد نصّ البروتوكول ومذكرة التفاهم حول تدفقات الهجرة على توفير حصة سنوية بـ4000 بطاقة إقامة غير موسمية على امتداد 3 سنوات لفائدة العمال الموسميين بإيطاليا، ممّا يجعل عدد المنتفعين الإجمالي بهذا المشروع 12 ألف شخص. ولم يَخلُ الخطاب الترويجي لهذه المذكرة من التنويه باندراجها ضمن “مقاربة شاملة للنهوض بالهجرة الشرعية والحد من الهجرة غير النظامية ومكافحة الاتجار بالبشر وتمكين الشباب التونسي من الولوج إلى فرص التشغيل بإيطاليا”. وعلى مستوى المضمون، نصّت المذكرة على عدد من البرامج التي تَهمّ مجموعة متنوعة من القطاعات، على غرار تفعيل الاتفاقية الإطارية حول الإدماج المهني للشباب التونسي في مجال البناء بإيطاليا التي تهدف إلى توظيف ألفي شاب تونسي على مدى 3 سنوات في قطاع البناء وما يتصل به، وعدد من البرامج الأخرى التي تَشمل “دعم التكوين والتشغيل لفائدة الشباب التونسي في قطاعات الميكانيك والإكساء والفلاحة”.
غير أن هذه البرامج التي سَعت لإظهار عدد من الرؤى الطموحة والحلول”الإنسانية” لمشكلة الهجرة غير النظامية، أو كما جرى وصفها في إحدى المناسبات من قبل الرئيس قيس سعيد بـ”المقاربة التي يُمكن تطويرها لا مع إيطاليا فقط ولكن مع عدد من البلدان الأخرى”، لازالت تحتوي على عديد أوجُه الانتقاد في الممارسة والتطبيق، بالرغم من تَنصيص المذكرة صراحة على تبسيط إجراءات إصدار التأشيرات وتصريحات الإقامة التي تسمح للعمال المعنيين إمكانية البقاء في إيطاليا حتى مع انتهاء العقود وطول فترة صلاحية تصريح الإقامة للحصول على مزيد فرص العمل والإقامة النظامية. وادعائها في جانب آخر “تعزيز آليات حماية المهاجرين بما يتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان ومعايير العمل الدولية لهجرة اليد العاملة وتحسين إدارة الهجرة وبناء القدرات المؤسساتية للجهات والمؤسسات المعنية”.
هذا الخطاب الدعائي البرّاق لمزايا الاتفاقيات يصطدم بواقع مغاير وسلبي طال عددا كبيرا من المهاجرين التونسيين الذين وجدوا أنفسهم ضحية عقود عمل وهمية، سواء ضمن الحصة المنصوص عليها في مذكرة التفاهم أو -خصوصا- ضمن حصص إضافية سبقَ أن تحدثت عنها السلطات الإيطالية دون تعهدات جازمة حولها. حيث تعرّض عدد من ضحايا هذه العُقود إلى الوضع في مراكز الاحتجاز أو الترحيل من الموانئ والمطارات، في حين لم يتوصّل عدد كبير منهم إلى الاتصال بالمُشغّلين الذين اتفقوا معهم مُسبقا قبل الخروج من تونس. وقد تم تسجيل عدد من الشكاوى اليومية لوافدين تونسيين لديهم عقود في مجال البناء والتشييد بشكل خاص، إذ تبيّن أن عددا من العقود غير رسمي وغير مُلزم، وهو ما أكده الناشط في المجتمع المدني و النائب السابق في مجلس نواب الشعب مجدي الكرباعي. وفضلا عن ذلك، تُوجد مجموعة أخرى من الإشكالات المتعلقة بنسق تطبيق البرامج النموذجية ضمن الخطة المقترحة، حيث لم تشمل في بداياتها سوى أعداد قليلة جدا من المنتفعين (أحد هذه البرامج النموذجية مثلا ضمّ 38 عاملا فقط في مجال البناء كدفعة أولى). هذا دون التطرق أيضا إلى مدى موضوعية المعايير التي ستشمل المنتفعين، ودرجة ضمان مبدأ التكافؤ في الفرص من خلالها، خصوصا مع غياب الرقابة الفاعلة للمجتمع المدني حول الموضوع. وهو الأمر الذي يٌمكن أن يفتح الباب أمام تدخل المحسوبيات أو فرز المنتفعين بناء على درجة الرضا السياسي أو غيره على سبيل المثال.
وينبغي التذكير هنا بأن اليد العاملة التونسية، حتى في صورة التطبيق الكامل لما نصت عليه مذكرة التفاهم حول الهجرة النظامية، لاتزال ضعيفة التمثيل وسط اليد العاملة الأجنبية في إيطاليا، فقد أفاد تقرير صادر عن إدارة الهجرة والإدماج التابعة لوزارة العمل والسياسات الاجتماعية الإيطالية حول وضعية الأجانب في سوق العمل الإيطالي لسنة 2023، بأن مجموع التونسيين المُقيمين بشكل قانوني في إيطاليا يبلغ 98243 شخصا أي بنسبة 2،6 بالمائة فقط من الأجانب في البلاد البالغ عددهم ثلاثة ملايين و600 ألف شخص، وأقل بكثير من الجالية المغربية التي يبلغ عددها قرابة الـ400 ألف كأكبر جنسية أجنبية في إيطاليا. ويحتل التونسيون المرتبة الرابعة عشر ضمن الجنسيات الآتية من خارج الاتحاد الأوروبي إلى إيطاليا، وهي مرتبة متواضعة لدولة ضمن الجوار المباشر الإيطالي، بل وشهد التواجد التونسي “القانوني” تراجعا بنسبة 1،9 بالمائة عن السنة السابقة حسب نفس التقرير.
حسابات إيطالية وأوروبية
تَدّعي مُذكرة التفاهم حول التصرف في سياسات الهجرة إظهار “بديل أخلاقي” للهجرة غير النظامية وتعويضها عبر فتح المجال أمام اليد العاملة المكونة والمؤطَّرَة ضمن هياكل واتفاقات. غير أن هذا السعي، النبيل ظاهرا، يُقابله استمرار سياسات الترحيل لعدد كبير من المهاجرين غير النظاميين في مفارقة تَعكِس الأولويات الحقيقية لمذكرات التفاهم والهدف منها في الجانب الأوروبي. ففي سنة 2023، أي سنة التوقيع على مذكرة التفاهم الاستراتيجية، تم ترحيل أكثر من 2308 تونسيا إلى حدود شهر جوان من تلك السنة، حسب ما صرح به أمين المظالم لحقوق الأشخاص المحتجزين في إيطاليا “مارو بالما”. وشهدت سياسات ترحيل التونسيين من إيطاليا تشريكا لأطراف أخرى بطريقة سرية مثل بعض شركات الطيران، كما بين ذلك تحقيق استقصائي نشره موقع “انكفاضة” في جوان الماضي.
ومع ذلك، تَحوم بعض المؤشرات حول عدم رضا أوروبي لمخرجات مذكرات التفاهم. فقد سبقت زيارة وزيرة العمل الإيطالية إلى تونس بأسبوع زيارة أخرى لوفد من المفوضية الأوروبية يومي 29 و30 أكتوبر 2024. وإذ خضَعت نتائج هذه الزيارة للتكتم الشديد أوروبيا وتونسيا على حد السواء، فإن المفوضية الأوروبية كانت قد أشارت إلى عديد الاحترازات سابقا في إدارة ملف الهجرة غير النظامية من الجانب التونسي، ومن بينها أساسا رصد حالات غياب الحماية لطالبي اللجوء في تونس، ودعوة المفوضية السلطات التونسية في 24 سبتمبر الماضي إلى إجراء تحقيقات حول “مزاعم ضلوع أعوان أمن من الحرس الوطني في عمليات اغتصاب وأعمال عنف تعرّض لها مهاجرون غير نظاميين من دول إفريقيا جنوب الصحراء”، وهو ما يُمكن أن يكون أحد المواضيع التي تم التطرق إليها في هذه الزيارة. هذه اللهجة من المفوضية الأوروبية تتقاطع في بعض الجوانب أيضا مع مضمون وثيقة سربتها صحيفة الغارديان البريطانية في 13 سبتمبر الماضي، حول تقرير داخلي للسلك الدبلوماسي للاتحاد الأوروبي EEAS، يُشير إلى مخاوف من مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل لإثبات “الموازنة بين حقوق الإنسان وكبح الهجرة غير النظامية، حيث سيستلزم ذلك تحقيق توازن صعب بشكل متزايد بين مصداقية الاتحاد الأوروبي -من حيث القيم- وبين مصلحته في الحفاظ على مشاركة بناءة مع السلطات التونسية”.
بعيدا عن الخطاب الدبلوماسي الأوروبي الذي يُحاول لوم الجانب التونسي في تطبيق بنود المذكرة والتملّص من مسؤوليته المباشرة والرئيسية في صياغة السياسات الجديدة حول الهجرة والضغط لفرضها كأمر واقع رغم مَا تتسبب فيه من انتهاكات كارثية لحقوق الإنسان، تواصل إيطاليا التسويق لمشروعها واللعب على المخاوف الاستراتيجية الأوروبية لمواصلة تنفيذ مذكرة التفاهم. فخطاب “ميلوني” السياسي أمام الاتحاد الأوروبي يرتكز على المذكرة ومشروع ماتي عموما ك”قصة نجاح” لحكومتها، بل حاولت التسويق لمشروع ترحيل المهاجرين كنموذج ينبغي “الاحتذاء” به أوروبيا. وفي هذا السياق تحديدا، جاءت زيارة وزيرة العمل الإيطالية إلى تونس لهدفين أساسيين، أولهما الدفع بحبل نجاة لمذكرة التفاهم الاستراتيجية مع تونس من خلال تنفيذ الباب المتعلق بالهجرة النظامية، بعد تصاعد الأصوات الأوروبية المطالبة بمراجعتها لعديد الأسباب. وثانيهما، مزيد التسويق لمكانة الوسيط الذي تقوم به مع النظام التونسي أوروبيا (وفي أحيان كثيرة دوليا) في ظل الانغلاق الدبلوماسي الذي أصاب الدولة التونسية منذ 2021. غير أن هذا النهج الدبلوماسي الإيطالي وسياسة ميلوني حيال الهجرة -عموما- تُواجه مشاكل أعمق حتى ضمن الساحة الداخلية الإيطالية نفسها. وأحد أوجه ذلك، النقاش الدائر حول سياسة ترحيل المهاجرين غير النظاميين والجدل الحقوقي والسياسي حول وجاهة مفهوم “الدولة الآمنة” التي سيُرَحَّل المهاجرون إليها. وهو نقاش لعب فيه القضاء الإيطالي دورا رياديا في التصدي لأطروحة ميلوني وتحالفها اليميني والدفاع عن استقلاليته المهنية، خصوصا من خلال قرار القاضية الإيطالية سيلفيا ألبانو برفضها المصادقة على ترحيل 12 مهاجرا غير نظامي إلى ألبانيا في أكتوبر الماضي، وهو القرار الذي جعل القاضية عرضة للتهديدات من قبل أنصار اليمين المتطرف الإيطالي.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.