وزارة المالية تؤخر قطوع الحسابات… وتخادع: لا موازنات دستورية في المدى المنظور


2024-09-11    |   

وزارة المالية تؤخر قطوع الحسابات… وتخادع: لا موازنات دستورية في المدى المنظور
رسم رائد شرف

مرّة جديدة تُبادر وزارة المالية إلى تقديم مشروع الموازنة في الموعد الدستوري، لكن التباهي بإننجاز واجبها لم يحجب حقيقة أن هذا الإنجاز ناقص وأن الالتزام ليس مطلقاً، بل يعوزه، ليكون كذلك، موجبٌ دستوريّ آخر هو قطع الحساب عن سنة 2023، الذي يفترض بالوزارة رفعه إلى مجلس الوزراء على أن يحوله بدوره إلى مجلس النواب. 

مشروع قطع الحساب هذا قبل أن تحوّله الحكومة إلى المجلس النيابي، يجب أن يقدّم إلى ديوان المحاسبة ليضع تقريره بشأنه. وتفرض المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية وجوب القيام بذلك “قبل 15 آب من السنة التي تلي سنة الموازنة، على أن تُقدّم حساب المهمة قبل الأول من أيلول”. لكن الواقع أن تاريخ 15 آب مرّ وتاريخ الأول من أيلول مرّ أيضاً من دون أن تقدّم الحكومة، عبر وزارة المالية، حسابات العام 2023 إلى الديوان. ما حصل أشبه بمزحة سمجة، إذ تضمّن جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء في 10 أيلول طلب وزارة المالية الموافقة على تحويل قطع حساب 2020 إلى مجلس النواب، فيما المطلوب ليتمكّن المجلس من إقرار ونشر موازنة 2025 التي أنجزت الوزارة مشروعها أن يُصدّق على قانون قطع الحساب الخاص عن عام 2023 وليس العام 2020 (بحسب المادة 97 من الدستور والمادة 118 من نظامه الداخلي). ولو كانت الوزارة تسعى فعلياً لانتظام المالية العامّة، لكانت أرسلت حسابات 2021 و2022 و2023 إلى جانب حساب 2020، لكنها لم تفعل. هذا باختصار يدلّ على أن لا تعديل في مقاربة السلطة لمسألة الحسابات المالية منذ العام 2005. مجلس النواب ورئيسه ابتكرا بدائل غير دستورية، غطاها المجلس الدستوري في القرارات التي أصدرها إثر درسه الطعون التي قُدّمت أمامه وتطالب بإبطال الموازنة لعدم جواز إقرارها من دون قطع حساب. 

فمنذ العودة إلى إقرار الموازنات بعد سنوات طويلة من الصرف على القاعدة الاثني عشرية في العام 2017، عمد المجلس النيابي إلى إقرار الموازنات بشكل استثنائي، مع الاكتفاء بالتأكيد على ضرورة إنجاز قطع الحساب (موازنة 2017 أعطت الحكومة مهلة عام لإنجاز قطع الحساب)، وإن تحوّل الاستثناء إلى قاعدة، مع تخلّي كل الأطراف عن هذا الموجب الدستوري عملياً. قانون موازنة 2024 بدوره تضمن بنداً يعطي الحكومة مهلة سنة من تاريخ إقرار القانون (12/2/2024) لإنجاز جميع الحسابات المالية المدققة منذ 1993 وحتى سنة 2022 وإحالة مشاريع قوانين قطع الحساب التي لم تقر فيها إلى مجلس النواب. لكن هذا الحرص المصطنع سرعان ما سقط مع مشروع موازنة 2025، حيث لم تكلف وزارة المالية نفسها عناء تضمين مشروعها أي نص يُبرّر تمرير الموازنة المذكورة من دون قطع حساب 2023. علماً أن وزارة المالية هي نفسها لم تبال أيضاً بما ورد في موازنة 2024 لناحية إنجاز جميع الحسابات، إلا إذا اعتبرت فعلاً أن تقديمها قطع حساب 2020 لمجلس الوزراء يشكل إنجازاً ضخماً يعفيها عن باقي موجباتها. صحيح أن تقديم هذا الحساب إلى ديوان المحاسبة هو واجب على الوزارة لكنها تنفذه بتأخير 4 سنوات. أي أن هذه الخطوة هي خطوة بلا أي معنى عملياً إذا ما كان ربطت بإقرار موازنة 2025. وحتى مع افتراض أن تحويل هذا المشروع إلى مجلس النيابي هو أمر إيجابي، فإن المجلس سيكون أمام خيار وحيد هو العودة إلى الصيغة التي كان يُقرّ بها قطوع الحسابات ما قبل العام 2005، أي مع التحفّظ على الحسابات النهائية إلى حين تدقيق الديوان فيها، إذ أنّ الالتزام بالنصّ القانونيّ يوجب على الحكومة أن تحوّل قطع الحساب إلى البرلمان مرفقاً بالتقرير العام الذي يضعه ديوان المحاسبة، ويصدّق من قبل مجلس النواب بعد ذلك. علماً أن الديوان ينظر في قطع الحساب ويضع ملاحظاته ثم ينظّم تقريراً بهذا الشأن يُرفع إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ولجنة المال والموازنة.

تؤكد مصادر ديوان المحاسبة أنه، في معرض تدقيقه في الحسابات المالية منذ 1997 حتى 2017 (أودعت وزارة المالية لديه حسابات هذه السنوات في أيار 2019، قبل أن تضيف إليها في وقت لاحق حسابات 2018 و2019)، طُرحت عليه فكرة إقرار قطع حساب 2017، بهدف تمرير موازنة 2019 حينها، بما يسمح بانتظام إقرار الموازنات التي تلي بشكل سليم، بالتوازي مع الاستمرار في تدقيق قطوعات الحسابات القديمة. وبالفعل، أنجز ديوان المحاسبة قطع حساب عام 2017 في 11 تموز 2019، معتبراً حينها أن عملية التدقيق بحساب 2017، تعود إلى رغبته في التأكد من حسن انتظام عمل المالية العامة بعد انقضاء عشرين عاماً على غياب الحسابات العمومية وبهدف تلافي أي خلل يمكن أن يتمادى زمنياً في المرحلة المقبلة وينعكس سلباً على إعداد الحسابات اللاحقة. وقد تم حينها تجاوز مسألة عدم التأكّد من صحة ميزان الدخول، وعدم إمكانية التدقيق بحساب المهمة أولاً، وعدم الالتزام في إنجاز حسابات كل السنوات التي سبقت تسلسلياً، من خلال الإشارة إلى أن التقرير “لا يُعتبر نهائياً لصحة الحسابات ولإبراء الذمّة، لكون المسألة مرتبطة بتدقيق حسابات المهمة عن السنوات العشرين الماضية، التي باشرها الديوان”. 

بعد ذلك، عاد الديوان إلى تدقيق حسابات السنوات التي سبقت، ثم التي لحقت. وكانت النتيجة حتى اليوم، إنجاز الديوان للحسابات من 1997 حتى 2002، ومن 2017 حتى 2019. كما تكشف مصادر الديوان أن قطع حساب 2003 قد أنجز، وسيصدر خلال أسبوع، وكذلك أنهى فريق التدقيق حساب 2004، وهم حالياً في صدد إعداد التقرير. 

لماذا لم تنجز الحسابات التالية للعام 2019؟ تؤكد مصادر الديوان أن السبب يعود إلى تلكؤ وزارة المالية بالدرجة الأولى. فالديوان سبق أن راسل الوزارة مرات عديدة طالباً تزويده بقطوع حسابات 2020 و2021 و2022، إلا أنها لم تتجاوب، وفي كل مرة كانت تكشف عن حجة جديدة. فتارة التأخير مرتبط بالإضرابات وتارة بغياب الكهرباء وتارة بكورونا أو التقنين في الدوامات… وبناء عليه، فرّغت رئيسة الغرفة المعنية القاضية نيللي أبي يونس فريق المدققين في الغرفة للعمل على تدقيق السنوات 2003 و2004. وهذا الواقع استمر حتى منتصف آب الماضي، حيث أفرجت الوزارة عن حساب 2020 فقط، دون الحسابات اللاحقة. والغرفة يفترض أن تبدأ في تدقيقها فور انتهائها من التقرير المتعلق بحسابات 2004، علماً أن أبي يونس تؤكد للمفكرة القانونية أنها ستسعى إلى إنجاز هذا الحساب في مهلة شهرين.

وعليه، يبدو جليّاً أن ما سوّقت له وزارة المالية إعلامياً عن تحويلها الحسابات إلى الديوان بالتزامن مع إرسال مشروع الموازنة إلى الحكومة يجافي الحقيقة. كما أن الإيحاء بإمكانية إنجاز حساب 2023 وتحويله إلى المجلس النيابي قبل إقرار الموارنة هو أمر غير دقيق، أولاً لأن الوزارة مطالبة بإنجاز قطوع حسابات 2021 و2022 و2023، وهي تتعمد المماطلة والتأخير بدون سبب واضح، وثانياً، لأن الديوان يحتاج لتدقيق كل حساب مع بين ثلاثة و4 أشهر، في حال تجاوبت “المالية” مع الأسئلة والطلبات التي توجّه إليها أثناء عملية التدقيق. علماً أن معوقات أخرى تواجه الديوان هي قلة عدد المدققين لديه ومحدودية الإمكانيات، فلا الكهرباء متوفرة دائماً ولا الإنترنت، فيما الكومبيوترات متهالكة. 

علماً أن مسألة عدد المدققين هي مسألة محورية في الديوان، فهؤلاء يبلغ عددهم حالياً 6 مدققين، وخلال سنتين من اليوم سيحال 4 منهم إلى التقاعد، ما سيؤدي عملياً إلى تعطيل عمل الغرفة المعنية في حال لم يتم الالتزام سريعاً بقرار مجلس الوزراء الذي وافق فيه على توظيف مدققين جدد في الديوان. وهو ملف لا يزال عالقاً أمام مجلس الخدمة المدنية الذي لم يعلن بعد عن أي مباراة. وخطورة التأخير تكمن أيضاً في أن الموظفين الجدد سيكونون بحاجة إلى تدريبهم من قبل المدققين الحاليين، وبالتالي كلما تأخر الوقت كلما تضاءل عدد المدربين المحتملين. 

رغم كل ذلك، تبقى المشكلة الأبرز التي يواجهها مدقّقو الديوان متمثلة في  كمية الفضائح والأخطاء والاختلاسات التي تظهر في الحسابات، والتي يؤدّي الكشف عنها وتفنيدها، خاصة أنها قد تمتد من سنة إلى أخرى إلى استهلاك الكثير من الوقت. مع ذلك تجزم مصادر الديوان أن قيام وزارة المالية بواجبها وتقديم كل الحسابات حتى العام 2023، سيسمح له بالطلب من رئيس الحكومة تأمين إمكانيات إضافية للديوان وحوافز للمدققين تسمح بتسريع العمل. 

كل ذلك يقود إلى خلاصة واحدة: انتظام المالية العامة يحتاج إلى سنوات طويلة بعد. فلا الديوان قادر على الإسراع بتدقيق كل الحسابات ولا وزارة المالية مهتمة بإنجاز هذا الموجب، والأهم أن لا أحد يريد لهذا الانتظام أن يتحقق، فالفوضى في الحسابات تسمح للسلطة بالصرف من دون حسيب أو رقيب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني