قُدّمت عملية زيادة أسعار الخليوي، التي دخلت حيّز التنفيذ في الأول من تموز 2022، بوصفها الحلّ الإنقاذي الوحيد للقطاع الآيل إلى الانهيار. لكن هذا الحلّ كانت الطريق إليه ملتوية وتدلّ أن الغاية لم تكن الإنقاذ بقدر ما كانت تحصيل إيرادات كبيرة على حساب الناس. أولاً سُرقت أرصدة المشتركين بهندسة مالية نُفّذت على مرحلتين: تحويل الرصيد من الدولار إلى الليرة على السعر الرسمي، ثم تحويل الرصيد من الليرة إلى الدولار على سعر صيرفة. وثانياً خُفّض السعر بالدولار بنسبة 66% (تغاضى مجلس الوزراء عن خيار التخفيض 75%، على اعتبار أن نسبة 66% تسمح برفد الخزينة بما يزيد عن ألف مليار ليرة) ثم احتسب السعر على أساس سعر صيرفة بدلاً من السعر الرسمي، لتكون النتيجة زيادة الأسعار 5.5 أضعاف. بذلك، عالجت الوزارة مسألة سوء إدارة الشركتين وعدم قيامهما بأيّ إجراء يوقف عملية تجميع الأرصدة على حساب المشتركين، ثم عالجت مسألة خسائر القطاع بتحميل المشتركين أيضاً كلفة إطفاء هذه الخسائر، بدلاً من البدء بضبط مزاريب الهدر التي وثّقها ديوان المحاسبة في تقرير خاص أصدره في 5/4/2022.
وزارة الاتصالات تتبرّأ من المسؤولية
تلك الزيادة ساهمت في تحسّن الإيرادات بشكل ملحوظ. لكنها خلقت في المقابل نظام تسعير لا مثيل له في العالم، وهو نظام غير مبني على معطيات ومؤشرات تتعلق بالقطاع أو بالسوق، بالفوضى المالية التي يديرها مصرف لبنان من خلال منصة صيرفة. بذلك، صار المصرف هو الجهة الوحيدة التي تتحكم بأسعار الاتصالات، وهي أسعار تتغيّر بشكل مستمر، بمقدار تغيّر سعر صيرفة. وعلى سبيل المثال، عندما وضعت الشركات تقديراً للأسعار وفق التعرفة الجديدة كان سعر صيرفة 20 ألف ليرة، لكن عندما بدأ تطبيق هذه التعرفة كان سعر صيرفة 25 ألف ليرة، فيما هو حالياً 78 ألف ليرة. وهذا يعني على سبيل المثال أن من كان يشترك في خدمة الإنترنت سعة 1.5 جيجابايت، كان يدفع قبل رفع التعرفة 17 دولاراً على السعر الرسمي أي حوالي 25 ألف ليرة، ثم صار يدفع بعد زيادة التعرفة 5.5 دولار على سعر صيرفة الذي كان في حينها 25 ألف ليرة، فارتفعت كلفة الباقة نفسها إلى 140 ألف ليرة، قبل أن تصبح اليوم 429 ألف ليرة. لتكون التعرفة قد ارتفعت خلال 8 أشهر حوالي 20 ضعفاً، مع توقّعات بارتفاعات مستمرة تبعاً لتغيّر سعر صيرفة. هذه الزيادات الهائلة التي يتحمّلها المشترك لم تترافق مع أي زيادة فعلية في الدخل لدى الأسر أو المشتركين، ما يمهد عملياً لتحويل الاتصالات من خدمة أساسية إلى حكر على الميسورين.
أكبر تجليات الفوضى في التسعير ظهرت عندما رفع مصرف لبنان سعر صيرفة من 45 ألف ليرة إلى 70 ألف ليرة دفعة واحدة، ما أدى تلقائياً إلى زيادة تعرفة الاتصالات بمعدل الضعف تقريباً، من دون أن يكون للقائمين على القطاع أي رأي أو مسؤولية عن ذلك، وهو ما يخالف القانون، حيث يفترض أن تُبنى التعرفة على رؤية واضحة للقطاع ولمصيره، لا على عمليات حسابية تسعى لزيادة المداخيل فقط، من دون النظر إلى تأثير هذه الزيادة على الاقتصاد وعلى القدرة الشرائية للمشتركين.
وفيما يعتبر وزير الاتصالات جوني القرم أن تعديل سعر صيرفة صعوداً أو نزولاً لا يؤثر على القطاع، على اعتبار أن كل الأكلاف صارت بالدولار وما تحصّله الشركتان بالليرة تحوّلانه إلى الدولار، إلا أن ذلك لا يأخذ بعين الاعتبار تأثير تعديل سعر صيرفة على استهلاك المشتركين، كما لا يأخذ بعين الاعتبار عدم قانونية هذا الإجراء، بالنظر إلى وجود آلية واضحة قانوناً لزيادة التعرفة، التي يفترض أن تكون بالليرة أسوة بتعرفة أوجيرو، التي لا تختلف عن شركتي الخلوي لناحية تسديد أغلب الأكلاف بالدولار، كما لا تختلف عنها لناحية ملكيتها من قبل الدولة.
آلية تحديد التعرفة مخالفة للقانون
للتذكير، فإنّ المادة 35 من قانون موازنة 2020 نصّت على وجوب أن “تُستوفى جميع الضرائب والرسوم والأجور عن كل أنواع الخدمات التي تقدّمها الدولة اللبنانية عبر مختلف أنواع المؤسسات المملوكة أو الممولة أو المدارة، كليا أو جزئيا من قبل الدولة، بالليرة اللبنانية فقط، بما فيها دفع إيجارات المباني المستأجرة من قبل الدولة. وإذا اقتضت الضرورة معادلة الليرة اللبنانية بأيّ عملة أجنبية بالنسبة لأجور بعض الخدمات، فيكون ذلك إلزاميا وفقا للتسعيرة الرسمية التي يفرضها المصرف المركزي”.
كذلك، فإن الغرفة الابتدائية السادسة في بيروت الناظرة في القضايا المالية كانت أصدرت قراراً في بداية الأزمة، ربطاً بدعوى تقدمت بها جمعية حماية المستهلك، يلزم شركات الاتصالات بإصدار الفواتير وتسعير البطاقات وخدمة الإنترنت بالليرة. وبالرغم من أن الشركات لم تلتزم حينها بشكل تامّ إذ حافظت على التسعير بالدولار إلى جانب الليرة، إلا أن السعر بالليرة كان ثابتاً وكان بمثابة عقد مُلزم لطرفي التعاقد (الشركات والمشترك).
هذا يعني بشكل واضح أن خدمات الاتصالات التي تُقدّمها شركات مملوكة بالكامل من الدولة يجب أن تُسعّر بالليرة وفق قدرة مُستخدمي هذه الخدمات وضماناً لاستفادتهم منها وللحقوق المتّصلة بالوصول إلى هذه الخدمة. وإذا اقتضى تعديلها بالنظر إلى انخفاض العملة الوطنية أو ارتفاع الكلفة، فإنّ هذا التعديل يجب أن يحصل على نحو يراعي هذه القدرة ووفق ما تفرضه زيادة التعرفة في قانون الاتصالات رقم 431/2002، وقد نصّتّ المادة 28 من القانون المذكور على أن:
- يُحدد مقدمو الخدمات أسعار وتعرفات خدمات الاتصالات العامة بما يتناسب مع سعر الكلفة وأوضاع السوق.
- لا يجوز تعديل الأسعار والتعرفات أو أي من الشروط الأخرى للخدمة إلا بعد إبلاغ هذا التعديل إلى الهيئة الناظمة لقطاع الاتصالات أصولا وعدم اعتراضها عليه بقرار معلل بمهلة ستين يوماً.
وعليه، فإنّ الجهة الوحيدة المخوّلة تحديد الأسعار هي الهيئة الناظمة (ووزارة الاتصالات في حال تعطيل هذه الهيئة)، كما لا يمكن تعديل الأسعار إلا بعد موافقتها أو انقضاء 60 يوماً على تقديم الطلب في حال لم تعترض عليه. أما ربط السعر بمنصّة صيرفة فمؤدّاه حصول الزيادة بصورة آلية بقرار من مصرف لبنان برفع سعر الدولار على هذه المنصة بمعزل عن سعر الكلفة أو أوضاع السوق أو القدرة الشرائية للمواطنين؛ وبكلمة أخرى، الالتفاف على القانون 431 وتعطيل الآليات والأصول المحددة فيه.
وبحسب الدعوى المقدّمة من المفكرة القانونية لإبطال قرار التّسعير الجديد، والمرفوعة في جبل لبنان ضدّ شركة “ألفا” وفي بيروت ضد شركة “تاتش”، والتي لا تزال عالقة منذ أيلول الماضي بسبب الاضطراب في المرفق القضائي نتيجة الإضرابات المتواصلة، فتشير إلى أنّ عدم وجود مجلس إدارة للهيئة الناظمة ليوافق أو يرفض الأسعار الجديدة، لا يعني بأي شكل من الأشكال إغفال المعاملات الجوهرية (ومنها إبلاغ الهيئة قبل 60 يوما من موعد الزيادة المرتقب) والأصول لزيادة التعرفة والمشار إليها أعلاه. وفي حين يتبدّى أنّ قرار مجلس الوزراء الذي استندت إليه الشركة للتسعير قد صدر في 20/5/2022، وأنّ الشركتيْن قد أعلنتا عن الأسعار الجديدة في 30/6/2022 وبدأت في تطبيقها في 1/7/2022 يكون هناك استحالة واقعية بأن تكون قد قامت الشركة بالمعاملة الجوهرية وقدّمت عرض الأسعار الجديد إلى الهيئة الناظمة وانتظرت 60 يوما، حيث أنّ المسافة الفاصلة بين الفترتيْن لا تزيد عن 40 يوماً. وعدا عن أن قرار مجلس الوزراء أتى غير معلل تعليلا وافيا، فإن ربط التسعيرة بمنصّة صيرفة إنما يؤدّي عمليّا إلى نسف القانون 431 برمته والتمهيد لزيادة تلقائيّة ترتبط بقرار مصرف لبنان برفع سعر منصة صيرفة وحده. وقد أبرزت الدعوى التي قدمتها المفكرة القانونية الحقوق الأساسية المضمونة دستوريا والتي يتم تهديدها من خلال رفع التعرفة تلقائيا على هذا الوجه.
شمّاعة الاستمرارية في غياب الشفافية
كل ذلك ليس مهماً بالنسبة لوزارة الاتصالات التي تتعامل مع عنصر وحيد هو تأمين استمرارية القطاع، علماً أن لا أرقام واضحة تعلنها الشركتان لتأكيد الحاجة إلى المبالغ المحصّلة، وبالتالي لا أدلة على أن يؤدي تخفيض الأسعار أو تثبيتها أو حتى الالتزام بالآلية القانونية للتسعير إلى تضرر القطاع، خاصة أن الشركتان حققتا وفراً في العام الماضي، وحوّلتا 3200 مليار ليرة إلى الخزينة. ثم هل يبرر ارتفاع الكلفة ربط زيادة التعرفة باستنسابية المصرف المركزي في تحديد سعر صيرفة؟ وخير مثال على ذلك هو رفع سعر صيرفة في الليلة الأخيرة من شباط من 45 ألف ليرة إلى 70 ألف ليرة، فالفارق الشاسع بين الرقمين ينفي حجة تأمين استمرارية القطاع. وإذا كان السعر الأول كافياً لتأمين هذا الهدف، خاصة أنه لم يسمع أي اعتراض من وزارة الاتصالات على الفارق الكبير بين هذا السعر وسعر الدولار في السوق السوداء (تخطى 80 ألف ليرة في حينها)، فهذا يعني أنه بالإمكان الاستمرار به، أسوة بما حصل مع خدمة الكهرباء على سبيل المثال، بدلاً من تكبيد المشتركين خسائر مضاعفة غير مبررة، في ظل الغياب التام للشفافية في شركتي الخلوي، حيث لا قيمة الإيرادات معروفة ولا قيمة النفقات معلنة. علماً أن وزير الاتصالات كان قد توقع خسارة 26% من عائدات القطاع بسبب تراجع الاستهلاك، إلا أن ما حصل “لحسن الحظّ” على ما يقول، “أننا لم نخسر أي زبون بالنسبة للاتصالات العادية، لكن استهلاك الداتا تراجع 15%”. هذا التراجع الذي يعتبره القرم مقبولاً، يصفه المدير العام السابق لشركة “تاتش” وسيم منصور بالكارثي، إذ أن البديهي أن يزيد استهلاك الإنترنت سنوياً حوالي 7% بالحد الأدنى، إن كان من خلال انضمام مشتركين جدد إلى الشبكة من فئة الشباب أو من خلال الحاجة المتزايدة للإنترنت في كل المجالات الحياتية والاقتصادية، ما يعني عملياً أن التراجع الفعلي يصل إلى حدود 22% وهي نسبة تنذر بمخاطر كبيرة على الاقتصاد وعلى النمو.
لدى وزير الاتصالات مقاربة أخرى، هو يعتبر أن رفع التعرفة حسّن الخدمة بشكل كبير، إذ لم تعد الشبكة تشهد أيّ انقطاعات تذكر، مع التأكيد أن تخفيض المصاريف وصل إلى الحد الأقصى، بالمقارنة مع أولوية تأمين استمرارية الخدمة، التي إن توقّفت ينهار كل البلد. إذ يوضح أنه تم تخفيض الحاجة إلى المازوت من خلال تشغيل 30% من المحطات على الطاقة الشمسية، كما تمّ إقفال 500 محطة بالاعتماد على تشارك المحطات بين الشركتين، أضف إلى اعتماد التجوال المحلي في المناطق الريفية حيث الكثافة منخفضة… ولأن “القطاع ليس جزيرة معزولة”، يتفهّم القرم تراجع الاستهلاك خاصة أن استمرار الأزمة وتفاقمها يساهم في المزيد من الإفقار للناس وبالتالي مواجهة المزيد من الصعوبات للحصول على الخدمات الأساسية، ليختم مصرّاً على تفويض مهمّة التحكم بتعرفة الاتصالات للمصرف المركزي: “الحلّ مش عندي فأنا لا يمكنني ضبط سعر الدولار، وعندما يتحقق ذلك يتحسّن كل شيء في البلد بما فيه قطاع الاتصالات”.