ورشة “استقلالية القضاء الإداري” تنفتح تشريعيا (2): اقتراح عدوان مقابل اقتراح سعد (ائتلاف استقلال القضاء)

ورشة “استقلالية القضاء الإداري” تنفتح تشريعيا (2): اقتراح عدوان مقابل اقتراح سعد (ائتلاف استقلال القضاء)

المحاكمة العادلة

وجّه رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان دعوة إلى أعضائها لمناقشة اقتراحيْ قانون حول القضاء الإداري يوم الثلاثاء الواقع في 5 تموز القادم. وإذ يُنتظر أن تأذن هذه الجلسة ببدء هذه الورشة برلمانيّا، يلحظ أن جدول أعمالها يشمل مناقشة اقتراحين قدما في ظل الولاية السابقة للمجلس النيابي: (1) اقتراح قانون استقلالية القضاء الإداري وشفافيته وأصول المحاكمات الإدارية الذي قدمه النائب أسامة سعد في آذار 2021 بالتعاون مع ائتلاف استقلال القضاء وقد أعدّتْه “المفكرة القانونية”، و(2) اقتراح القضاء الإداري الذي قدّمه عدوان في تموز 2021 أي بعد أربعة أشهر من تقديم الاقتراح الأول، وقد أعدّه رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس. وفي حين خصّصت المفكّرة عددها الصادر في نيسان 2020 تحت عنوان: “القضاء الإداري: من يحمي الدولة ومن يدافع عنها؟” لشرح الأسباب الموجبة التي يقوم عليها اقتراح سعد وتوجهاته، فإنها تدوّن في هذا المقال ملاحظاتها الأساسيّة على اقتراح قانون عدوان، ساعية إلى إبراز أوجه الاختلاف بينه وبين اقتراح سعد. وإذ نشرنا الجزء الأول منه بشأن تنظيم القضاء الإداري، ننشر هنا الجزء الثاني المتصل بشروط المحاكمة العادلة.   

وقبل المضي في ذلك، يقتضي التذكير بأربعة أمور:

1- إن القضاء الإداري هو القضاء الذي يتولى النظر عموما في النزاعات المتصلة بأعمال السلطات العامة ومسؤولياتها، وذلك عملا بالثنائية القضائية الثنائية المعتمدة في لبنان منذ 1954 تيمنا بالنظام القضائي الفرنسي والتي تفصل بين القضاء الإداري والقضاء العدلي الذي يتولى النظر في النزاعات الجزائية والمدنية. هذا مع العلم أنه حتى اللحظة يختزل مجلس شورى الدولة القضاء الإداري، رغم أن نظامه كما عدل في 2000 نصّ على إنشاء محاكم إدارية في المحافظات (لم تنشأ حتى الآن).  

2- إنّ هذه الورشة تشكّل إلى جانب ورشة “استقلالية القضاء العدلي” رافدًا هامًّا على طريق بناء مؤسسات قضائيّة مستقلّة وأكثر قدرة على ضمان حقّ التقاضي ونفاذ القانون. ففي حين أنّ استقلالية القضاء العدلي تعزّز حقوق المتقاضين فيما يتّصل بنزاعاتهم المدنية والجزائية، فإن استقلاليّة القضاء الإداري تعزّز حقوق المتقاضين في مداعاة السلطات العامّة وإبطال قراراتها عند تجاوز حدّ السلطة وتاليا إخضاع هذه السلطات للشرعية. ولا يختلف إثنان على أهميّة استقلالية القضاء الإداري في أي جهد لمكافحة الفساد الإداري وضمان شرعية الدولة. ويذكّر هنا إلى أن لجنة الإدارة والعدل كانت أنهتْ العمل على اقتراح استقلال القضاء العدلي في 14/12/2021 وأبدت لجنة البندقية رأيها بشأنه في 15/6/2022 محددة عددا من المعايير الواجب مراعاتها في هذا الخصوص، وهي معايير تنطبق في غالبها على اقتراح استقلالية القضاء الإداري. 

3- إن هذه الورشة لا تتصل فقط باستقلالية القضاء الإداري، إنما أيضا بأصول المحاكمات أمام هذا القضاء بما يضمن احترام مبادئ المحاكمة العادلة، ومن أبرزها ضمان حقوق المتقاضين بالولوج إلى العدالة ومبادئ القاضي الطبيعي والعلانية والمقاضاة على درجتين. ويضاف إلى ذلك إشكاليات تنفيذ القرارات القضائية من قبل الإدارات العامة، وكلها إشكاليات فصّلتها المفكرة القانونيّة في عددها الخاصّ المذكور أعلاه.

4- إن هذه الورشة تبقى قاصرة في ظل سرية المداولات في لجنة الإدارة والعدل، بما يمنع الرأي العام من التفاعل مع آراء النواب، إيجابًا أو سلبًا، بما يتصل بقانون بهذه الأهمية، علما أنه يبقى للجنة حق جعل المداولات علنية سندا للنظام الداخلي. ويخشى أن تؤدي هذه السرية إلى تأخير مناقشة هذا القانون وإغراقه في مسائل فرعية بعيدا عن أي تفكّر.

القسم الثاني: شروط المحاكمة العادلة

  1. تسهيل الولوج إلى القضاء

بالإضافة إلى ما تضمنه الاقتراح لجهة توسيع حالات المعونة القضائية لتشمل الجمعيات التي لا تبتغي الربح، فإنه تضمّن أحكاما تسمح بتقديم دعوى أمام المحاكم الإدارية من دون محامٍ، ليس فقط في القضايا التي تتم حسب الأصول الموجزة (كما هي الحال في ظل القانون الحالي)، إنما أيضا في قضايا عجلة الحرّيات، وهي قضية عجلة أضافها الاقتراح (م. 485). ويشكّل هذا الاستثناء الأخير تطوّرا ايجابيا على صعيد تعزيز دور المجلس في حماية الحرّيات.  كما يستثنى من شرط تعيين محام قضايا العجلة في المعاينة (م. 487) والعجلة في التحقيق (م. 488).

إنما يبقى أهم ما تضمنه الاقتراح، ضمان مبدأ قرب المحاكم من المتقاضين وتوسيع قضايا العجلة بما يمكّن المتقاضي من انتزاع قرار قضائي ضمن مهلة معقولة وإن بقي الاقتراح متراجعا في هذا الخصوص عن اقتراح سعد (المفكرة/ استقلال القضاء). التراجع بدا أكثر وضوحا بما يتصل بتعريف الصفة والمصلحة في اتجاه إبقاء فتحة الولوج إلى القضاء الإداري ضيقة جدا.      

 أ- ضمان مبدأ قرب المحاكم من المتقاضين ولكن بصلاحيات محدودة

يرمي الاقتراح على غرار اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) إلى تفعيل إنشاء محاكم من الدرجة الأولى في مراكز المحافظات (م. 70 من الاقتراح)، علما أن تعديل نظام مجلس شورى الدولة في سنة 2000 كان نص على ضرورة إنشاء محاكم مماثلة من دون أن يتخذ مكتب مجلس شورى الدولة ووزارة العدل الخطوات اللازمة لتحقيق ذلك. وقد حاول الاقتراح تجنّب المحاولة الفاشلة الحاصلة في 2000، من خلال وضع مهلة ملزمة (ستة أشهر من تاريخ صدور القانون) لبدء العمل بهذه المحاكم (م. 72).

وإذ يشكّل إنشاء المحاكم الإدرايّة خطوة أساسيّة لضمان مبدأ قرب من المتقاضين، يبقى أنّه لضمان هذا المبدأ بشكل فعّال يجب أيضا أن تكون صلاحيّات هذه المحاكم هي الصلاحيّة المبدئيّة في الدرجة الأولى. وخلافا لذلك، نرى أن الاقتراح أبقى مجلس الشورى مختصا في الدرجة الأولى والأخيرة في العديد من النزاعات. بل ذهب الاقتراح إلى زيادة مدى هذا الاختصاص عما عليه الوضع حاليا (م. 65 من النظام الحالي). وإن جاز تبرير بعض هذه الصلاحيات بمتطلبات عدالة مركزية وسريعة وفعّالة (الطعن بقرارات مجلس الوزراء مثلا)، فإن الاقتراح أضاف إلى هذه الصلاحيات صلاحيات غير مبررة ك “طلبات الإبطال بسبب تجاوز حدّ السلطة للمراسيم التطبيقيّة والأعمال التنظيميّة الصادرة عن الوزراء”، وهذا الأمر يزيد من التمركز بطريقة غير مبرّرة، لكن الأخطر من ذلك “قضايا التعدّي على الحقوق والحرّيات العامّة بما في ذلك الحرّية الفرديّة والاستيلاء” (م. 101 فقرة 5 و9).  

ب- توسيع غير كافٍ لحالات العجلة

يهدف الاقتراح إلى معالجة، ولو بشكل جزئي، حالات العجلة التي تمّ تعديلها بموجب قانون 31 أيار 2000 الذي نظّم أربعة أنواع من العجلة: دعاوى إثبات الحالة، اتخاذ جميع التدابير الضرورية، الإلزام بدفع سلفة، المراجعة قبل إبرام العقود. على هذا الصعيد، نلاحظ تعديلا ايجابيا يرمي الاقتراح إلى فرضه، وهو تكريس عجلة الحرّيات، بالإضافة إلى إدخال بعض التعديلات على نزاعات العجلة الملحوظة حاليا. لكن بالمقابل، نلاحظ أنّ الاقتراح تفادى معالجة المشاكل المتعلّقة بغياب عجلة وقف التنفيذ والعجلة التعاقديّة بما جعله متراجعا عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) الذي خصص على عكس ذلك أحكاما خاصة لهذا الغرض. 

تكريس قضاء العجلة في قضايا الحريّات:

يرمي الاقتراح على هذا الصعيد إلى إدخال تطوّر إيجابي وضروري. فهو يهدف إلى تكريس قضاء العجلة مع ذات الشروط وذات الصلاحيّات التي يتمتّع بها القاضي الإداريّ في فرنسا: ففي حال حصول مساس بحريّة أساسيّة بصورة جسيمة وبمخالفة فادحة للقانون من أحد أشخاص القانون العام أو أحد أشخاص القانون الخاص المكلفين بإدارة مرفق عام، يعود للقاضي إتخاذ التدابير اللازمة لحفظ الحريّة. ويصدر قراره خلال مهلة 48 ساعة من تاريخ تقديم الطلب، ويكون الطلب معفيا من تعيين محامٍ ولا تراعى فيه قاعدة القرار المسبق (م. 486).

العجلة التعاقدية الغائبة:

أوّل ما علينا الإشارة إليه أنّ اقتراح عدوان تناول فقط نزاعات العجلة ما قبل التعاقد، التي تفترض تقديم المراجعة قبل توقيع العقد، من دون أن يوجد أي أصول مستعجلة لنزاعات ما بعد التعاقد.  

إلا أن الإيجابي في الاقتراح يكمن في أمرين: (1) إنه يوسع نطاق العجلة الحالي، بحيث يؤكد على شموله العقود المنوي إبرامها من قبل البلديّات أو المؤسسات العامّة أو أي أشخاص من القانون العام أو الخاص المولجين بإدارة مرفق عام، و(2) إنه يعالج ممارسات التحايل التي قامت بها بعض الإدارات للتملص من الطعون المستعجلة المقدمة ضدها، وذلك من خلال الإسراع في إبرام العقد موضوع النزاع، وصولا إلى تجريد المجلس من صلاحية النظر فيه بالصورة المستعجلة. وعليه، نصّ الاقتراح على أن تمتنع الإدارة المعنيّة عن توقيع العقد إلى حين إصدار قاضي العجلة قرارا بشأنه وإبلاغها إياه (م. 495).

عجلة وقف التنفيذ: عجلة أساسيّة لا يلحظها الاقتراح:

لا يرمي الاقتراح إلى تكريس عجلة وقف التنفيذ. بل أنّه يذهب إلى تعطيل مسبق لأي محاولة للتدخل بشكل سريع لوقف تنفيذ عمل إداري أو قرار إداري: فيمنع صراحة “اتخاذ تدابير أو إجراءات من شأنها وقف تنفيذ عمل إداري أو منعه” في سياق عجلة التدابير الإحتياطيّة (م. 483)، كما أنّ سياق الأصول المتبعّة بالنسبة لطلبات وقف التنفيذ في المراجعات غير المستعجلة (التي سيتمّ تفصيلها في الفقرة المتعلّقة بوقف التنفيذ) لا تؤمّن التدخّل بسرعة كافية لضمان حفظ الحقوق.

ت- توسيع مفهوم الصفة والمصلحة للمداعاة أمام مجلس شورى الدولة ضماناً للشرعية

بمعزل عن العبارات المستخدمة، لا يحقّق اقتراح عدوان أي تطوّر في هذا الخصوص. 

يعرّف الاقتراح الصفة كالسلطة التي تمكّن الشخص من تقديم الدعوى، أي صاحب الحق المدعى به أو من يمثله، في سياق دعاوى القضاء الشامل. أمّا فيما خصّ دعاوى إبطال الأعمال الإدارية لتجاوز حدّ السلطة، فيشترط الاقتراح مجددا توافر المصلحة الشخصيّة والمباشرة (م. 126). وعلى صعيد تعريف المصلحة، نلاحظ أن الاقتراح لم يُحقّق أيّ تطوّر، حيث أنّه استعاد عن النظام الحالي تعريف المصلحة لتقديم طلب إبطال لعمل إداري بسبب تجاوز السلطة، بحيث نصّ أن لا يقبل طلب الإبطال هذا “إلّا ممن يثبت أن له مصلحة شخصيّة مباشرة مشروعة في إبطال القرار المطعون” (م. 128 فقرة 2 من الاقتراح التي تنقل المادة 106 من النظام الحالي). 

وبذلك، تجاهل الاقتراح تماما كل الإشكالات التي أثيرت حول عمل مجلس شورى الدولة لجهة تشدده في قبول الطّعون المقدّمة ضدّ مراسيم مشُوبة بعيوب جسيمة بداهة معللا ذلك بانتفاء هذه المصلحة وفق ما أسهبتْ “المفكرة” في تبيانه في أكثر من مقال. وقد أدّى ردّ هذه الطعون في بعض الأحيان إلى تحصين قرارات إداريّة بالغة الخطورة بالتخلي عن غير حقّ عن ملكيّة مساحات كبيرة من الأملاك العامّة تبلغ قيمتها مئات ملايين الدولارات الأميركية، كما حصل مثلا في قضية المنطقة العاشرة أو في قضية مكبّ صيدا (قرار 1/7/2021 وهو غير منشور) أو أيضا بالسماح بإشغال مساحات شاسعة من الأملاك العامة كما حصل مؤخرا في قضية الناعمة.

ومن هذه الجهة، يبدو أيضا اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) متميزا جدا لجهة تخصيص فقرة كاملة لتوسيع تعريف الصفة والمصلحة في الطعن في القرارات الإدارية التي ترشح عن مخاطر اجتماعية كبيرة كالمس بالأملاك العامة أو البيئة ..إلخ.

ويجدر التذكير في هذا الخصوص  بأن أحد أهم الفقهاء الفرنسيين وصف تمكين المواطنين من تقديم مراجعات إبطال لتجاوز حدّ السلطة على أنه يشكل “السلاح الأكثر فعالية وعملية وتوفيراً في العالم للدفاع عن الحريات” (Jèze). كما وصف فقيه آخر هذه المراجعة بأنها “دعوى ذات منفعة عامة” (Chapus)، تهدف إلى حماية الشرعية الموضوعية وإخضاع الإدارة للقانون. وهذا ما شدد عليه فقيه آخر باعتباره أن فتح باب المراجعة في هذا الخصوص إنما يجعل أي مواطن بمثابة “مدعٍ عام” (Hauriou).

  •  مواءمة أصول المحاكمة مع مبادئ المحاكمة العادلة
  • بالنسبة إلى إدخال مبدأ القاضي الطبيعي

لا يكرّس اقتراح عدوان بشكل صريح مبدأ القاضي الطبيعي. وفق هذا المبدأ، يكون لجميع المتقاضين حق المثول أمام جميع المحاكم. وهذا يعني بشكل خاصّ بأنّ أيّاً كان لا يجب أن يحاكم أمام هيئة خاصة أو ذات أثر رجعي أو منشأة خصيصاً للدعوى، وأنّه يجب أن يخضع المتقاضون للإجراءات ذاتها والقانون نفسه. ويمكن اعتبار هذا المبدأ حالة تطبيقية لمبدأ المساواة ولكنه مكرّس بشكل واضح في المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تنصّ على أن “الناس جميعاً سواء أمام القضاء”.

وتخالف الممارسات المعتمدة في مجلس شورى الدولة حاليا هذا المبدأ على صعيد التكوين المسبق للهيئة الحاكمة. إذ ويكتفي رئيس الغرفة التي تتولّى النظر في الدعوى بتعيين مقرر خلال ثلاثة أيام من انتهاء تبادل اللوائح كما تنصّ المادة 78 من نظام مجلس الشورى، علمًا أن بإمكانه أن يقوم بوظيفة المقرر. وقد اعتاد رؤساء الغرف أن يختارُوا باقي أعضاء الهيئة من بين أعضاء الغرفة قبل أيام من المذاكرة وأحيانا في يوم المذاكرة نفسه. وقد سعى الاقتراح إلى حلّ هذه المشكلة من خلال تحميل رئيس الغرفة التي يعود إليها النظر في موضوع المراجعة مسؤولية تعيين الهيئة الحاكمة وتسمية مقرّر خلال الأيام الثلاثة التي تلي تبادل اللوائح (المادة 159 من الاقتراح). وعليه، يكون تكوين الهيئة الحاكمة فوريا ويسبق النظر في الدعوى، مما يمكن المتقاضين من إجراء المقتضى في حال وجود أي سبب ردّ أو ارتياب بأعضاء الهيئة الحاكمة ويمكن القضاة من دراسة المراجعات التي سيشاركون في النظر فيها. وبذلك، استعاد اقتراح عدوان ما شدّد اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) على ضرورة معالجته.

  • بالنسبة إلى إدخال مبدأ المحاكمة على درجتين مع تكريس حق التمييز توحيداً للإجتهاد

في حين يؤدي تفعيل المحاكم الإدارية الابتدائية إلى توسيع مجال الاستئناف، بحيث تخضع أحكامها للاستئناف أمام مجلس شورى الدولة (م. 372)، إلا أنّ توسيع اختصاص مجلس شورى الدولة بالدرجة الأولى والأخيرة يحدّ من هذا التطور. وما يفاقم من هذا الوضع هو أن الأحكام الصادرة عن هذا المجلس ضمن هذا الاختصاص لا تكون خاضعة حتى للطعن عن طريق التمييز (م. 396). وهنا أيضا يبدو اقتراح عدوان متراجعا عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) حيث تم تكريس حق التمييز فضلا عن توسيع دائرة المحاكمة على درجتين.

  • بالنسبة إلى تكريس علانية المناقشات وطابعها الشفهي

“العلانية هي روح العدل” (جيريمي بنثام، 1970) ولكن للأسف يفتقد القضاء الإداري اللبناني لهذه “الروح”. فلا ينصّ قانون مجلس شورى الدولة الحالي على أيّ جلسة علنية حقيقية. فالإجراءات التي تجري أمام المحكمة الوحيدة والفريدة للقضاء العادي الإداري مكتوبة: من الطلب الذي يرفعه صاحب المراجعة أو المستدعي، إلى تبادل اللوائح بين أطراف الدعوى، مروراً بالتقرير الذي يصدره القاضي/المقرر، وصولاً إلى المطالعات المكتوبة لمفوّض الحكومة، وأخيراً تحويل ملف القضية إلى هيئة الحكم التي تتذاكر سرّاً. والجلسة العلنية العامّة الوحيدة التي ينصّ القانون على انعقادها هي جلسة إفهام القرار النهائي، ولكنها في الواقع محض خيال. وهذا كلّه حزين ككابوس نودّ فقط أن نستيقظ منه.”

هذه الفقرة وردت حرفيا في مقال للأستاذ الجامعي ماثيو ميزونوف في عددها الخاص حول القضاء الإداري بعنوان: “علانية جلسات المحاكمة: من أجل بثّ “الروح” في القضاء الإداري اللبناني”. ويتابع ميزونوف مرافعته بشأن علانية الجلسات بالإحالة إلى قرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومفادها أنّ “العلانية [للجلسات] تحمي الأشخاص من العدالة السرّية التي تجري بعيداً عن نظر الجمهور؛ كما أنّها إحدى الطرق التي تساعد في المحافظة على الثقة في المحاكم. (كما) تساعد العلانية على تحقيق … المحاكمة العادلة والتي يشكّل ضمانها أحد مبادئ أي مجتمع ديمقراطي […] “. بل يذهب الكاتب إلى حدّ القول بأن القول بأن الأحكام تصدر باسم الشعب اللبناني يعني أن من حق المواطنين أن يكونوا شهوداً على ما يجري بإسمهم.

وعليه، وانسجاما مع مبادئ المحاكمة العادلة المكرّسة في المواثيق الدوليّة التي صادق لبنان عليها ولها القوة الدستورية بموجب مقدّمة الدستور، رأت “المفكرة” أن تكريس مبدأ علانية الجلسات في القضاء الإداري إنما يشكل أحد الأسباب العشرين الموجبة لوضع قانون جديد، طالما أن هذه العلانية مبدأ أساسي يقود إلى حماية المتقاضين من عدالة سرّية. وهذا شرط ديمقراطي رئيسي وضروري لشفافية العدالة، وهو شرط يعبر عنه القول المأثور:

Justice is not only to be done, but to be seen to be done

بمعنى أي لا ينبغي إقامة العدل فحسب بل أن يظهر ذلك للعيان أيضا. 

وعليه، هنا أيضا بدا اقتراح عدوان متراجعا عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) بحيث أنه خلافا لهذا الأخير خلا من أي إصلاح في هذا المجال.  

  • تأمين ضمانات لفعاليّة الأحكام وتنفيذها

أخيرا، يجدر النظر في ما تضمّنه الاقتراح على صعيد ضمان فعالية الأحكام وتنفيذها. وبالإمكان إبداء ملاحظاتنا في هذا الخصوص تحت 4 عناوين.

  • تمكين المتقاضين من وقف تنفيذ القرارات الإدارية المطعون فيها ضمن آجال معقولة:

تشكّل إمكانيّة  القاضي إقرار وقف التنفيذ تدبيرا حيويا وهو يبقى السلاح الوحيد المتاح بيد المواطن للنضال ضدّ الطّابع التنفيذي للأعمال الإدارية والمفعول غير المعطّل للمراجعة أمام القاضي وفق ما تنصّ عليه المادة 77 من القانون الحالي لمجلس شورى الدولة. وفي هذا الإطار، استعاد اقتراح عدوان بشكل أساسي أحكام القانون الحالي لجهة (1) أن المراجعة ضد القرارات الإداريّة أمام المحاكم الإداريّة أو مجلس شورى الدولة لا توقف التنفيذ دون طلب صريح من المستدعي بهذا الشأن يبرهن أن من شأن التنفيذ أن يلحق به ضررا بالغا يتعذر تداركه وأن الطعن يرتكز على أسباب جدّية و مهمّة، و(2) أنّ المهل المتصلة بوقف التنفيذ تبقى هي هي، حيث يرمي الاقتراح إلى إعطاء الخصم مهلة أسبوعين على الأكثر للجواب على طلب وقف التنفيذ، وبعد هذا الجواب يكون للهيئة الحاكمة مهلة أسبوعين على الأكثر للبتّ بطلب وقف التنفيذ. ومن شأن مدّة هذه المهل التي قد تصل إلى شهر، أن تؤدي إلى زوال الحقّ أو حصول ضرر لا يمكن الرجوع عنه.

وهنا أيضا، يبدو اقتراح عدوان مُتراجعا عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) الذي وضع على غرار القانون الفرنسي أصولا مستعجلة للنظر في وقف التنفيذ. 

  • عدم لحظ إمكانيّة توجيه الأوامر إلى الإدارة:

“عندما يُرفَض طلب أحد الوالدين التحاق طفله بمدرسة رسمية، فإنه لا ينتظر ببساطة أن يبطل القاضي ذلك الرفض، بل أيضاً أن يطلب من الإدارة استقبال طفله في الصف… (و) إذا تم فصل الموظف العمومي بشكل غير قانوني، ألا يجب على القاضي أن يأمر المؤسسة العامة بإعادته؟ ومتى أبرم عقد عمومي بطريقة غير مشروعة، فمن يقبل أن يعلن القاضي بطلانه من دون مطالبة الطرفين بإنهاء علاقاتهما التعاقدية؟”. هذا المقطع ورد في مقال نشرتْه المفكرة القانونية للقاضي الإداري في فرنسا أوليفيه غيّارد تحت عنوان: “حين يُكره القاضي الإداري أشخاص القانون العامّ على احترام قراراته” لشرح النتائج العبثية التي قد تتأتّى عن النظرة التقليديّة والعتيقة لمبدأ فصل السلطات لا سيّما فصل السلطة القضائيّة عن السلطات الإداريّة. وبحسب هذه النظرة، تقتصر قرارات القاضي الإداري على إعلان “الأوضاع القانونية” الخاصة بموضوع الدعوى التي يبتّ فيها، من دون أن يكون له حق القيام مقام السلطة الإدارية الصالحة ليستخلص النتائج من هذه الأوضاع، أو القيام مقامها من خلال توجيه أمر لها. وهي النظرة التي تتجسد في المادة 91 من نظام مجلس شورى الدولة الحالي. ومن أخطر النتائج المترتبة على هذه النظرة، تجريد القاضي الإداري من إمكانية إلزام السلطة التنفيذية بإصدار المراسيم التنفيذية للقوانين، بما يسمح لهذه السلطة بعرقلة تطبيق قانون صوتت عليه السلطة التشريعية إلى أجل غير مسمى. وهذا ما بات يعرف في لبنان ب ظاهرة القوانين غير المنفذة والتي كان مجلس النواب استحدث لجنة غير عادية لمتابعة تنفيذها من دون أن يؤدي عملها لأي اثر فعلي.

من هذا المنطلق، رأت “المفكرة” أن إعادة النظر في هذه المقاربة يشكل أحد أهم الأسباب الموجبة لإصلاح القضاء الإداري، على غرار ما ذهبت إليه فرنسا في 1995، حيث بات بإمكان القاضي الإداري توجيه الأوامر للإدارة على أن تقتصر سلطته على إلزام الإدارة باتخاذ تدبير معيّن في الاتجاه الذي ينطوي عليه قراره، وذلك تجنباً لحلول القاضي محلّ الإدارة. وهذا ما تمّ تضمينه بوضوح في اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء). ويشير غيّارد في مقاله للمفكرة المذكور أعلاه تعليقا على هذا التحول إلى أنه بات بإمكان القاضي الإداري “منذ ذلك الحين أن يرفق قراره بإبطال قرار حكومي برفض اتخاذ مرسوم تنفيذي ضروري لدخول قانون حيز التنفيذ، بأمر قضائي يوجّه إلى الحكومة لإصدار المرسوم ونشره. وعند إبطال قرار برفض منح ترخيص لمواطن بالقيام بنشاط معين رغم توفر الشروط الموضوعية للحصول على الترخيص، يكون بإمكان القاضي أن يأمر الإدارة أيضاً بمنحه هذا الترخيص..”. كما يشير في المقال نفسه إلى أن استخدام سلطة الأمر أصبح شائعاً جداً وأن المتقاضين “باتوا يرون فيها وسيلة فعّالة لكي يتمّ احترام حقوقهم بشكل ملموس. كما رحّبت به الإدارة التي تتلقّى بذلك التفصيل التوجيهي للنتائج المنتظرة من القرار القضائي. وقد أصبح هو هدف المراجعة القضائية لأنه يجبر القاضي على استباق النتائج العملية لقراراته ويسمح له بفرض قوة القضية المحكوم بها بشكل أكثر صرامة”. 

وهنا أيضا نسجل تراجعا لاقتراح عدوان بالنسبة إلى اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) بحيث أنه استعاد نصّ المادة 91 من النظام الحالي (م. 311)، وإن سجل إيجابا له إدخال استثناءات على منع القاضي الإداري من توجيه أوامر إلى الإدارات العامة، في المجالات المتعلّقة “بالضرائب والرسوم والانتخابات والاستملاك والوظيفة العامة”، وكلها استثناءات غير ملحوظة في النظام الحالي.

  • إمكانيّة إقرار الغرامات الإكراهيّة:

في هذا المجال، يسجل اقتراح عدوان منحى إيجابيا لجهة توسيع إمكانيّة فرض غرامات إكراهيّة على الإدارات التي قد تتقاعس في تنفيذ القرارات القضائية الصادرة ضدها. ففي حين يجيز النظام الحالي لمجلس شورى الدولة فرض غرامات إكراهية تنفيذا لأي من قراراته، فإنه يشترط أن يحصل ذلك في مرحلة لاحقة لصدور القرار وتبعا لدعوى جديدة يقدّمها المستفيد من القرار غير المنفّذ والذي عليه الانتظار حتى انتهاء مهلة توصف بالـ”معقولة” للتنفيذ (م. 93 من النظام الحالي).

ويتحصّل المنحى الإيجابي للاقتراح هنا في حالتين:

  • الحالة الأولى المتعلّقة بقرارات وقف التنفيذ، حيث يعمد الاقتراح إلى تعزيز فعاليّتها من خلال إعطاء الهيئة الحاكمة حتى من تلقاء نفسها أن تقضي بالغرامة الإكراهيّة لضمان تنفيذها (م. 171). وهو أمر يتميّز به اقتراح عدوان عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء)،
  • الحالة الثانيّة المتعلّقة بالأحكام غير القابلة للطعن: في هذه الحالة، يجوز لمجلس شورى الدولة والمحاكم الإداريّة عندما يكون الحكم الصادر عن أي منهما غير قابل للطعن ويتضمّن موجب فعل أن يقضي تلقائيا بغرامة إكراهية لضمان تنفيذ الأحكام الصادرة عنها (م. 349). هنا يبدو اقتراح عدوان رغم أهميته متراجعا عن اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء) الذي يجيز فرض الغرامات الإكراهية لتنفيذ أي موجب، سواء كان موجب فعل أو عدم فعل. 
  • تنظيم متابعة تنفيذ القرارات الإداريّة:

على غرار اقتراح سعد (المفكرة/ ائتلاف استقلال القضاء)، يرمي اقتراح عدوان إلى تعزيز مجال تنفيذ القرارات الإدارية في اتجاهين:

  • إنشاء مكتب متابعة تنفيذ الأحكام والقرارات القضائيّة ضمن أمانة سرّ المجلس الأعلى للقضاء الإداري (م. 19). ويقوم هذا المكتب بتقديم المشورة إلى الإدارة، بناء على طلب استفسار يرد منها أو من الطرف المعني، حول سبل تنفيذ الأحكام والقرارات المشمولة بمهامه.
  • إعداد تقرير سنوي حول مهامه. يتم إدراج مضمونه ضمن التقرير السنوي الصادر عن “المجلس” تحت عنوان “متابعة تنفيذ أحكام وقرارات هيئات القضاء الإداري، وبيان حالات عدم تنفيذ القرارات والإدارات التي لم تعمد تنفيذها.

خلاصة:

هذه هي أبرز الملاحظات على الاقتراحين المقدمين والتي نأمل أن تفيد المداولات النيابية، آملين أن يصار إلى رفع السرية عن هذه المداولات تمكينا لكل مواطن من متابعتها وإثرائها أو تصويب مسارها عند الاقتضاء.

لقراءة القسم الأول من المقال

للاطلاع على اقتراح النائب جورج عدوان

للاطلاع على اقتراح النائب أسامة سعد

انشر المقال



متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، محاكم إدارية ، تشريعات وقوانين ، إقتراح قانون ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني