بتاريخ 4 نيسان 2009، تقدّمت لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وجمعية دعم المعتقلين والمنفيين اللبنانيين (سوليد) بدعويين أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، طلبا فيهما بتحديد موقع مقبرتين جماعيتين في مدافن مارمتر وفي مدافن الشهداء في حرج بيروت، تمهيدا لاتخاذ تدابير حمائية حفظا لحق ذوي المفقودين بالمعرفة. وقد استندت الدعويان على التقرير الصادر عن اللجنة الرسمية للاستقصاء عن مصير المفقودين في سنة 2000 الذي ذكر صراحة هاتين المقبرتين، وقد قدّمتا ضد مالكي المدافن المذكورة وهما تباعا مطرانية الروم الأورثوذكس في بيروت وجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في بيروت. وفي الاتجاه نفسه، تقدّمت المدعيتان بتاريخ 24-12-2009 بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة للاستحصال على نسخة كاملة عن ملف التحقيقات التي أجرتها اللجنة المذكورة في تلك الحقبة، أيضا سندا للحق بالمعرفة.
وبالطبع، اللجوء الى القضاء بعدما يقارب عقدين من انتهاء الحرب، وسلسلة طويلة من النضالات والتجمعات المدنية والمشاورات مع الحكومات المتعاقبة والقوى السياسية، أمر لافت وهو يستدعي تساؤلات عدة. فما هي الأسس القانونية التي بني هذا التحرك عليها؟ وأهم من ذلك، أي دور للقضاء في قضايا شائكة كهذه، طالما غلب بشأنها الطابع السياسي على الطابع الحقوقي؟ وللاجابة على هذه الأسئلة، قد يكون من المفيد أن نستعيد بداية وباقتضاب بعض أهم المحطات الرئيسية في مسار قضية المفقودين وذويهم تبعا لقرار اللجنة المذكورة وفي اعقابه.
فاللجنة التي شكلت بقرار من حكومة الحص تلبية لمطالب الأهالي، أنجزت مهامها ضمن مهلة ستة أشهر ووضعت في ختامها تقريرا من صفحتين فقط، أوصت بموجبه الأهالي باعلان وفاة الذين انقضى على اختفائهم أربع سنوات. واللافت أن اللجنة قد بنت توصيتها على تثبتها من وجود عدد من المقابر الجماعية على الأراضي اللبنانية، عدّدت صراحةً ثلاثا منها هي مدافن الشهداء في منطقة حرج بيروت ومدافن مار متر في الأشرفية ومدافن الانكليز في التحويطة. وهكذا، وبدل أن تضع اللجنة آلية لتحديد هوية الأشخاص الذين دفنوا في هذه المقابر، اتخذت منها ذريعة لمطالبة الأهالي باغلاق الملف، ضاربة بذلك عرض الحائط أي فرصة لتحديد مصائر المفقودين.
وازاء الانتقادات التي وجهها الأهالي ازاء توصيات اللجنة، أنشأت شكّلت حكومة الحريري (2001) هيئة جديدة هي “هيئة تلقّي شكاوى أهالي المخطوفين” تحدّدت مهمتها “بتلقّي طلبات المواطنين الراغبين في المراجعة بشأن ذويهم الذين يعتبرون انهم ما زالوا على قيد الحياة”، الاّ أنّه لم ينشر حتى اليوم رسميا أيّ تقرير عن أعمالها. وأيضاً، وفي نفس الاتجاه، لاقت اللجنة المشتركة اللبنانيّة – السوريّة لمعالجة قضيّة المفقودين والمعتقلين في السجون السوريّة -التي تشكّلت عام 2005 على أثر انسحاب الجيش السوريّ من لبنان- المصير نفسه بحيث فشلت في تحقيق أي خطوة فعلية.
وبالرغم من اعتراف البيان الوزاري لحكومة (2008) بحقّ ذوي المفقودين بالمعرفة واعتبار قضيتهم “قضية إنسانية ووطنية” تستوجب “الاهتمام والعناية اللازمين للكشف عن مصيرهم”، الاّ أنّ جميع الجهات السياسية عجزت أو بالأحرى امتنعت حتى الآن عن تسجيل أي خطوة فعلية من شأنها الاستجابة فعليا ولو بالحد الأدنى لمستلزمات هذه القضية.
وربّما تكون الخطوة الجدّية الوحيدة التي سجلّتها الدولة اللبنانية في قضية المقابر الجماعية هي قرار فتح مقبرة جماعية معزوة لزمن الوصاية السورية في اليرزة (2006)، الاّ أنها بقيت معزولة ولم تأت في اطار استراتيجية شاملة تعالج هذه القضية بشكل منهجي، ممّا أدّى الى تسييس هذه المبادرة وتجزئة قضية المفقودين في لبنان.
وانطلاقا من ذلك، بدت خطوة الأهالي في نقل قضيتهم الى منبر القضاء وكأنها محاولة لاخراجها من قبضة التجاذبات السياسية عن طريق اعادة تظهير جانبها الحقوقي. وهذا ما عبرت عنه الجمعيتان في مؤتمر عقد في 29-4-2009 في حرج بيروت للاحتفاء بالذكرى الخامسة والثلاثين لبدء الحرب. ومن أبرز الجوانب الحقوقية المطالب بها، الأمران الآتيان:
الأول، مطالبة الجهة المدعية (أي الجمعيتين) بالاعتراف بصفتيهما القانونية بمفهوم أصول المحاكمات المدنية، للتقدم بدعاوى مماثلة. وقد أدلت بحجج عدة في هذا الصدد: الأولى، أن الدعوى هي بطبيعتها جماعية، فأي مقبرة جماعية تعني بالواقع جميع المفقودين، ولا سيما في ظل غياب معلومات واضحة عن هوية الأشخاص المدفونين فيها. فكيف يعقل في هذه الحالة تحميل أحد المفقودين أو بعضهم وزر المداعاة؟ والثانية، أنهما (أي الجمعيتين) من حيث تكوينهما وتاريخهما النضالي الأكثر تمثيلا للأهالي. والواقع أن لهذا المطلب ليس فقط أهمية اجرائية، بل انعكاسات هامة على ضمان استمرارية التقاضي في هذا المجال؛
الثاني، مطالبة الجهة المدعية بتكريس حق ذوي المفقودين بالمعرفة. فالسند القانوني لمطالبة القضاء المستعجل باتخاذ تدابير حمائية للمقابر الجماعية هو وجوب ضمان حقوق ذوي المفقودين في المعرفة وصونها ازاء أي اعتداء أو تهديد. وبغياب نص صريح بتكريس حق المعرفة في هذا المجال، سعت الجهة المدعية الى المطالبة بتكريسه عن طريق الاستنباط من مجموعة من الحقوق الأساسية المكرسة في المنظومة القانونية اللبنانية.
فمن جهة أولى، يعدّ تجهيل مصير المفقودين والمخفيين تعذيباً نفسياً مستمراً لذويهم وتاليا انتهاكا لحقوقهم الناجمة عن العهد الدوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة وعن اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانيةأو المهينة. ومن جهة ثانية، يشكّل حق المعرفة حقا أساسيا لضمان “الحق في الحياة” و”الحق في التمتّع بأعلى مستوى من الصحّة الجسديّة والنفسيّة”، كذلك الحق في الانتصاف القضائي السريع والفعال.
هذا فضلا عن أن بعض الفقهاء رأوا استناداً الى نظرية استنباط المبدأ العام من مجموع النصوص والمواثيق الدولية المكرّسة على صعيد وطني، بأنّ حق المعرفة قد ارتقى خلال العقدين الأخيرين الى مستوى المبدأ العام في القانون الدولي[1].
وبنتيجة هاتين الدعويين، أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن قرارات اعدادية من شأنها أن تشكل خطوات أولى على طريق الاقرار بحق المعرفة ونبش المقابر الجماعية.
وأولى هذه القرارات القرار الآيل الى تكليف كاتب المحكمة بالانتقال الى رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال على صورة عن كامل الملف المتعلق بالتحقيق المنظم من لجنة بما فيه صورة عن التقرير الطبي الصادر عن لجنة الأطباء الشرعيين (قرار اعدادي في دعوى مار متر، تاريخ 23-10-2009). وقد سلمت أمانة مجلس الوزراء الكاتب بعض أوراق الملف فقط بحجة أن محتوياته الأخرى تتعدى اطار الدعوى التي تبقى محصورة في مدافن مار متر. وهكذا، والى جانب قرار تأليف اللجنة والتقرير الذي وضعته- وكلاهما كانا أصلاً منشورين ومتوفرين للأهالي- سلمت أمانة مجلس الوزراء الكاتب تقريرين متضاربين لطبيبين شرعيين تم تكليفهما بمعاينة العظام المستخرجة من المقابر الجماعية آنذاك. ففيما أفاد أحد الطبيبين بأن لا مجال لتحديد هوية أصحاب هذه العظام لقدم عهدها (أكثر من عشرين سنة)، أفاد الآخر أن ثمة ” امكانية لتحديد هوية أصحاب هذه العظام في حال موافقة أهالي المخطوفين باعطاء عيّنات من الدم كي يصار الى تحليلها بواسطة تقنيات الهندسة الوراثية هذا مع العلم أن مختبر الهندسة الوراثية التابع لقوى الأمن الداخلي هو في قيد الانشاء والتكوين، لذلك فان اجراء هذا التحليل في الوقت الحاضر متعذر.”
وقد أعادت أمانة مجلس الوزراء ابراز المستندات نفسها في الدعوى الثانية (دعوى مقبرة الشهداء في حرج بيروت) بعدما أفادت أن لا وجود لتقرير طبي بشأن هذه المقبرة.
وتعليقا على هذه المستندات، تمثلت ردة فعل الأهالي بالاصرار على مطالبهم التي اكتسبت بنظرهم على ضوئها مزيدا من المشروعية. ولهذه الغاية، اوضحوا أنه قد تم فعليا انشاء مختبر الهندسة الوراثية قبل أشهر قليلة[2]، مما يجعل التحاليل الجنائية ممكنة على الصعيدين العلمي والتقني. كما أبرزوا تقريرا صادرا عن منظمة “أطباء من أجل حقوق الانسان” “Physicians for Human Rights” الأميركية يثبت بأنّ الخبرات الجنائية الدولية تؤكّد بشكل قاطع امكانية التعرف على هوية أصحاب الجثث حتى بعد دفنها لأكثر من عقدين من الزمن [3].
وانطلاقا من ذلك، شهدت الدعويان المقامتان أمام القضاء المستعجل تطورات مختلفة:
ففي الدعوى الأولى (مار متر)، وبعدما رفضت مطرانية الروم الأرثوذكس في بيروت اختصاص المحكمة للنظر في قضايا المقابر التابعة للأوقاف، توافق الفريقان على تعيين لجنة من خبيرين للتثبت من مدى صحة وجود مقبرة جماعية في مدافن مار متر ولتحديد مكانها عند الاقتضاء، على أن يتم نبش المقبرة واستخراج الرفاةمنهامن دون التعرض لسلامة المدافن الموجودةأصولاً مراعاة لحرمة الموتى.وقد كرس القاضي اتفاق الفريقين بهذا الشأن. وما يزال الخبراء المكلفون يؤدون مهامهم تحت اشراف القاضي عند كتابة هذه الأسطر (شباط 2011).
بالمقابل، وازاء اصرار جمعية المقاصد على وجود التباس بين المقابر التابعة لها والمقابر المحيطة الأخرى في منطقة حرج بيروت، أصدر قاضي الأمور المستعجلة قرارا اعداديا ثانيا في دعوى مدافن الشهداء قضى ب” تعيين خبير للكشف على المدافن الأخرى الموجودة المنطقة الكائنة فيها العائدة للمدعى عليها وفي حال وجودها تحديد مكانه والجهات التي تديرها وبيان كيفية ادارتها من خلال التحقيق مع هذه الجهات وسؤالها عما اذا كانت توجد فيها مقابر جماعية أو مقابر لأشخاص غير محددة هويتهم، وذلك بعد الاطلاع على أوراق الملف كافة مع الترخيص للخبير بالاطلاع على كامل المستندات أينما وجدت وبالاستماع الى الشهود دون تحليفهم اليمين القانونية…”. وما يزال الخبير يؤدي هو الآخر مهمته حتى هذه اللحظة.
أما الدعوى التي قدمتها الجمعيتان الى مجلس شورى الدولة للحصول على نسخة عن كامل ملف تحقيقات اللجنة، فهي ما تزال في طور تبادل اللوائح. ونسجل هنا آسفين أن الدولة سعت الى التنصل من مسؤولياتها هنا أيضا: فبعدما أقرت بحق المعرفة، زعمت أن الدعوى من دون موضوع على اساس انه سبق لها وابرزت التقارير الطبية في اطار الدعويين المشار اليهما أعلاه. وبالطبع، هذا الادعاء غير منطقي، طالما أن التقارير المبرزة تبقى جزءا يسيرا من التحقيقات التي قامت بها اللجنة والتي شملت عشرات المقابر الجماعية. التقاضي الاستراتيجي: مشاركة وفعالية وخرق للجمود
مما تقدم، يسجلّ أن نقل قضية المفقودين الى منبر القضاء، أسهم حتى الآن، والى حد ما، في ايجاد اطار جديد للعمل في اتجاه تعزيز حق ذوي المفقودين بالمعرفة وبالنتيجة في اتجاه خرق الجمود الذي شهدته قضية المفقودين في لبنان. وهو من هذا المنطلق، يشكل تقاضيا استراتيجيا.
فمن جهة أولى، استفاد الأهالي من مبدأ الوجاهية الملازم للأصول القضائية للمشاركة الفعلية والمباشرة في سير التحقيقات من جهة، وهي أمور كانت مغيبة الى حد كبير في عمل اللجان التي شكّلتها حكومات الحص (1999) والحريري (2001) والسنيورة (2005) والمشار اليها أعلاه. كما أن الوجاهية تسمح للفريق صاحب المصلحة باستدعاء قدر عال من المهنية في هذا الشأن. ولادراك ذلك، يكفي مقارنة التقرير العلمي الصادر عن “أطباء من أجل حقوق الانسان” والذي يثبت امكانية التعرف على هوية الجثث عبر تقنيات حديثة ومتطورة[4]، بالتقرير الصادر عن الطبيبين الشرعيين المكلفين من قبل اللجنة.
كما نجحت الدعاوى من جهة ثانية بأن تولّددينامية بين الأطراف المباشرين فيها، فاذا عبّرت الجهتان المدعى عليهما أمام القضاء المستعجل في البداية عن استنكارهما ل “اقحامهما” في نزاع لا يعنيهما بشكل مباشر، الاّ أنهما أقرا بحق ذوي المفقودين بالمعرفة، وأكّدا على أحقية هذه القضية وضرورة وضع حد للمعاناة التي يعيشها الأهالي. وقد تدرجت مطرانية الروم الأرثوذكس في موقفها الى حد الاتفاق الحبي على تعيين لجنة خبراء لاثبات الوقائع. والواقع أنّ الجهة المدعية حرصت في جميع مراحل المحاكمة على التأكيد بعدم وجود أي نية للأهالي بمنازعة المدعى عليهما بالمعنى التقليدي للكلمة، وناشدتهما بأن تتعاونا معها لجلاء الحقيقة باعتبار أن قضية المفقودين هي قضية وطنية تعني جميع اللبنانيين. ومع تكليف خبراء محلّيين المهام التي أشرنا اليها أعلاه، سيتم اشراك أعضاء اللجان القيمين على التحقيقات السابقة، والاستماع اليهم بصفاتهم كشهود، ممّا سيؤدي حتما الى جلاء مزيد من الحقائق التي تمّ التعتيم عليها في السنوات الماضية. كما أن القرارات الصادرة وضعت أمانة مجلس الوزراء أمام أسئلة حقوقية ألزمتها بابراز عدد من المستندات.
فضلا عن ذلك، فان الدعاوى تضع القضاة أمام استحقاق الاجابة على مطالب الأهالي على اساس المنطق القانوني وحده، على نحو يتميز عن المطالبة السياسية حيث يبقى بامكان السلطات الاحجام عن الردّ أو الردّ على أساس حجج سياسية قد ترشح عن انكار الحقوق الأساسية بالكامل. وهذا ما أسهم في اصدار قرارات قضائية آلت ربما للمرة الأولى الى الاعتراف بحق المعرفة.
فهل تسهم أعمال القضاء في وضع المجتمع برمته أمام استحقاق الاعتراف بهذا الحق، بكامل مفاعيله؟ هل من شأنها أن تشكل أسبابا موجبة لتشريعات أكثر شمولية، يكون فيها للطابع الحقوقي ما يستحقه؟
[1] “قضية المفقودين وذويهم في لبنان: اقتراحات ضماناً لحق المعرفة”، تقرير من اعداد نزار صاغية ونايلة جعجع، بالتعاون مع مركز العدالة الانتقالية في لبنان، تشرين الثاني، 2008.
[3]تقرير صادر بتاريخ 15 كانون الثاني 2010عن د. أماندا سوزر، المستشارة الأولى لشؤون الحمض النووي الريبي في البرنامج الدولي للطب الشرعي التابع لمنظمة أطباء من أجل حقوق الانسان المشار اليها أعلاه، تحت عنوان “تقرير حول المقابر الجماعية وتحديد هوية الضحايا في لبنان”، غير منشور.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.