يتراءى لمن يعرف ليندا مطر، الملقبة بعميدة النضال النسوي في لبنان وأيقونته، وكأنها اختارت رحيلها. كأنما قلبها قد توقف بعدما عاشت لتشهد الوطن، الذي قضت نحو 75 عاماً من عمرها تناضل في سبيل ازدهاره وحقوق ناسه، وقد حوّلته المنظومة السياسية إلى خراب. فالسيّدة التي أنهت في 25 كانون الأول 2022 عامها السابع والتسعين، كانت ما تزال إلى وقت ليس ببعيد، تتكئ على عكّازها كي لا تفوّت نشاطاً لم تحصره يوماً بقضايا النساء، وإنما وسّعت دائرته ليستهدف وطن العدالة والمساواة والإنسان، رجالاً ونساء، وإن كانت قد منحت قضايا النساء الحيّز الأكبر من جهودها بعدما تلمّست مبكراً التمييز السلبي ضدّهن في المجتمع والدين والعمل والقانون والسياسة.
بدأ وعي ليندا مطر يتشكل من لحظة تركها المدرسة بعدما أنهت المرحلة الابتدائية المجانية بسبب عجز أهلها عن دفع أقساط المرحلة المتوسطة، واضطرارها للعمل في معمل للجوارب وهي لا تزال في الثانية عشرة من عمرها. هناك لمست التمييز ضد النساء في الأجر والدوام، فأصرّت على استكمال تعليمها في مدرسة ليلية بعدما دفعت كلفتها مما تتقاضاه، لتقفز من الطفلة العاملة وراء ماكينة الخياطة إلى مناضلة من الطراز الأول.
إثر زواجها من رجل أرمني وهي في السابعة عشرة من عمرها، تعرّفت ليندا إلى الاشتراكية عبر الدورية اليسارية التي كانت تصدر في بيروت وتضطر أن تقرأها له كونه لا يقرأ اللغة العربية. يومها أعجبت بفكر كارل ماركس وهيغل ولينين وقضت عمرها تقول إنها تؤمن بمبادئ الاشتراكية، ليس فقط بسبب انتسابها إلى الحزب الشيوعي اللبناني لاحقاً، بل لأنها تساوي كفكر “بين كل أفراد الشعب وتكويناته، بغضّ النظر عن إخفاقات التجربة العالمية”، كما أكدت في أكثر من مناسبة.
أوقفت ليندا مطر مع مناضلات أخريات خرجن إلى الشارع يطالبن بحق المرأة في الاقتراع والترشح للانتخابات النيابية. وهو حق ساهمت في انتزاعه في 1953 وتمسّكت به وهي تترشّح في استحقاقي 1996 و2000 النيابيين من خارج المحادل السياسية والاستزلام لزعماء الطوائف. فما تريده هو إثبات أن المرأة اللبنانية حاضرة وكفؤة، ولكن طبيعة النظام السياسي هي التي تستبعدها، ولا تسمح لها بدخول مجلس النواب إلا من بوابة الوراثة السياسية. نضال ترجمته ليندا مطر بحصولها على 8000 صوت في دائرة بيروت، وهي نتيجة لم تكفِها للفوز.
عندما تسلمت ليندا مطر رئاسة المجلس النسائي اللبناني في 1996 خاضتْ معركتها على جبهتين: دفع المجلس، الذي يضم 160 جمعية نسائية متنوعة وتتوزع أفقيا على المناطق والطوائف، إلى تبنّي النضال في سبيل إقرار قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، وإلغاء المداورة الطائفية في ترؤس المجلس. ورغم أنها لم تنجح في المسعييْن، حافظت ليندا مطر على علاقة ودّية وتعاون مستمرّ مع كل مكونات المجلس.
حرصت ليندا مطر وهي ترعى ثلاثة أطفال أن تعطي نموذجا للمرأة المناضلة والناشطة في المجال العام برغم مسؤولياتها العائلية. فلم تكتف بنضالها في لجنة حقوق المرأة التي عُرف عنها التزامها وجديتها في النضال فيها، بل شاركت بنحو 60 مؤتمرا عربيا وعالميا، وكتبت مقالات عدة عن النساء والمساواة والديموقراطية، واختارتها مجلة “ماري كلير” الفرنسية واحدة من “مائة سيدة يحرّكن العالم” (1995) وكانت عضوة في قيادة الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، ومنسّقة المركز الإقليمي العربي للاتحاد عينه. كما انتُخبت عضوة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان، وساهمت، من موقعها في لجنة حقوق المرأة في تأسيس اللقاء الوطني للقضاء على التمييز ضد المرأة وحقها في منح جنسيتها لأولادها، وفي تأسيس الهيئة اللبنانية لمكافحة العنف ضدّ المرأة، وكانت رأس حربة في السعي لإقرار قانون مدني للأحوال الشخصية.
تمّ منحها تباعا وسام الأرز برتبتيْ فارس وضابط في عهديْ الرئيسين إلياس الهراوي وميشال سليمان. ولكنها، من جنوب لبنان إلى شماله، ومن غربه إلى شرقه، تربعت على رأس لائحة المناضلات والمناضلين، سيدة حرة مستقلة آمنت بوطن العدالة والمساواة، بوطن خارج القيد الطائفي، وطن لا يميز بين مواطنيه لا على أساس منطقة أو دين أو جنس أو طبقة، وقضت عمرها الجميل والمثمر في خدمته.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.