وانتصرت إيلا…


2020-02-27    |   

وانتصرت إيلا…

وأخيراً بعد زهاء خمس سنوات من التحقيقات والإجراءات في قضية الطفلة إيلا طنّوس التي بُترت أطرافها الأربعة نتيجة خطأ طبي، انتصر لها القضاء. فقد أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت رلى صفير حكماً جريئاً صباح الخميس بتاريخ 27 شباط 2020، قضى بإدانة مستشفى “الجامعة الأميركية” و”الرهبانية المارونية” مالكة مستشفى “سيدة المعونات” والطبيبين عصام ومعلوف ورنا شرارة بجرائم التسبب بالإيذاء للطفلة إيلا طنوس نتيجته بتر أطرافها الأربعة. ويكاد يكون حُكماً رائداً في مجال الأخطاء الطبية في لبنان لناحية قيمة التعويضات التي تجاوزت المليار و800 مليون ليرة لبنانية كبدل عن العطل والضرر.

وقسّم الحكم المسؤوليات بين المدعى عليهم الأربعة المذكورين: فحمّل الرهبانية المارونية والطبيب معلوف ما نسبته 30% من الضرر كونهما مسؤوليْن عن المرحلة الأولى من الأخطاء الحاصلة بحق إيلا، كما حمّل المدعى عليهما الآخرين نسبة 70% من الأخطاء الطبية كونهما مسؤولين عن المرحلة الثانية. وبما يخص مستشفى “أوتيل ديو دو فرانس” وطبيبها، كفت التعقبات عنهما لناحية جرم عدم الإغاثة لعدم كفاية الدليل.

الفرحة بالحكم

لا تسع الفرحة والد إيلا حسان طنوس للتعبير عن الانتصار الذي تحقّق في قضية ابنته. هو الذي توجه ووكيله المحامي نادر عبد العزيز شافي منذ ساعات الصباح الأولى إلى عدلية بيروت ليحصلوا على الحكم. يقف أمام مدخل قصر العدل وهاتفه لا يهدأ من اتصالات المهنئين التي انهالت عليه عندما نشر الخبر على فيسبوك عند الساعة الثامنة صباحاً. يلتقط أنفاسه ليتكلم فيُقاطعه اتصال آخر من أحد المهنئين. فبعد 5 سنوات من حضور الجلسات أمام القضاء، لا بدّ أن يتنفس أخيراً. هو الذي لم يغب عن أية جلسة، وواظب على الالتزام بتقديم المستندات كافة للمحكمة، ثابر على الاستمرار أمام كافة أشكال الضغوط التي تُمارس عليه، في محاولة لثنيه وزوجته إيليانا عن الاستمرار.

في المنشور الذي نشره صبيحة الخميس على صفحة “Ella” على فيسبوك يقول طنوس: “انتصر الحق على الباطل، انتهى فيه الزمن الذي تدفن معه الأخطاء الطبية وتفرض فيه التسويات المادية المذّلة بدون حساب، رَفَضنا المساومة وقررنا المواجهة متكلين على الله لا سواه وانتصرنا باسمه”.

يستقبل الأسئلة بالابتسامة، وإن كان لا يخفي أن لديه بعض التحفظات على الحكم، لكنه متأكد أن هذا الحكم “هو سابقة في لبنان”، ويقول: “إنه حكم جريء”. ومن ثم يرى من الضروري الإشادة بالقاضية صفير على جرأتها في اتخاذ هكذا أحكام بوجه ذوي النفوذ، أي مستشفى الجامعة الأميركية والرهبانية المارونية. والحال أن عائلة إيلا تمكنت بكل ما لديها من قوة من خوض هذه المعركة، ولم تستلم أمام التسويات للتنازل عن الدعوى، أو أمام النفوذ الذي تتمتع به المستشفيات المدعى عليها، وحتى أمام الحصانات التي يتمتع بها الأطباء. وكلما استخدم الخصوم وسائلهم للمماطلة زادت العائلة تمسكها بالقضية. وفي كُل مرة يُصّرح حسان طنوس للإعلام يُذكر أن قضية إيلا هي قضية كل ضحايا الأخطاء الطبية.

يُتابع الوالد السعيد كلامه بالتأكيد على أنه “لا يوجد أي شيء يعوض لابنتي ما خسرته، إنما أثبتنا بهذه المعركة أنّ لا أحد فوق القانون، الأخطاء الطبية والأطباء والمستشفيات ليسوا فوق القانون”. ويعود إلى العام 2015 حين تقدم بشكوى إلى نقابة الأطباء ليطلب اتخاذ الإجراءات المسلكية بحق من أخطأوا بحق ابنته. حينها، طلب أن تتخذ النقابة الإجراءات المناسبة؛ لكنها تذرعت بأن “الجزاء يعقل الحقوق”، أي أنها ستنتظر القضاء العدلي ليأخذ مجراه قبل أن تتصرف. وهذا ما نفاه وكيله المحامي شافي الذي أكد لـ “المفكرة” أن لا علاقة بين العقوبات المسلكية والقضاء الجزائي. ويعتبر شافي أن “الإجراءات المسلكية التي تتخذها نقابة الأطباء من شأنها أن ترد الاعتبار المعنوي إلى المتضرر، لأن الهدف من العقوبة أساساً هو الردع”.

في هذا الصدد، يقول طنوس بأنه على “نقابة الأطباء اليوم أن تأخذ بأقل الأحوال الإجراءات المسلكية ولا تنتظر القضاء”، مشيراً إلى أن المفارقة تكمن في أن “نقيب الأطباء الحالي الدكتور شرف أبو شرف هو نفسه رئيس لجنة التحقيق التي كلفها القضاء التحقيق بملف إيلا وهو الذي حمّل المستشفيين المدانتين والطبيبين معلوف وشرارة مسؤولية ما حصل لابنتي”.

والد إيلا كان قبل أيام من صدور الحكم يُصرّح عن ثقته في القضاء اللبناني وأكد أمام “المفكرة” أنه واثق أن القاضية صفير سوف تنصف ابنته. لدى سؤاله عما إذا كان الحكم يوازي تطلعاته يقول: “قد يكون لدينا تحفظات على الحكم، لناحية أن العقوبات التي تكبدها الأطباء تكاد لا تكون قاسية كفاية لردع هذا النوع من الأخطاء”، ويُضيف، “لكن ما أنا متأكد منه أن هذا الحكم جريء في مقارنته مع ما يواجه ضحايا الأخطاء الطبية في لبنان”. من جهته، يرى المحامي شافي أن هذا الحكم هو “بداية، لأنه بالتأكيد سنواجه استئنافاً من الجهات المدانة”.

الحكم المؤلف من 46 صفحة، يُفصّل الأحداث منذ اليوم الأول بتاريخ 24 شباط 2015 حيث بدأت ترتفع حرارة الطفلة إيلا وعمرها ثمانية أشهر، وكل الأحداث التي أعقبت ذلك التاريخ بين عائلة الطفلة والطبيب عصام معلوف ومستشفى المعونات ومالكتها الرهبانية المارونية، وبعد انتقالها إلى “أوتيل ديو” وأخيراً إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث أُجريت لها عملية بتر الأطراف. وينظر الحكم في كافة الأخطاء التي حصلت في مستشفيي المعونات والأميركية، فيحمّل 30% من المسؤولية للطبيب عصام معلوف والرهبانية المارونية بصفتها مالكة مستشفى المعونات كونهما مسؤولين بالتضامن فيما بينهما عن المرحلة الأولى من الأخطاء الحاصلة، و70% من الأخطاء إلى مستشفى الجامعة الأميركية والطبيبة رنا شرارة كونهما مسؤولتان عن المرحلة الثانية من الأخطاء. وقد دان الحكم المدعى عليهم بمقتضى المادة 565 من قانون العقوبات. ويعزو الحكم هذا التوزيع بالنسب بين المستشفيين إلى أنّ الصلة السببية بين أخطاء المدعى عليهم الأربعة وبين النتيجة الجرمية المتحققة والمتمثلة بإيذاء الطفلة إيلا لم تنقطع بفعل اجتماع أسباب عدة ساهمت في إحداث النتيجة.

التعويضات المادية: سابقة قضائية

من اللافت في هذا الحكم أن التعويضات المادية عن الأضرار المعنوية والجسدية والمالية التي ألزمها الحكم للمدعى عليهم الأربعة قد تكون الأعلى في تاريخ القضاء. فقد أخذت القاضية صفير بالحسبان “…المعاناة الجسدية والألم النفسي والعاطفي لدى المتضرر والحرمان من أداء حاجاته اليومية العادية”. وشملت بالتعويضات “النفقات الاستشفائية والعلاج من جهة والتكاليف المرتبطة بالحد من الاستقلالية من جهة أخرى”. وأخذت المحكمة في الاعتبار عوامل عدة لتحديد التعويضات، أبرزها: “سن المتضرر بتاريخ الإصابة وتاريخ الحكم، جسامة الإصابة، سبل المعالجة ووتيرتها ومدتها وكلفتها، نوعية المساعدة البشرية اللازمة، ونوعية المعدات اللازمة لتسيير الشؤون اليومية للمتضرر…”. لذا، تشرح القاضية صفير أنه في حالة الطفلة إيلا، “الإيذاء اللاحق بالطفلة جراء أخطاء المدانين الأربعة، هو إيذاء تمثل ببتر أطراف الطفلة وأدى إلى إصابتها بأعطال دائمة غير قابلة للشفاء”. وتتابع القاضية صفير، “نتج عن الإيذاء، حرمانها من طفولتها ومن ممارسة أبسط الحقوق الملازمة لحياة الإنسان والتي لا يُمكن حصرها أو تعدادها، وما نتج وسوف ينتج من عناء وألم وحزن وقلق وخيبة بسبب تلك الحالة وتبعاتها على حياتها الخاصة، وما سوف تتكبده مستقبلاً من تكاليف مادية حتمية لتوفير التجهيزات والمعدات الضرورية ولتوفير المساعدة البشرية المتخصصة والمستمرة….”.

وبناء عليه، خلص الحكم إلى إلزام مستشفى المعونات والأميركية والطبيبين المدعى عليهما بأن يدفعا مبلغ “مليار و800 مليون ليرة” بدل وعطل وضرر للطفلة إيلا طنوس، و300 مليون ليرة لوالدي إيلا حسان طنوس واليانا جريج، بالإضافة إلى التعويض للأخيرين مبلغ 30 مليون و406 ألف ليرة و44 ألف و356 يورو على سبيل الردود (تعويض عن المبالغ التي تكبدتها العائلة لعلاج طفلتيهما).

ويُشار إلى أن الحكم دان الطبيب معلوف بالحبس لمدة شهرين ومن ثم الاكتفاء، تخفيفاً، بمدة توقيفه. وبإدانة الطبيبة شرارة بالحبس شهرين أيضاً واستبدال العقوبة بغرامة مليوني ليرة لبنانية، وتغريم “الرهبانية المارونية” مالكة مستشفى “سيدة المعونات” في جبيل بغرامة مليوني ليرة، وتغريم الجامعة الأميركية بغرامة ثلاثة ملايين ليرة.

وعزت القاضية صفير الأخطاء المرتكبة في مستشفى سيدة المعونات استناداً إلى تقرير لجنة التحقيقات المهنية لدى نقابة الأطباء وتقرير اللجنة الطبية المعينة، واللذين أظهرا أن إيلا لم تتلقّ العناية الطبية اللازمة خلال فترة تواجدها فيها، وذلك بسبب عدم تقدير خطورة حالتها من قبل الطبيب معلوف انطلاقاً من المعلومات التي أُفيد بها من فريق الطبي في مستشفى المعونات أثناء غيابه. وقد خلصت في هذه الفقرة إلى التأكيد أنه من الثابت أن تلك الأخطاء ساهمت في التسبب في النتيجة الحاصلة والمتمثلة ببتر أجزاء بليغة من أطراف الطفلة. وانطلاقاً من هذه العناصر ويُضاف إليها التناقض بتصريح الطبيب لناحية أنه وقع على تقرير يخص الطفلة قبل نقلها من المعونات مشيراً فيه إلى احتمال إصابتها بالصدمة الانتانية ثم تصريحه في التحقيق أنه لم يشك في أنها مصابة بها مبرراً عدم إخضاعها لفحوصات بهذا الخصوص.

أما مسؤولية مستشفى الجامعة الأميركية فنتجت عن إعطائها كميات كبيرة من السوائل قبل إزالة فوائض السوائل في جسمها، واستخدام مطوّل لجرعات عالية من رافعات الضغط لمدة 6 أيام بالرغم من أن تخطيط صدى القلب أظهر أداء طبيعياً لوظيفة البطينين، واعتبرت أن “مقويات التقلص العضلي التي أُعطيت للطفلة كان من الأجدى إيقافها في وقت أبكر لما لها من تأثيرات جانبية واحتمال إصابة الطفلة بغرغرينا الأطراف…”. ويُشار إلى أن الحكم لفت إلى أن إرسال الفحوصات إلى مختبرات ألمانيا بعد ظهور علامات غرغرينا الأطراف وذلك لتحديد نوع البكتيريا التي أصابت إيلا، أدى إلى الانتظار زهاء أسبوع للحصول على نتائجها، وهو ما كان بالإمكان تفاديه والاستعانة بمختبرات محلية.

القانون فوق الحصانات والنفوذ

يُلاحظ أن المعركة التي خاضتها عائلة إيلا بوجه نقابة الأطباء في بيروت كانت أساسية لتقويض حصانات الأطباء والمستشفيات. فبالعودة إلى العام 2015، كانت نقابة الأطباء أصدرت تقريراً في قضية إيلا في بادئ الأمر جاء فيه أن “الطبيب لم يحضر ساعة دخولها (ايلا) إلى المستشفى وبالتالي لم يجرِ تقدير خطورة الحالة”. وحينها اجتمع مجلس نقابة الأطباء في 2 حزيران، وقرر عدم إحالة الطبيب إلى المجلس التأديبي. ولكن بناء على الدعوى الجزائية المقدمة بحقه، استدعي الطبيب في اليوم التالي إلى التحقيق الذي تم بحضور ممثل عن نقابة الأطباء أمام النيابة العامة التمييزية وقد انتهى بتوقيف الطبيب بعدما كشف القاضي أن معلوف اعترف بالخطأ في تقدير الوضع الطبي للطفلة إيلا.

وما حصل حينها، أن الأطباء في لبنان قرروا الإضراب المفتوح إلى حين إخلاء سبيل الطبيب، في مشهد يوصف بالقفزة فوق الوضع الإنساني الذي حلّ بالطفلة إيلا. ومن هذا المنطلق، شكل هذا الحكم انتصاراً معنوياً لضحايا الأخطاء الطبية الذين لطالما اصطدموا بالحصانات التي يتمتع بها الأطباء بغض النظر عن ارتكابهم للأخطاء الطبية من عدمه.

وهنا، لا بُد من مقارنة هذه القضية بقضية أخرى لا تقل أهمية عنها وهي قضية الطفلة صوفي مشلب التي تعاني من شلل دائم نتيجة ما يراه ذووها خطأ طبياً. وقد نجح ذوو صوفي مؤخراً في استصدار قرار ظني بحق نقيب الأطباء السابق ريمون الصايغ ورئيسة لجنة التحقيقات في النقابة كلود سمعان على خلفية “تزوير” التقرير الطبي. ومن المفترض أن يشكل حكم ايلا طنوس بارقة أمل لعائلة صوفي التي تعتبر أن ما حصل لابنتهم نتيجة أخطاء طبية موثقة بالتقارير والمستندات العلمية.

في كلا الحالتين، يُشهد لعائلتي الطفلتين أنهما تخوضان نيابة عن كثيرين نضالات كبيرة في أروقة المحاكم بهدف إخضاع الخطأ الطبي للمحاسبة ولإسقاط الهالات الوهمية عن ذوي النفوذ.

مقالات ذات صلة بقضية إيلا:

قضيتا إيلا وصوفي تنتظران التقارير: لا آليات رقابة فاعلة على عمل المستشفيات

قضية الصغيرة إيلا على عتبة القرار الظني: سنتان من العناء والانتظار

قضية إيلا طنوس: القرار الظني صدر، والعائلة راضية

جلسة استجواب الأطباء في قضية الطفلة إيلا… روايات لا تلغي الضرر

تقارير طبية جديدة في قضية الطفلة إيلا طنوس: والدعوى تتجه لإكمال سنتها الرابعة

والدة إيلا طنوس تنفعل وتضعها على مكتب القاضي: انظروا بعين الإنسانية إلى ابنتي

تأجيل دعوى إيلا طنوس: تشديد على حضور شهود من اللجنة الطبية

“إيلا” و”صوفي” في معركة واحدة: مرافعة في قضية الخطأ الطبي

مرافعة مؤثرّة في قضية بتر أطراف الطفلة إيلا أمام محكمة بيروت: “ابنتي تقول إنها ستكبر وسيكون لها يدان ورجلان

العدالة مؤجلة في قضية إيلا طنوس.. القاضي يفتح المحاكمة من جديد ويتنحى

 بعد تنحي القاضي تقي الدين، القاضية صفير تتولى النظر في قضية إيلا طنوس

انشر المقال



متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني