هِجرة “الكَفاءَات”: الوَجه الآخر للقصّة


2024-08-28    |   

هِجرة “الكَفاءَات”: الوَجه الآخر للقصّة
رسم عثمان سلمي

“قاتِمَة مَدينة مرسيليا عند الغروب، ولا فتَيات شَقراوات هناك يلوَحّنَ لنا بمناديلهن. هناك الهيئات الغامضة للجزائريين والأفارقة الذين يُوقّعون قتامة المساء بخطواتهم الثقيلة المترنّحَة على الأرصفة، كما لو كانوا يسيرون داخل حلم ثقيل. والشارع الذي يَصعد بملل من الميناء باتجاه محطَة الأرتال يبدو كئيبا لا تزيده الخطوات البطيئة لعجوز متقوَس وراء كلب صغير إلَا تجهَما”. [1]

تتَوالى منذ سنوات أرقام بالآلاف حول عدد المهاجرين من مهندسين، أطباء، تقنيين من مهنيي الصحة وتكنولوجيات المعلومات وغيرهم نحو دول الشمال بالخصوص، أين تستقطب البلدان الأوروبية النصيب الأكبر منهم. تقارير من هنا وهناك تَبحث في أسباب هجرة “الكفاءات” بين الرّفاه الموعود في أوروبا وتدهور الأوضاع الاجتماعية في البلدان “المُنفَرة”، ومدى قدرة الأسواق التشغيلية على استيعاب هؤلاء، إلى غير ذلك، والنتيجة واحدة: نزيف مستمر. ولا يبدو أن هناك، على الأقل في الأفق القريب، أي “ضمَّادَات” فعلية لهذا النزيف. عادة ما تُغفِل هذه التقارير الجزء الآخر للقصة: أي الأيام والسنوات الأولى للمهاجر في بلد الاستقبال، أين تبدأ رحلة أخرى من الإجراءات الإدارية والاجتماعية، رحلة الاندماج ومعركة ضمان البقاء في “النعيم” الأوروبي، وما يَصحبها من ضغوطات نفسية حادة يمرَ بها هؤلاء “المهاجرون النظاميون” .

دوّامة الإجراءات

وفق عمادة المهندسين في تونس، يُهاجر سنويا حوالي 6500 مهندس نحو البلدان ذات الدخل العالي، أي نحو أوروبا الغربية بالأساس وأميركا الشمالية والخليج العربي. بالإضافة إلى ذلك هاجر نحو 4000 طبيب آخر بين 2020 و2024 وفق ما جاء في دراسة للمعهد العالي للدراسات الاستراتيجية[2]. وهناك أرقام كثيرة  تبقى وفق تقديرنا أقلّ من الحقيقة، باعتبار أن مصدرها عادة ما يكون وكالات التعاون الفني الرسمية. ومع ثورة التكنولوجيا أصبحَت هناك طرق أخرى فردية للهجرة عن طريق منصّات على غرار لينكد إن linkedin وإنديد indeed. وبينما تُطرح منذ سنوات أسئلة استنكارية حول أسباب الهجرة وسُبل الحد منها، يتعرَض هؤلاء المهاجرون “النظاميون” إلى ضغوطات إجرائية ونفسية حادة أثناء معركة البقاء في نعيم الصقيع الأوروبي، والعبارة للطيب الصالح في رائعته موسم الهجرة إلى الشمال: “أنا جنوب يحنّ إلى الشمال والصقيع”.[3]

منذ إعلان إشارة فكّ الأحزِمة بعد هبوط الطائرة تَنطلق رحلة أخرى: رحلة الاندماج. أولاّ يجب على المهاجر أن يكون له عنوان قارّ مُثبَت بعقد على الأقل وحسب فاتورة في بعض الحالات، ليتمكّن من فَتح حساب بنكي، والتّسجيل في مكاتب إدماج المهاجرين: OFII بالنسبة لفرنسا[4] وAusländerbehörde  بالنسبة لألمانيا، وغيرها من مكاتب الإدماج في مختلف بلدان الاستقبال. الحصول على غرفة أو شقّة للكراء في حد ذاته مُعضلة قد تَستمرّ لأشهر بالنسبة للمهاجرين بصفة عامة، وبصفة خاصة في المدن الأوروبية الكبرى على غرار باريس وبرلين وفرانكفوت وليون، إلخ. يَشترط المُلاَّك أو الوكالات العقارية عدة ضمانات؛ كعقد العمل وكشف بثلاثة مرتبات مُتتالية. هذا فقط لقُبول الملفّ وقبل الشّروع في القيام بزيارات ومقابَلَة المُلاّك الذين لهم أيضا شروطهم الخاصة لقبول المكترِي. ثم مرحلة التسجيل في مكتب الضّمان الاجتماعي التي قد تَستغرق أشهرا في باريس مثلا. هناك أيضا إجراءات أخرى للمهن الطبية وشبه الطبية مثل ضرورة اجتياز عدة اختبارات أخرى على غرار إتقان اللغة بسلاسة (مستوى B2 على الأقل) والمعادلة العلمية للحصول على ترخيص مزاولة المهنة.

الغياب المزدوَج وهاجس البقاء

يُهاجر عادة المهندسون في شكل مستشارين “Consultants”، بمعنى محترفين في مجالات محددة، للقيام بمهام محددة في سياق زمني محدد. يَقع انتدابهم من قبَل مُسدي خدمات أو شركات مناولة، بعقود عمل غير محددة (CDI). بهذه العقود يستطيع المهندسون الحصول على تأشيرة سَفر للعمل لمدة سنة كاملة. الفكرة هي ببساطة؛ يقوم مُسدو الخدمات بعمليات تسويق مهارات هؤلاء الخبراء لدى شركات كبرى تُجنب الانتداب المباشر وتُفضّل المرور عبر وسطاء، مما يعفيها من المسؤولية الاجتماعية للانتداب الداخلي أو المباشر. ومن أجل وظيفة ما مثلا في تطوير صفحات الوَاب، يقوم الوسطاء بعرض مجموعة من السير الذاتية لهؤلاء المستشارين- المهندسين، لعل أحدها يحظى باهتمام الشركة- الحريف، لاقتناء خدمات هذا المستشار عبر عقد مناولة يوقعه مع مُسدي الخدمات. هذا هو النموذج الاقتصادي Business Model لمكاتب إسداء الخدمات، حيث يتحوَل هؤلاء المستشارين، الذين حظوا بتكوين عمومي وخبرة سنوات في الصناعة أو الاقتصاد التونسي، إلى بضائع ومنتوجات للمناولة في السوق الأوروبية، خاضعين لسوق العرض والطلب. طبعا يمكن فَسخ العقد خلال الفترة التجريبية لسبب أو لآخر: كعدم إقناع الحريف بخبرة المستشار ما يعني أنه “منتُوج” غير قابل للبيع، أو بسبب بعض التوتّر البادي أثناء المُقابلة، أو حتّى عندما يتمّ الظفر بحريف قد يقع أيضا إنهاء العقد بسبب عدم القدرة على الإندماج السريع مثلا وغيرها من الأسباب كثيرة.

“أنا أسميّها جلب الأدمغة وليست هجرة”، هكذا أجابنا الباحث في علم النفس وائل قرناوي، والذي أوضح قائلا: “تَقع عملية تخفيض تصنيفي اجتماعي Déclassement Social للمهاجرين من ذوي الكفاءات أو العمّال المَهرَة من طرف أرباب العمل الأوروبيين، وإيهامهم بأنهم انتقلوا إلى مرتبة معيشية  أحسن بفضلهم، أي أرباب العمل، وعليهم العمل بجدّ للمحافظة على هذا الامتياز. من هنا تقع عملية تليين أو تطويع الجسد، حسب نظرية ميشال فوكو، ومعاملتهم كقوة عمل تؤدي مهام تقنية ذات مردودية مالية للشركات وضرائب الدولة، لا أكثر”.

يُهاجر التونسيون من ذوي الخبرات عبر عقود عمل غير محددة CDI، لكن بتأشيرات مَحدودة صالحة لسنة واحدة. ومن أجل مواصلة العمل يجب على هؤلاء الحصول على بطاقات إقامة طويلة الأمد، سنة أخرى أو أربعة سنوات، بالإضافة إلى شروط إجرائية أخرى كالوضعية الجبائية وكشف الرواتب والوضعية السكنية. تَخضع كذلك عملية التجديد إلى المزاج “السياسي” للإدارة المحلية أو الجهوية في بلد الاستقبال. “أثناء عملي الميداني، تعرَفت إلى مئات الأطباء من مهاجرين من دون بطاقات إقامة، وهذا الموضوع لا يقع التطرَق إليه نظرا للنظرة السائدة حول الحظوة الاجتماعية التي يحظى بها الأطباء في تونس، وبالتالي ليس سهلا عليهم الإقرار بوضعهم الاجتماعي الصعب في الخارج”، يضيف وائل قرناوي.

في السياق نفسه، تقول منال (28 سنة)، وهي طبيبة غير مقيمة في باريس، في تصريح للمفكرة: “يُمكن الترشّح لاجتياز امتحان المعادلة من تونس، لكن أكثر الذين أعرِفُهم يَرغبون في اجتيازِه هنا في فرنسا، يُهاجرون في إطار تربّصات، ويتقاضُون مِنح تربّص أقلّ حتى من الطلبة رغم أنهم أطباء مزاولون في تونس. ذلك أفضل لأن التربص داخل المستشفيات الفرنسية يُساعِد في التحضير لامتحان المعادلة. نظريا، بعد اجتياز المعادلة بنجاح يقَع توجيه الناجحين الأجانب إلى مستشفيات للقيام بتربّص آخر لمدة سنتين، وبعدها يقع الامتحان من قبل لجنة للنظر في إمكانية مزاولة المهنة. لكن على أرض الواقع يُمكن أن تَطُول فترة الانتظار سنوات. في أثناء ذلك، على الطبيب أن يبقى في وضع متربّص حتى يتمكّن من بطاقة الإقامة. أعرف الكثير من الزملاء بلا إقامة منتظرين الظفر بموعد مع اللجنة التي قد تطلب أيضا تربصا آخر بستة أشهر أو سنة”.

عند طلب بطاقة إقامة، يتمّ تقييم الفترة المقضاة قبل الطلب من طرف السلطة المحلية، كما يقع التثبت من عدد الأيام المقضاة خارج البلاد، ومدى تواتر الزيارات نحو البلد الأصلي، وهل هناك أي نشاط سياسي أو نقابي لطالب الإقامة، وكل هذا ينضوي في إطار سياسة “تطويع الجسد ” ومدى أهلية هذا الجسد للاندماج، مثلما أشار إلى ذلك سابقا الباحث في علم النفس وائل قرناوي.

ضغوط نفسية بالجملة

يُحدّد القانون الفرنسي مدة تتراوح بين 4 أشهر و9 أشهر للإجابة على طلب بطاقة الإقامة، حسب طبيعة الطلب (عمل، دراسة، ضمّ عائلي…). لكن على أرض الواقع هناك معاناة أخرى. في نص نشرته جمعية لاسيماد La Cimade التي تُعنىَ بحقوق اللاجئين جَمعَت فيه شهادات عينية، أشارت إلى أن المدة قد تتجاوز الآجال القانونية القصوى بأسابيع أو أشهر، ناهيك عن الوضعية الهشة التي يُصبح فيها طالب الإقامة، ويتمثَل أوَلها في حرمان آلي من حق العمل، إذ يقع تجميد عقد العمل نتيجة انتهاء صلاحية بطاقة الإقامة، وفي انتظار الحصول على البطاقة الجديدة قد يَقع إلغاء العقد بتعلَات مختلفة أقلها اقتصادي.

“عند انتهاء البطاقة القديمة وطلب بطاقة جديدة، قانونيا يقع تمكين طالب الإقامة من بطاقة إقامة وقتية Récépissé تُمكّن حاملها من السفر والعمل إلى حين الحصول على البطاقة الرسمية. لكن تكمن المعضلة أولا في الحصول على موعد للتجديد الذي قد يستمرّ أياما من الترقّب والانتظار أمام شاشة الحاسوب، وإذا ما حالفكَ الحظ وتحصّلتَ على موعد يبدأ الصراع للحصول على بطاقة وقتية، وهذا مرتبط أساسا بمزاج الإدارة La Préfecture، حيث لا يجيب الموظفون عادة على الهاتف والإيميل، وإذا ما توجّهت إلى عنوانهم يتعلَلون بأن المطلوب انتظار الموعد من “السيستام”؛ هكذا صرّحت شيماء (29 سنة)، مُطوّرة برامج تونسية مُقيمة في باريس، في شهادة أدلَت بها للمفكرة القانونية. 

وعلى عكس ما يعتقد البعض، هذه الإجراءات ليست وليدة صعود موجة اليمين المتطرَف. بل هي سيّاسات ممتدّة على مدى عقود أو أجيال، مثلما يظهر في نصوص المفكر الجزائري في علم الاجتماع عبد المالك صيَاد (1933ـ1998)، حيث يتحدّث في كتابه “غياب مزدوج La Double Absence” عن الحياتين اللتين يعيشهما المهاجر بين موطنه الأصلي ومحاولة الاندماج والتّماهي قدر المستطاع مع ثقافة بلد الاستقبال وسياساته، وضرورة حفاظه على هويته الأصليّة واستطالة إقامته في المهجر للعمل وتوفير السيولة المالية لعائلته في “البْلاَد”، مَا يُحوَله إلى العيش بين عالمين مختلفين عنوانهما الكبير “المؤقت الدائم”، وهو ما عمَّقته أكثر وسائل الاتّصال الافتراضي عبر الاتصالات اليومية مع الأهل والأقارب ومتابعة أخبارهم وأخبار الوطن لحظة بلحظة، ما يجعل الحضور الجسماني في جهة والفؤاد والوجدان في جهة أخرى.

“باريس رمادية ومليئة بالحمَام”، هكذا قال عنها الروائي والفيلسوف الفرنسي ألبير كامي. ومع انتشار وسائل التواصل و”الانفتاح” الافتراضي أُضِيفت إليها قُيود التنقّل التي تَفرضها السياسات الهجرية على بلدان العالم الثالث، والتي تُكَثّف مؤخرا شعور الخوف من البقاء خارج الأحداث “Fear of Missing out”، بمعنى هناك شعور بالخوف المتنامي لدى شباب العالم الثالث من “التخلف عن ركب الحضارة”؛ قَلق من عدم تحسّن أوضاعهم المادية في الوقت المناسب، والخوف من عدم المشاركة في حفلات، رحلات، السّفر، الاكتشاف، وعدم الحصول على شهادة ما، عمل ما، إلى غير ذلك من الفُرَص المُغريَة التي يَطرحها الشمال. تجتَمِع هذه الهواجس لتُشكّل ما عبرّ عنه وائل قرناوي بـ”ذُهَال الإجراءات”، إضافة إلى جملة من الضّغوطَات النفسية الأخرى التي لها أثر اجتماعي كخلق “جدران العزل”، والعبارة للباحث في العلوم الاجتماعية خالد التبابي، الذي صرَّح للمفكرة القانونية: “تخلق هذه الوضعية حالات يأس واكتئاب وإحباط، كما أن هناك جانب ثقافي متعلق بالتقسيمات المجالية العنصرية، ليس بمفهومها الهندسي فقط بل ببُعدها النفسي وما يَصحبه من تداعيات سلبية صحية واجتماعية”.

عنصرية مؤسساتية

تؤكّد شَهادات وبيانات مواقع الجمعيات الحقوقية التي تُعنَى بحقوق المهاجرين وجود شبه استحالة في الحصول على موعد إلكتروني من أجل تجديد طلب إقامة في بعض ولايات دول الاستقبال. يَنصح الناشطون المهاجرون في هذه الحالات بإثبات عدم تجاوب الإدارة عبر بعث رسالة مضمونة الوصول في حال تجاوز الآجال القانونية وانتظار آجال الردّ القانونية قبل الشروع في التقاضي. تواتر الشهادات عبر مواقع هذه الجمعيات يؤكد أن هناك صعوبات جدية في الحصول على هذا الموعد، الذي تحوَل إلى حلم ثانٍ بعد حلم الحصول على موعد التأشيرة. “يقع تصدير التعقيدات والمشاكل السياسية إلى المستوى التقني، مما يضفي صبغة تقنية على الإشكالية، كنوع من الذريعة والتحجج ووجه جديد للعنصرية المؤسساتية”. هكذا وَصفَ القرناوي معضلة استحالة الحصول على الموعد. ويرى محدثنا أيضا أن الاندماج في دول الاستقبال تَحوَلَ إلى ضرب من “البيعة”، بيعَة للنظام ورموزه وسياساته وثقافته إلى آخره.

من جهة أخرى، يقول الباحث في علم الإجتماع، خالد الدبابي: “ملفّ الهجرة صَار أكثر ملف سياسي خلافي مُحدِّد في الانتخابات في بلدان الشمال عموما، وهو ما رأينَاه مؤخرًا سواء بصعود اليمين في البرلمان الأوروبي، أو صُعود اليسار في الانتخابات الفرنسية الأخيرة نتيجَة تحشيد خطابي وتحالف سياسي يساري ضد السياسات الهجرية العنصرية النيوكوليانية”.

في الأثناء سيَتواصل نزيف الحبر وهطول الكلمات حول موضوع الهجرة، بل ستتعمّق أكثر مع سياسات تصدير الحدود نحو الجنوب التي تُبشّر بها القوى اليمينية الصاعدة في أوروبا والشمال السياسي عموما.


[1] علي مصباح. سان دني، ط1، بيروت: منشورات الجمل، 2015، ص: 5.

[2] رابط الدراسة: ITES | Actualité

[3] الطيب صالح. موسم الهجرة إلى الشمال، ط14، بيروت: دار العودة، 1987.  

[4] Office français de l’immigration et de l’intégration.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني