يشهد الفضاء القضائي في بيروت في الآونة الأخيرة مواجهة بالغة الأهمية تتمحور حول دور هيئة القضايا ومدى استقلاليتها في الدفاع عن مصالح الدولة. المواجهة باشرتها هيئة القضايا حين بادرت إلى التدخّل في قضية ملاحقة رياض سلامة ورفاقه حماية لمصالح الدولة ونيابة عنها، من دون انتظار الضوء الأخضر من وزير المالية يوسف خليل (صاحب الوصاية على مصرف لبنان). وإذ وثقت المفكرة القانونية خطوة هيئة القضايا تلك تحت عنوان “أبعدمنقضيةرياضسلامة، هيئةالقضاياتعلناستقلالهافيالذودعنالدولة“، أثنت على توجهها الجديد، معتبرةأن إعلاناستقلاليّتها في هذه المرحلة بالذات يرشح عن أهميّة فائقة على صعيد ملاحقة جرائم الإثراء غير المشروع أو المطالبة باسترداد الأموال المنهوبة، طالما أنه يحررها من الحسابات السياسية للوزراء المعنيين، وبخاصة في ظلّ تورّط غالبية القوى السياسية في أعمال الفساد الحاصلة خلال العقود الثلاثة الماضية. وبفعل موقفها هذا، فاجأت هيئة القضايا الجميع في تدخّلها نيابة عن الدولة في الدعويين المقامتين ضد سلامة ورفاقه أمام قضاء التحقيق في بيروت وأمام الجهات القضائية في فرنسا. وفي حين سارع محامو رياض سلامة إلى الطعن بصفة الهيئة في الدعوييْن على خلفيّة أنها تحرّكت من دون طلب صريح من وزارة المالية مطالبين بإبطال تدخّلها نيابة عن الدولة، بلغت المواجهة درجة مريبة مع تبنّي ممثل النيابة العامة في بيروت القاضي رجا حاموش موقفا مماثلا لموقف سلامة في مطالعته أمام قاضي التحقيق.
وما يثير الاستغراب والريبة هو أن النيابة العامة كانت قد ادّعت بشخص رجا حاموش نفسه ضد سلامة ورفاقه بجرائم تبييض الأموال والإثراء غير المشروع بعدما تحققت طوال سنتين من شبهات ارتكابها، بمعنى أن النيابة العامة اعتبرت أن من واجبها التحرك ضد سلامة حماية للحق العام من دون أن تجد حرجا في إنكار حق التحرك لهيئة القضايا دفاعا عن حقوق الدولة وتحديدا بهدف استرداد ما قد يكون قد استولى عليه بصورة غير شرعية. ولا يمكن تفسير هذا الموقف إلا على أنه يعكس أمرا من أمرين أو ربما كليهما: (1) إرادة النيابة العامة في التحكّم في مسار هذه الدعوى وفق ما تراه ملائما، بمعنى أنه يكون لها وحدها دون سواها (الدولة) بعد استبعاد هيئة القضايا صفة تقديم الطلبات إلى قضاء التحقيق على اختلافها أو استئناف ما قد يصدره من قرارات، وتاليا صفة الإقبال أو الإدبار في هذه الدعوى، (2) إرادة النيابة العامة في حماية مصالح القوى السياسية الحاكمة في التحكم بهيئة القضايا والدولة، بحيث يبقى عملها والدعاوى التي تقيمها تحت سقف إرادة هذه القوى من دون إمكانية تجاوزها. وبالطبع، وبالنظر إلى الهرمية السائدة في النيابة العامة، بإمكاننا القول أن موقف حاموش يعكس من حيث المبدأ موقف النائب العام التمييزي غسان عويدات، ما لم يبادر هذا الأخير إلى إعطاء أوامر معاكسة. وما يظهّر خطورة هذا الموقف هو المسار الذي شهده التحقيق الأولي في هذه القضية من قبل النيابة العامة حيث تعطل الادعاء أكثر من 6 أشهر بعد إنجاز التحقيقات من قبل المحامي العام القاضي جان طنوس.
وما يزيد موقف النيابة التباسا هو أن وزير المالية يوسف خليل كان وجّه في وقت سابق لهيئة القضايا كتابا في 18 نيسان الماضي (بعد أشهر لزم خلالها الصمت رغم توجيه عدة رسائل إليه) أفاد فيه أن “لا علاقة لوزارة المالية بإبداء الرأي بشأن اتخاذ الدولة اللبنانية صفة الادعاء الشخصي في التحقيق الذي تجريه القاضية Aude Bursei (الفرنسية) ويتوجب على الهيئة القيام بما تراه مناسبا في هذا الخصوص”. وعليه، تكون النيابة العامة في معرض المزايدة على وزير المالية في حماية مصالح السلطة السياسية الحاكمة وإخضاع هيئة القضايا لها. كما نجد أنفسنا اليوم أمام مواجهة غير مسبوقة بين جهاز يستغلّ صفته في تمثيل المجتمع للطعن في صفة جهاز في تمثيل حقوق الدولة.
يبقى أن مطالعة النيابة العامة صدرت من دون الاطلاع على كتاب وزير المالية، وأن القرار النهائي بشأن صفة هيئة القضايا ومدى استقلاليتها يصدره قاضي التحقيق الأول في بيروت القاضي أبو سمرا، ويكون قراره قابلا للاستئناف أمام الهيئة الاتهامية. فلنراقب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.