هيئة الحقيقة والكرامة في تونس: قراءة في تقرير المهمة الرقابية لدائرة المحاسبات


2019-05-08    |   

هيئة الحقيقة والكرامة في تونس: قراءة في تقرير المهمة الرقابية لدائرة المحاسبات

نشرت بتاريخ 30-04-2019 دائرة المحاسبات تقريرا مهمة خاصة تولاها فريق رقابي من قضاتها موضوعه هيئة الحقيقة والكرامة. وبدا هذا التقرير وثيقة هامة في تقييم عمل تلك الهيئة. وأكد التفاعل الإعلامي الهام معه على هذه الأهمية وإن اقتصر التفاعل على الجوانب المتعلقة بالتصرف المالي وأغفل ما تعلق بملاحظات المهمة الرقابية على الأداء الوظيفي للهيئة على أهميته. وهو ما حاولت هذه القراءة تجاوزه (المحرر).

أسند الفصل 64 من قانون العدالة الانتقالية[1] لدائرة المحاسبات دون سواها من الهيئات الرقابية صلاحية الرقابة على التصرّف المالي والإداري بهيئة الحقيقة والكرامة. وكان أن تولّت الدائرة تفعيلا لهذه الصلاحية تكليف فريق رقابي من قضاتها بالبحث في “مدى توفق الهيئة في إنجاز المهام المنوطة بعهدتها وخاصة منها تلك المتعلقة بالبحث والتقصي وبالعناية الفورية والتعويض الوقتي وبالتحكيم والمصالحة وبإصلاح المؤسسات وفي مدى إحكام تصرفها المالي والإداري”[2] خلال الفترة من عمل الهيئة المتراوحة بين تاريخ بداية عملها سنة 2014 وتاريخ 18-10-2018 والذي يسبق بأقل من شهرين فقط تاريخ نهاية عهدتها كما قرره مجلسها.

نشرت الدائرة بتاريخ 30-04-2019 أي شهرا واحدا قبل نهاية أعمال تصفية الهيئة تقرير مهمتها الرقابية والذي يعد وثيقة هامة لكونه حصيلة فحص وظيفي موضوعي أجرته هذه المؤسسة الرقابية القضائية التي تتمتع بثقة عامة هامة لهيئة كانت طيلة فترة عملها موضوع خلاف بين معارضين للمسار الذي ترعاه حاولوا أن يتصيدوا عثراتها لكي يطيحوا به وأنصار لها عدّوا كل نقد يوجه لأدائها مؤامرة هدفها منع الضحايا من تحصيل حقهم وفرض إفلات جلاديهم من العقاب.

وكان أن كشف التقرير الرقابي الذي كان مهنيا بشهادة الهيئة ومعارضيها عن إخلالات في التصرف المالي والإداري للهيئة. كما قدم تقييما بالاستناد على المعطى الإحصائي لأدائها المهني ووجب هنا التوقف عند مخرجاته تلك.

أولا: فيما تعلق بإخلالات التصرف المالي والإداري:

رصدت دائرة المحاسبات عددا من الخروقات في التصرف المالي والإداري للهيئة، كان من أهمها:

  •  انتدابات لأعوان من دون احترام قواعد التناظر،
  •   عدم التزام بقواعد الحوكمة في تنفيذ تعهدات مالية،
  •   بذل مصاريف غير مبررة ومخالفة للتراتيب المحاسبية والإدارية،
  • صرف مبالغ مالية لأشخاص لا يستحقونها دون الاستناد لقواعد موضوعية في التمييز بين المستحقين،
  • غياب الشفافية في إعداد الميزانية وفي عرضها للمصادقة التشريعية.

ويلاحظ هنا أن التقرير لم يحدد بشكل صريح إن كانت تلك الخروقات من قبيل أخطاء التصرف أو أنها تعد سوء تصرف مالي أو هي فقط مخالفات تصرف لا ترقى لتكون هذا أو ذاك.

ويبدو مرد هذا التحفظ في التوصيف أمرين هما:

  • أن الهيئات المستقلة ومنها هيئة الحقيقة لا تختص الدائرة بالنظر قضائيا في أخطاء التصرف التي قد ترتكب من مسيريها بما يمنع كل توصيف قد يوحي ببت قضائي فيها،
  • أن التوصيف الجزائي للأفعال من اختصاص القضاء العدلي. وكان في هذا السياق الرئيس الأول للدائرة نجيب القطاري قد ذكر في الندوة الصحفية التي عقدت لإعلان التقرير وتقديم مضمونه للإعلاميين أن ما تم رصده مخالفات فيها إضرار بالمال العام قد يكون لها صبغة جزائية ستحال إعلامات للنيابة العمومية في شأنها.

أدى نشر الدائرة تقريرها لتداول الإعلام خبر سوء التصرف المالي الذي اعتبره الشق الأكبر منه من قبيل الفساد وهو اتهام رفضته مصفية الهيئة سهام بن سدرين التي أكدت أن الدائرة لم تنسب لها ولهيئتها فسادا ورصدت فقط مخالفات يعود الوقوع فيها لخصوصية عمل هيئات الحقيقة وأن ما يجري من توظيف لمعطيات وردت بالتقرير محاولات من الدوائر المعارضة للعدالة الانتقالية لتشويه نجاحها في إتمام عملها ونشر تقريرها النهائي[3]. و يلاحظ هنا أن ردها هذا لم يحظَ بإجماع لأعضاء هيئتها ذاتها، حيث أكدت ابتهال عبد اللطيف صحة اتهامات الفساد وذكرت أنها حاولت التصدي لها من داخل الهيئة[4] دون أن تفلح في ذلك لقلة عدد من ساندوها في مسعاها.

ويفرض التعاطي الموضوعي مع الإخلالات المالية المتّفق في صحتها والمختلف في توصيفها، انتظار تقدّم الأبحاث القضائية في شأنها، لتبيّن حجمها مقارنة بجملة ما تولت الهيئة من تصرفات مالية وتوصيفها.

وفي مطلق الأحوال، يوجب تأكد عدم الالتزام بقواعد حسن التصرف المالي والإداري وما يتمّ تداوله في الفضاء العام من ملاحظات حول مختلف الهيئات المستقلة  في ذات الشأن المناداة بتطوير الرقابة على شفافية التعاملات التي تجريها تلك الهيئات منعا لتطور سوء التصرف صلبها إلى فساد يفقدها الثقة العامة المستوجبة فيها ويمنعها من الاضطلاع بما ينتظر منها من أدوار هامة في تحقيق الانتقال الديمقراطي.

ثانياً: فيما يتعلق بالرقابة على الأداء الوظيفي للهيئة

عاينت الدائرة في تقريرها قصورا في أداء الهيئة لمهامها ردته إلى:

1- اختلال تركيبة مجلسها:

يفرض القانون أن يكون مجلس الهيئة مكونا من خمسة عشر عضوا. لكن وبفعل الاستقالات والإقالات، انتهت الهيئة لأن أتمت الجانب الأكبر من مدة عملها بتسعة أعضاء فقط. وقد مسّ هذا الأمر بالنصاب القانوني لاتخاذ القرار صلبها، وبتركيبة اللجان المنبثقة عنها و”التي انخفضت من خمسة إلى ثلاثة أعضاء بالنسبة إلى لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات ولجنة التحكيم والمصالحة ومن خمسة أعضاء إلى عضو واحد بالنسبة إلى لجنة جبر الضرر ورد الاعتبار في مخالفة للنظام الداخلي للهيئة”.

وقد حمّل التقرير مسؤولية اختلال التركيبة لمجلس الهيئة الذي تعامل بشكل غير متوازن مع أعضائه. فطرد عضوين بدعوى غيابهما: أحدهما لثلاث مرات متتالية عن جلسات الهيئة والثاني لست مرات متقطعة عن ذات الجلسات المتكرر في حين أنه تغاضى عن غياب غيرهما من الأعضاء لثمان اجتماعات دون مبرر خلال  سنة 2017. في السياق نفسه، ذكر التقرير برفض الهيئة الإذعان للقرارات القضائية التي صدرت وقضت بإيقاف التنفيذ فيما تعلق بمقررات الطرد.

كما حمل التقرير مسؤولية هذا الاختلال لمجلس نواب الشعب الذي أعلن الشغور فيما تعلق بالعضوين المستقيلين دون أن يبادر لانتخاب معوضين لهما.

ويلحظ هنا أن رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة في ردها على ما تحميلها مسؤولية رفض الإذعان للمقررات القضائية تمسكت بكون “قرارات توقيف التنفيذ الصادرة عن الرئيس الأول  للمحكمة الإدارية  بصفة باتة وغير قابلة للطعن لا تحترم الحق الدستوري في التقاضي على درجتين”[5]. وهي بذلك بدت وكأنها تعطي نفسها حق رفض الإذعان لأي قرار قضائي لا يقبل الاستئناف، فيما لم تعر سابقا أي انتباه للانتقادات الموجهة للأصول التي تحكم عمل الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية والتي لا تضمن لمن أحالتهم الهيئة أمامها الدستوري في التقاضي على درجتين.

2- التأخير في إرساء الإدارة و التقصير في صياغة أدلة الإجراءات:

إذ ذكرت الدائرة أن الفصل 56 من القانون الأساسي للعدالة الانتقالية يفرض “أن تتولى الهيئة القيام بالأعمال التحضيرية المتمثلة خاصة في تركيز إدارة تنفيذية ووضع أدلة اجرائية مبسطة لسير أعمالها في أجل أقصاه ستة أشهر من تاريخ تسمية أعضائها”، فإنه كشف أن الهيئة خرجت عن هذا الفصل على الوجه الآتي:

  • تم انتداب المدير التنفيذي في الشهر الرابع من سنة 2017 أي بتأخير ناهز السنتين والنصف،
  • تأخرت المصادقة على أدلة إجراءات اللجان التي أحدثتها الهيئة حيث بلغت المدة الفاصلة بين إحداث لجنة المرأة والمصادقة على دليل إجراءاتها 18 شهرا وتجاوزت 14 شهرا بالنسبة للجنتي البحث والتقصي وجبر الضرر ورد الاعتبار،
  •  لم يتم إنجاز أدلة إجراءات لجنة حفظ الذاكرة ولجنة الإصلاح الوظيفي وإصلاح المؤسسات.

ويلاحظ هنا أن مثل هذا التقصير المؤسساتي الذي فيه خرق صريح للقانون يظهر أمرا مشتركا بين الهيئة وعدد هام من المؤسسات منها المجلس الأعلى للقضاء الذي لا زال متأخرا عن إصدار نظامه الداخلي بعد سنتين من بداية عمله الفعلي.

على مستوى ثان، أكدت الدائرة أن العوائق الهيكلية للممارسة الإدارية لمجلس الهيئة نتج عنها ضعف أداء بمواضيع المهمة الرقابية. ومن أهم مواقع الضعف التي لحظتها الدائرة:

3- مواقع ضعف بالبحث والتقصي في الانتهاكات:

تختص لجنة البحث والتقصي كما ورد بتقرير الدائرة وبالفصل 56 من نظامها الداخلي “بالقيام بكل الأبحاث لفك منظومة الاستبداد والفساد وكشف حقيقتها وبالأبحاث حول الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وبمعرفة مصير الضحايا وأماكن وجودهم وكشف حقيقتها وبتحديد هوية مرتكبي حالات الوفاة والاختفاء القسري وبالبحث والتقصي في الملفات والعرائض والشكاوي والشهادات”. وقد رصدت المهمة الرقابية إخلالات في أعمال هذه اللجنة على مستوى الإفادات وتحديد الضحية والمسار القضائي للانتهاكات الجسيمة.

أ – إخلالات على مستوى إفادات الضحايا:

خلافا لكل تجارب العدالة الانتقالية التي سبقت التجربة التونسية  والتي اكتفى القائمون عليها  بسماع عينات من الضحايا، إختار مجلس هيئة الحقيقة أن يتم الاستماع لكل الضحايا الذين تقدموا بملفات في إطار جلسات استماع سرية. وتعدّ السماعات السرية التي بلغ عددها تسعة وأربعين ألف وستمائة وأربعة وخمسين سماعا أغلبها استماع فردي وبعضها استماع جماعي من أهم نجاحات هيئة الحقيقة في عملها. وهو نجاح أكدت الهيئة في تقريرها الختامي أنها حصنته بحفظه على وسائط إلكترونية وفق منظومة سمّتها منظومة إفادة[6]. كما أنه نجاح احتاج توظيف جانب هام من عمل الهيئة زيادة على إمكانيات بشرية ومالية هامة[7].

توثق جلسة الاستماع الانتهاكات بتفاصيلها وحدوثها وأسبابها ووقائعها وذلك بتسجيل تصريحات مقدم الإفادة من خلال تطبيقة إعلامية خاصة “الإفادة” اعتمدت لهذا الغرض وتضمنت بيانات اجتماعية وصحية لصاحب الملف مع بيانات خاصة بكل إنتهاك من حيث التواريخ والوقائع والشهود والمنسوب إليه الانتهاك بالإضافة إلى آثار تلك الانتهاكات والطلبات والمقترحات والتوصيات. إن تسجيل تلك المعلومات وجمعها وتقاطعاتها تكشف جانبا من الحقيقة من خلال ذاكرة كل ضحية والانتهاكات التي تعرضت لها في مختلف الأحداث التاريخية.

بالمقابل، كشف تقرير الدائرة أن علامة التفرد والنجاح هذه شابتها إخلالات هامة تمثلت أساسا في “إختلاف في إدراج المعطيات المتعلقة بالإفادة من مستمع إلى آخر وفي نتائج الاستماع لنفس طبيعة الانتهاك على غرار الإختلاف في نقل طلبات صاحب الشهادة وفي تقييم الحالة وفي تنزيل المعطيات الخاصة بالضحية”.

ونقدّر أن أثر هذه الإخلالات هامّ خصوصا في ظلّ ما تبين من كون مداها قد بلغ إلى لوائح الاتهام، حيث تمسّك ضحايا بكون ما سجل على لسانهم من وقائع لم يكونوا من تولوا الإفادة بها[8]. وقد يكون من المتعيّن في سياق التفكير في حماية مسار العدالة الانتقالية بذل جهد حقيقي في تنقية هذا الكنز المعرفي والتاريخي مما علق به من شوائب طلبا لأن يكون وثيقة تاريخية ذات مصداقية حقيقية.

ب – الإخلالات على مستوى تحديد الضحية:

تضمن التقرير أن الهيئة أسندت لعدد من أصحاب الملفات صفة الضحية وتحصلوا بفضل تلك الصفة على مساعدات. كما استفادوا بأنظمة التدخل الاجتماعي. ثم تبين لاحقا أنهم ليسوا من الضحايا. كما ورد فيه أن الهيئة وخلال الفترة الفاصلة بين سنة 2016 والشهر العاشر من سنة 2018 رفضت 4036 مطلب تحصيل على صفة ضحية، وتلقت خلال ذات المدة 278 مطلب اعتراض على قراراتها السلبية تلك. وارتفع عدد مقررات الرفض في نهاية سنة 2018 وخلال فترة وجيزة إلى 17496 قرار رفض من دون تمكين أصحابها من آجال كافية للطعن. علاوة على ذلك، أعلنت لجنة الطعن التي أعلنت الهيئة تشكيلها برئاسة عضو من الهيئة بعد نهاية مدة عمله بما يجعل هذا الطعن من قبيل الإجراء المستحيل.

نبّه التقرير الرقابي لإشكالية كبرى تمس بحقوق طيف هام من ضحايا الحقبة الاستبدادية. ويعود هذا الإشكال في جذوره لكون الهيئة التي كان يفترض نظريا أن تكون هي من تبحث عن الانتهاكات ومن تسعى للبحث عن أدلتها تنازلت عن دورها هذا وحمّلت وزره للضحايا[9]. إذ أنها حملت هؤلاء عبء إثبات الانتهاكات التي تعرضوا لها وهو أمر لم يفلح فيه كثيرون منهم مما مس بحقوقهم وبحق المجتمع في معرفة الحقيقة الكاملة عن الحقبة الاستبدادية. وهو مسّ تعمق بحرمانهم من حق الطعن في قرارات الرفض والحفظ والتخلي التي صدرت في شأن ملفاتهم [10]

ت – الإخلالات على مستوى المحاسبة القضائية:

أكدت دائرة المحاسبات أن مجلس الهيئة لم يصادق على إستراتيجية التحري والتحليل التي تشمل مختلف المراحل المتبعة قصد إحالة الملفات على الدوائر القضائية المتخصصة إلا بتاريخ 08-06-2017، وأنه لم يصادق على المعايير المتعلقة بإحالة تلك الملفات على الدوائر إلا بتاريخ 25-01-2018. كما أكدت أن الهيئة لم تشرع في إحالة الملفات على الدوائر المتخصصة إلا بداية من 02-03-2018. واعتبرت الدائرة أن الهيئة قصرت في عملها في هذا الخصوص، ولا سيما أن أعضاء الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية تم تعيينهم من الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي منذ 13-11-2015 وأن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رصد منذ سنة 2015 مبلغ مليون دولار لتكوين هؤلاء القضاة.

وقد دفعت هنا الهيئة عن نفسها بادعاء أن مرد تأخر زمن الإحالات لا يعود لتقصير ينسب لها، ولكن لما عاينت من غياب شرط التكوين الخاص في جانب القضاة وهو شرط يعود إتمامه لغيرها أي لوزارة العدل والهيئة المشرفة على القضاء. وأضافت “أن التكوين انطلق بشراكة بينها ووزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 06-012-2017 واستمر لأشهر” أحالت بعده للدوائر  ” 69 لائحة اتهام شملت 1120 ملف وجهت التهم فيها ل 1426 منسوب له الانتهاك كما أحالت 104 قرار إحالة شمل 583 ملف تضمنت هذه الإحالات إثباتات وأدلة كافية تفيد ارتكاب جرائم ضد الإنسانية واعتداء على المال العام”.

نلاحظ هنا أن رد الهيئة بدا متناقضا في مضمونه. فقد ادعى من حرره في مرحلة أولى أن سبب تأخير انطلاق الإحالات على الدوائر القضائية يعود لضرورة انتظار تكوين القضاة وهذا التكوين يخرج عن مسؤولية الهيئة، لينتهي في مرحلة ثانية للقول بأن الهيئة التي تلقت الدعم المالي لهذا التكوين باشرت فعليا أعماله بالشراكة مع غيرها في منتصف سنة 2017 أي بتأخير مدته سنتين عن تاريخ تركيز الدوائر القضائية.

في ذات سياق مسار المحاسبة القضائية، كشف تقرير دائرة المحاسبات أنه بتاريخ 29-09-2017 صادق مجلس الهيئة على انتداب قاضٍ من الرتبة الثالثة مشرف على وحدة التحقيق والمصالحة في جلسة لم يحضرها إلا أربعة من أعضاء مجلسها، أي من دون توفر النصاب القانوني لانعقاد تلك الجلسة وفق النظام الداخلي للهيئة. ويبدو هذا الخلل الإجرائي الذي كشف عنه التقرير مهما في آثاره إذا ما علمنا أن لوائح الإحالة على الدوائر القضائية المتخصصة تمت صياغتها ممن شمله التعيين بما يطرح سؤالا عن شرعية مقرراتها وبما يعمق بالتالي من الإشكاليات الإجرائية التي تعترض عمل الدوائر المتخصصة.

4- الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات:

يهدف إصلاح المؤسسات كما عرفته الهيئة في تقريرها الختامي “إلى تفكيك منظومة الفساد والقمع والاستبداد ومعالجتها بشكل يضمن عدم تكرارها واحترام حقوق الإنسان وإرساء دولة القانون والمؤسسات خاصة مراجعة التشريعات وغربلة المؤسسات الدولة ممن ثبتت مسؤوليته في الفساد والانتهاك وتحديث مناهجها وإعادة هيكلتها وتأهيل أعوانها”[11]. وتوصلت الدائرة لأن لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات التي كلفت بالعمل على هذا الملف لم يسجل لها طيلة مدة عمل الهيئة إلا نشاطان تمثلا في إنجاز بحثين حول إصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية وحول ضمانات عدم تكرار الانتهاكات. كما تمّ تنظيم 9 ورشات في الفترة الفاصلة بين 06-03-2017 و 12-07-2018 دون تسجيل أي استفادة من مخرجاتها. ويظهر هذا التقصير صادما خصوصا وأنه تعلق باستحقاق هام على علاقة بتصور المستقبل وبالبناء الديمقراطي ونقدر أنه يتعين مساءلة من كان سببا فيه.

5- التحكيم والمصالحة:

عرفت دائرة المحاسبات التحكيم والمصالحة بكونه “آلية اختيارية لفض النزاعات دون اللجوء إلى القضاء العدلي. وتختص لجنة التحكيم والمصالحة حسب الفصل 45 من قانون العدالة الانتقالية بالنظر في مطالب الصلح المتعلقة بالانتهاكات وملفات الفساد المالي وذلك بعد الحصول على موافقة الضحية”. وذكرت الدائرة أن تلك اللجنة تعهدت ب 25998 طلب تحكيم لكنها لم تدرس منها إلا 3043 تم التوصل في 21 منها لصياغة اتفاقية تحكيم انتهت تسعة منها بقرارات تحكيم.

وقد عزت الدائرة ضعف الأداء الكمي لمجموعة من الأسباب، أبرزها، (1) تقصير اللجنة التي لم تصادق على منهجية تقييم الانتهاكات في الملفات التحكيم المتعلقة بالفساد إلا بتاريخ 22-05-2018، وعملت بثلاثة أعضاء في حين أنها تتكوّن قانونا من خمسة، و(2) عدم تعاون المكلف العام بنزاعات الدولة الذي شارك بين سنتي 2015 و2017 في 896 جلسة ملف تحكيم ومصالحة لم يتم التوصل في أي منها لاتفاق، على إثر رفضه التحكيم في 394 ملف بدعوى عدم كفاية المؤيدات وعدم الاختصاص وتأجيل الرد على بقية الملفات دون تقديم جواب.

على مستوى ثان كشفت الدائرة تهاون الهيئة في التعاطي مع حالة تضارب مصالح تعلقت بعضوها رئيس لجنة التحكيم والمصالحة. فقد واصل المذكور مهامه رغم تجريحه في نفسه النظر في ملفات المصالحة.

كما كشفت الدائرة عن مصادقة مجلس الهيئة بجلسة يوم 28-05-2018 على طرح قيمة الأملاك المصادرة من قيمة الأضرار الواجب تعويضها للدولة واحتفاظ طالب التحكيم بأولوية الشراء لأملاكه المصادرة.

نجحت الهيئة في إثر نشر تقريرها الختامي في التسويق لخطاب إعلامي يدّعي نجاحها في تحقيق مداخيل تقدر ب 750 مليون دينار لموازنة الدولة ويحمل الدولة مسؤولية تضييع فرصة جني مبالغ مالية أكبر بكثير بسبب عدم تعاونها معها. فكان أن أطاح تقرير دائرة المحاسبات بهذا الخطاب، بعد أن كشف أن المبالغ التي يدعّى تحصيلها احتسبت فيها الأموال المصادرة وهي أموال دخلت فعليا في ذمة الدولة، بما كان معه ملف التحكيم والمصالحة من الملفات التي تستدعي دراسة معمقة طلبا لفهم حقيقة الأداء فيها ومدى شفافيته.

يتضح مما سلف أن تقرير دائرة المحاسبات فرض أن يعاد تقييم أداء هيئة الحقيقة والكرامة بشكل موضوعي بعيدا عن خطاب المعارضة والمساندة، هذين الخطابين الذين حكما المشهد قبله. ويتعين اليوم المضي قدما في هذه الدراسة الموضوعية طلبا لنجاح حقيقي للتجربة التونسية في مجال العدالة الانتقالية.

  • مقالات ذات صلة:

لقاء مع الحقوقي أحمد كرعود: ملاحظات حول مسار العدالة الانتقالية وخطاب الحريات الفردية

لقاء مع كريم عبد السلام: وجهنا العدالة الانتقالية نحو الخصام السياسي في حين أنها وسيلة تسوية

“غالي” يدعو إلى مراجعة نقدية لعمل هيئة الحقيقة والكرامة: إحالة ملفات فارغة للدوائر المتخصصة خطأ يصعّب مهمة الدفاع عنها

حوار مع ابتهال عبد اللطيف من هيئة الحقيقة والكرامة: النساء الضحايا اللواتي قررن أن يشهدن

حوار مع منسق عام اعتصام المصير: تضخيم عدد الضحايا أدى إلى حجب الضحايا الحقيقيين

حوار مع حسين بوشيبة: ننتظر جبر الضرر لأكثر من 40 ألف ضحية

مقابلة مع النائبة يمينة الزغلامي حول أداء هيئة الحقيقة والكرامة: نجاح في السماعات وفشل في معالجة الملفات

·الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية في تونس: العنوان القلق لمسار محاسبة حكم عليه قبل أن يبدأ بالفشل

·العدالة مشوّشة بصراع الإيديولوجيات في تونس: ذاكرة فئوية لغد فئوي؟

·العدالة الانتقالية في بعدها القضائي في تونس: قراءة من الخارج

·جريمة “الدولة الأمنية”: قضاة وأطباء يتواطؤون لرفع معنويات الجلاد

·قضايا في عهدة الذاكرة

·الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية في تونس: العنوان القلق لمسار محاسبة حكم عليه قبل أن يبدأ بالفشل

ضحايا الاستبداد في الفضاء العام، ولكن..

·السماعات العلنية لضحايا التعذيب: الجلاد حاضر رغم غيابه

·العدالة الانتقالية والمسارات الموازية

·كومكس || جلسات الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة

·المكلف العام بنزاعات الدولة وهيئة الحقيقة والكرامة: قطيعة تتهدد مسار العدالة الإنتقالية في تونس

·جلسات الإستماع العلنية بين الحق في الحقيقة وكرامة الضحايا

  • لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط أدناه:

Court of Accounts Exposes Shortcomings of TDC Performance


[1]  قانون أساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمه

[2]  صفحة 2 من التقرير الرقابي .

[3]  الندوة الصحفية التي عقدتها مصفية هبئة الحقيقة والكرامة يوم 07-05-2019

[4]  ” بعد الاخلالات  التي كشفها تقرير دائرة المحاسبات ..عضو بهيئة الحقيقة والكرامة تتحدث للصباح ..” – صباح الشابي – الصباح نيوز – 02-05-2019 .

[5]   صفحة 47 من  تقرير دائرة المحاسبات .

[6]  يراجع التقرير الختامي  لهيئة الحقيقة والكرامة الجزء الأول عهدة الهيئة صفحة 50 و51

[7]   81 مكتب استماع موزعة بين المكتب المركزي و مكاتب جهوية ومكاتب متنقلة   عمل فيها 190 متلقي إفادة

[8]  عفاف النحالي  ومحمد العفيف الجعيدي   -ضحايا براكة الساحل، ثماني سنوات بعد الثورة: الأفق يضيق والعدالة تتعثر – نشر بالعدد 14 المفكرة القانونية تونس

[9]  ورد في بلاغ صدر عن الهيئة بداية شهر 8 من سنة 2018 ” تعلم هيئة الحقيقة أصحاب الملفات المودعة لديها والتي لم تستوف فيها التحري نظرا لضعف المؤيدات أنها تمكنهم من فرصة أخيرة لتدعيم ملفاتهم . لذلك فهي تدعوهم الى تقديم مؤيداتهم أو شهاداتهم أو أي توضيحات إضافية كتابيا تؤيد تصريحاتهم وذلك لتجنب رفض الملفات التي تفتقر للمؤيدات الكافية.

[10] في بيان صدر عنها بتاريخ 26-12-2018 ميزت الهيئة بين قراراتها فذكرت أنها رفضت الملفات  التي تنطبق عليها إحدى الوضعيات التالية :

  • لم تستجب لشروط الولاية الزمنية وطبيعة الانتهاك وطبيعة المنسوب له الانتهاك الدولة أجهزتها أو من تصرف باسمها أو تحت حمايتها أو مجموعة منظمة موضوع الفصلين 3 و17 من القانون عدد 53 لسنة 2013 المتعلق بالعدالة الانتقالية .
  •  تخرج عن اختصاص الهيئة .
  • لا يتوفر فيها انتهاك على معنى قانون العدالة الانتقالية.

الحفظ : تم حفظ الملفات التي بقيت  تصريحات أصحابها مجردة وتعذر على الهيئة إثباتها أو دحضها بسبب رفض التعامل مع من أوجب عليه القانون التعاون.

التخلي: التخلي الصريح عن الملفات التي أعرب أصحابها عن رغبتهم الصريحة في عدم استكمال في التحري في ملفاتهم من الهيئة

التخلي الضمني عن النظر في الملفات التي لم يستجب أصحابها لدعوات الهيئة والمراسلات الموجهة لمطالبتهم باستكمال ملفاتهم

[11]   التقرير الختامي للهيئة الجزء الأول عهدة الهيئة صفحة 12


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني