طوّر قانون الانتخابات رقم 44/2017 دور هيئة الإشراف على الانتخابات بالنسبة إلى المهام التي كانت موكلة إليها في قانون الانتخابات رقم 25/2008. وإذ هدف إنشاؤها أساساً إلى نقل الإشراف على الانتخابات من السلطة التنفيذيّة ممثلة بوزارة الداخلية إليها ضمانا لنزاهة الانتخابات، فإن القانون لم يمنحها الاستقلالية الإدارية أو المالية، فضلا عن أنّه أبقى لوزارة الداخلية صلاحيات مهمّة في تنظيم الانتخابات ويداً طولى في تحديد مواردها البشرية أو المالية.
ومن هنا، رأينا من المفيد التوقف عند أداء الهيئة في مراقبة الانتخابات التشريعية الحاصلة في أيار 2022 ومدى قدرتها على ضمان الهدف المعلن من إنشائها رغم الثغرات والعوائق القانونيّة والواقعيّة التي قد تمنعها من ممارسة هذا الدور. فإذا تمّ ذلك، أمكننا التساؤل عن الدور الحقيقي الذي أريد لها أن تؤديه. وهذا ما سنحاول تفصيله في ثلاثة مقالات: الأول نتناول فيه الإشكاليات في تكوين الهيئة وديمومتها ومواردها، والثاني نخصّصه لدور الهيئة في مراقبة الإعلام والإعلان الانتخابيين لنعالج في الثالث والأخير دورها في مراقبة الإنفاق الانتخابي.
وقبل المضي في ذلك، يقتضي التذكير بأننا نقوم بذلك في حين أن الهيئة ما تزال متأخرة عن إصدار تقريرها النهائي عن الانتخابات التشريعية الحاصلة في أيار 2022 وأن المجلس الدستوري أصدر عددا من قراراته في الطعون ويتهيأ للنظر في بقية الطعون، بعدما زودته الهيئة بما لديها من معلومات خاصة بهذه الطعون.
إشكاليات تتعلق بتكوين الهيئة وديمومتها ومواردها
1 – عضوية الهيئة ومدى استقلاليّتهم
بداية، يجدر التذكير بأن الهيئة تتشكّل من 11 عضوا يتم تعيينهم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ويتوزعون على النحو الآتي: 3 قضاة متقاعدين، نقيبان سابقان للمحامين في بيروت وطرابلس، وممثل عن نقابة الصحافة وخبير في شؤون الإعلام ونقيب سابق لخبراء المحاسبة المجازين وعضوان من أصحاب الخبرة في شؤون الانتخابات (بما فيها الإدارة والتمويل والدعاية وفقا لما ينص عليه القانون) وممثل عن هيئات المجتمع المدني من ذوي الخبرة في الانتخابات.
ويلحظ أن القانون يعطي الحريّة الكاملة لمجلس الوزراء لاختيار الأعضاء بناءً على اقتراح وزير الداخلية والبلديات. كما أن القانون لا يعطي دوراً لأي جهة في رفع لائحة بالأسماء للوزير لتولي مناصب العضويّة في الهيئة. ممّا يجعل التسميات خاضعة تماماً للإرادة السياسيّة من دون أي رادع ويفتح شهيّة السلطة على المحاصصة والتوظيف ضارباً الضمانات لاستقلاليّة أعضاء الهيئة، على عكس التسميات لعضويّة الهيئات المستقلّة المنشأة حديثا مثل هيئة حقوق الإنسان أو هيئة المفقودين والمخفيين قسرا، حيث يتمّ اختيار الأعضاء انطلاقا من اقتراحات مجلس القضاء الأعلى ونقابات مهنية عدة ومنظمات المجتمع المدني… إلخ. وما يزيد من احتمالات التبعية هو تطييف أعضاء الهيئة، الأمر الذي يفتح الباب للمحاصصة. ويتبدى هذا الأمر بوضوح كلي في المرسوم الصادر في 16 آذار 2022 والذي عيّن بموجبه كلّ من القاضي أحمد عبد الحسن حمدان وهو قاضٍ مالي متقاعد، بدلاً من القاضي عوني رمضان، والأستاذ خليل الخوري ممثلاً عن نقابة الصحافة بدلاً من الأستاذ فيليب أبي عقل، والسيد نسيم شفيق الخوري خبيراً في شؤون الإعلام والإعلان بدلا عن السيدة كارين جعجع. بمعنى أن مذاهب الأعضاء الجدد أتت مطابقة لخلفائهم ما يؤكّد على تطييف أعضاء هيئة الإشراف من قبل السلطة السياسية.
كما يزيد من احتمالات التبعية، أمران:
الأول، انهيار قيمة مخصصات أعضائها بنتيجة تدهور قيمة العملة الوطنية. وقد أفادنا رئيس الهيئة أنه أثار موضوع زيادة مخصصات أعضاء الهيئة أمام رئيس الجمهورية عندما التقاه خلال أداء الأعضاء الجدد القسم بعد تعيينهم. وقد وعد رئيس الجمهورية بزيادة هذه المخصصات، كي تصبح متناسبة مع الوضع الاقتصادي الراهن لا سيما بعد التدهور الكبير في سعر صرف الليرة. إلا أنّ الموضوع لم يصل إلى خواتيمه المرجوة وبقيت المخصصات على سابق عهدها، أي ثمانية ملايين ليرة، ما يعتبره القاضي عبد الملك قلّة اعتبار للهيئة وأعضائها، يضاف إلى ما شعر به من إهمال مقصود وغياب حتى للدعم المعنوي في ظل ما عانته الهيئة من صعوبات رافقتها طوال عملها.
والثاني، عدم ضمان ديمومة الهيئة، مما يتيح للسلطة السياسية تعيين أعضائها مباشرة قبل الاستحقاق الانتخابي، بما يزيد من قدرتها على تعيين موالين لها. وهذا ما نتناوله أدناه.
2 – ديمومة الهيئة
إن مبدأ ديمومة هيئة الإشراف على الانتخابات كان منذ أوّل انتخابات حصلت على أساس القانون الصادر سنة 2017 موضوعاً متنازعاً عليه بين الهيئة والسلطة السياسية. وجوهر هذه الإشكاليّة يكمن في التفسيرات المتعددة التي أعطيت للقانون نظرا لطبيعته الملتبسة بخصوص ولاية الهيئة والتناقض الذي يعتري أحكامه. فبينما وصفت المادة التاسعة منه الهيئة بأنها دائمة، أعلنت المادة الحادية عشرة أن ولاية أعضاء الهيئة يجب أن تنحصر بفترة تمتدّ من تاريخ تعيينهم حتى ستة أشهر بعد الانتخابات، مع وجوب تعيين هيئة جديدة قبل شهر من انتهاء ولاية الهيئة القائمة، أي في الشهر الخامس بعد الانتخابات. إلا أن الحكومة تقاعست عن تنفيذ التزاماتها في هذا الخصوص، فلم تعيّن هيئة جديدة قبل شهر من انتهاء ولاية هؤلاء أي عمليا قبل نهاية سنة 2018 كون المادة نفسها نصت على انتهاء ولاية الهيئة بعد ستة أشهر من إتمام الانتخابات العامة. وعليه، أثير سؤال عن وضعية الهيئة في هذه الحالة؟ هل تعتبر عضوية أعضائها منتهية أم أنها تستمر في العمل إلى حين تعيين بدائل عنهم؟
وعلى الرغم من الجدل الحاصل، ظلّت هيئة الإشراف متمسّكة بمبدأ ديمومتها المنصوص عليه في المادة التاسعة من القانون. ففي معرض التقارير التي نشرتها الهيئة بمناسبة الانتخابات الفرعيّة في دائرة طرابلس التي جرت في 14 نيسان 2019[1] وفي دائرة صور/ الزهراني (علماً أن الانتخابات لم تحصل نظراً لفوز المرشح الوحيد بالتزكية)[2]، عادت وشرحت قراءتها لهاتين المادتين معتبرة أن وجوب تعيين هيئة جديدة قبل انتهاء ولاية الهيئة الأولى، بالإضافة إلى مفهوم الديمومة المكرّس صراحة في المادة التاسعة منه معطوفة على الفقرة الأخيرة من المادة 11 التي تنص على أن الهيئة تستمر في عملها حتى تعيين هيئة جديدة، كل هذه الأمور ترسي بوضوح مبدأ ديمومة الهيئة على كامل مدّة ولاية المجلس، ووجوب إتمامها لمهامها في الفترات الفاصلة بين الاستحقاقات الانتخابية العامة والفرعية.
وقد أوردت الهيئة في تقريرها عن انتخابات طرابلس الفرعية تفاصيل السجال الحاصل بينها وبين وزارة الداخلية والبلديات التي استعانت بهيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ثلاث مرّات، وكانت الاستشارات الصادرة عنها متناقضة[3]، غير أنها رست في النهاية على اعتبار الهيئة دائمة ومستمرّة في مهامها في حال لم يتمّ تعيين بدلاء عن أعضائها وفق الأصول.
لكن مجلس الوزراء تجاهل مضمون الاستشارة الأخيرة[4] ورأي هيئة الإشراف نفسها[5] وأصدر قرارين[6] في موضوع فرعية طرابلس وفرعيّة صور يحدّد فيهما انتهاء ولاية الهيئة بعد شهرين من إتمام الانتخابات الفرعيّة ما يبيّن تعنّت الحكومة والأطراف السياسيّة الممثلة فيها في تقييد هيئة الإشراف والحدّ من استمراريتها في العمل.
أدّت هذه الإشكاليّة في الواقع إلى إضعاف دور الهيئة ومشروعيتها، حيث أنه وفي ظلّ التشكيك في ديمومتها وتقاعس الحكومة عن إتمام دورها في تعيين بدلاء عن الأعضاء المنتهية مدتهم ضمن المهل المنصوص عليها، بات على الهيئة عند كلّ استحقاق إنتخابي عام أو فرعي كما حصل سنة 2018 و 2022 أن تبرر وجودها بالاستناد إلى تفسير المواد المنشئة لها في القانون، وأن تحصل على صكّ براءة من الحكومة لتستمر في عملها كما حصل في فرعية 2019 وفي انتخابات 2022، ما يجعلها تحت رحمة السلطة السياسية ويجعل من المواد التي ترسي ديمومتها ناقصة الفعالية والقيمة. وما يزيد من خطورة هذه النتيجة هو أن السلطة الحاكمة في زمن الانتخابات هي التي سيكون بمقدورها أن تعين أعضاء الهيئة عند كل استحقاق انتخابي مما يعطيها هامشا واسعا للتحكم في أداء الهيئة والتأثير فيها. وبالرغم من تعديل المادة 11 في تشرين الثاني 2021 قبيل الانتخابات، حيث أصبح النصّ يحدد ولاية الهيئة بسنة من تاريخ تعيين الأعضاء من قبل مجلس الوزراء، لم يحسّن التعديل وضع الهيئة علماً أنّ هذا القانون له صفة الاستثناء وتنحصر مفاعيله بالانتخابات التي جرت في أيار 2022 فقط. يبقى من الملفت موضوع هذا التعديل الاستثنائي على قانون الانتخابات.
فقد حدد هذا التعديل عمل الهيئة بسنة على أن تعيّن قبل ستة أشهر من تاريخ الانتخابات، غير أنّ القانون نفسه صدر قبل ستة أشهر تقريبا في فترة لم يكن مجلس الوزراء يجتمع فيها بسبب الخلاف حول المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، كأنما أريد لهذا التعديل أن يصدر في فترة تعطيل لخلق حجّة تعيق عمل الهيئة وتكبل التحضيرات للانتخابات. فيضحي بذلك طابع الديمومة للهيئة هشا، وكأنما للهيئة أن تموت ثم تبعث عند كلّ حاجة لها، من دون أن يكون لها الحقّ في الوجود الثابت بين الاستحقاقات الانتخابية.
وقد أفادنا رئيس الهيئة بوجود مشروع مرسوم جرى إعداده لهذه الغاية في نهاية 2021 من أجل تعيين هيئة جديدة وفقاً لمنطق المحاصصة ذاته الذي دأبت عليه السلطة الحاكمة في لبنان، لكن الحكومة، وبسبب الخلافات السياسيّة بين أركانها، لم تفلح في إتمام التعيين، فانتهى الأمر بتسوية مفادها تعيين ثلاثة أعضاء جدد كما أوضحنا أعاه بغية ملء الشغور الحاصل نتيجة استقالة هؤلاء مع الإبقاء على الهيئة ذاتها كي تتولى مجددا الإشراف على الانتخابات.
ويخشى من هذه التعيينات الخاضعة لإرادة السلطة السياسية المتمثلة بمجلس الوزراء، والتي تأتي قبيل الاستحقاق الانتخابي مباشرة، أن تزيد من احتمالات التبعية لأعضاء الهيئة للسلطة السياسية، لا سيما وأن استمرار الهيئة ككل يصبح رهينة القرار السياسي الاستنسابي الذي بمقدوره وضع متى يشاء نهاية للهيئة الحالية عبر تعيين هيئة جديدة عندما يحصل التوافق على ذلك، أو الاستمرار بالهيئة القائمة في حال تعذر التوافق على أن يتم الاكتفاء فقط بتعيين بدلاء عن الذين استقالوا أو فقدوا عضويتهم لأي سبب كان. وسنتناول هذه النقطة بالتفصيل في الفقرة اللاحقة.
3- تمويل الهيئة ومواردها
إن مشاكل تمويل هيئة الإشراف تجد جذورها في القانون نفسه الذي ربط تمويلها بميزانية وزارة الداخلية ولم يخلق لها ميزانيّة خاصّة ومستقلّة تدرج في قانون الموازنة العامة للدولة. ومنذ بدء العمل بالقانون الحالي، بدأت الهيئة ومعها الجهات الدوليّة والمحليّة المراقبة بمطالبة المشرّع بتعديل قانون الانتخاب لإرساء الإستقلاليّة الماليّة الكاملة للهيئة، ولتأمين استدامة تمويلها خارج فترة الانتخابات من أجل ضمان مبدأ ديمومتها المتنازع عليه أصلاً.
أتت الانتخابات التي جرت عام 2022 تبعا للانهيار المالي، ما أدى إلى تفاقم الصعوبات التي واجهتها الهيئة. وهذا ما أشار إليه البيان الأول لبعثة المراقبة الأوروبية الذي ذكّر يأنّ الميزانيّة المرصودة للانتخابات عام 2022 أي 320 مليار ليرة شكلت أقلّ من ثلث تلك التي رصدت لعام 2018. ولم تنل هيئة الإشراف من هذه الموازنة سوى النذر القليل إذ أنها طالبت في بداية الأمر بميزانيّة تبلغ 5 مليار و300 مليون ليرة لبنانية ولم يرصد لها مجلس الوزراء إلّا 3 مليار و500 مليون. غير أن رئيس الهيئة القاضي عبد الملك أفادنا خلال حديثنا معه بأن الهيئة لم تحصل حتّى على هذا المبلغ المخصص لها، بل أنها حصلت فقط على سلفة خزينة قدرها 300 مليون ليرة، استعانت بها لدفع النفقات التشغيلية ضمن فترة الانتخابات، من ضمنها دفع البدلات لمدققي الحسابات التي استعانت بهم الهيئة لإتمام دراسة البيانات الحسابيّة للمرشحين واللوائح. يقول رئيس الهيئة في هذا السياق : ” نحن حتى الآن لا نعلم ما هو مخصص للهيئة في الموازنة”. فبالرغم من أن مجلس الوزراء وافق مبدئيًّا على إعطاء هيئة الإشراف مبلغاً من ميزانيّة وزارة الداخليّة، فإنّ المرسوم رقم 8814 تاريخ 18 شباط 2022 الذي قضى بنقل اعتمادات إلى موازنة وزارة الداخلية والبلديات بقيمة 35 مليار ليرة لتأمين نفقات اجراء الانتخابات النيابية إلا أنه لا يحتوي على بند محدد يتم تخصيصه للهيئة بحيث يتم منحها مبلغا معينا يتوجب على وزارة الداخلية الالتزام بصرفه تلبية لحاجات الهيئة. فعلى العكس من ذلك، أتى المرسوم المشار إليه ينقل الاعتمادات إلى وزارة الداخلية بشكل عام ما يعني أن منح الهيئة الأموال المطلوبة لا يمكن أن يتم إلا بقرار يخضع لمزاجية وزير الداخلية، أي أن هذا الأخير بات بإمكانه منح الهيئة مبلغاً من الأموال يحدده هو اعتباطيا من ميزانيّة الانتخابات التي خصصت لوزارة الداخلية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الأموال متعلّقة فقط بفترة الانتخابات، ما يلغي إمكانيّة خلق ملاك خاصّ بالهيئة يضمن استمراريتها. فبحسب عبد الملك، لم تدخل ليرة واحدة للهيئة في الفترات الانتقاليّة بين الاستحقاقات الانتخابيّة، فاضطرّ أعضاء الهيئة أنفسهم إلى التكفّل بمصاريف التشغيل من تنظيف وقرطاسيّة.
أمام هذا الشحّ في التمويل، فإن “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” أمّن للهيئة جزءًا من القرطاسيّة في فترة الانتخابات، كما تكفّل بدفع رواتب المراقبين العاملين في الهيئة وعددهم حوالي الثلاثين. وإنّ الموظفين الثلاثة الذين يشكلون “شبه ملاك دائم” للهيئة هم أيضاً على عاتق برنامج الأمم المتحدة وقد جُدد لهم لشهرين، إذ بعد انتهاء هذه المدة قد تصبح الهيئة فارغة من أيّ عنصر بشري باستثناء الأعضاء. وللمفارقة، فإنّ هؤلاء الموظفين الثلاثة يتقاضون رواتب بالعملة الصعبة تفوق بكثير مخصصات أعضاء الهيئة أنفسهم المحددة بالليرة اللبنانية.
وقد وصل نقص التمويل مؤخرا إلى وضع درامتيكي، في ظل التهديد بفقدان الهيئة مقرها لعدم تسديد البدلات المتوجبة عنه. وهذا ما أشار إليه رئيسها القاضي نديم عبد الملك في حديث للمفكرة القانونية[7] لجهة أنّ مقرّ الهيئة مهدد بفعل دعوى تقدّم بها مالك البناء لإخلاء الطوابق المستأجرة لصالحها وقد ينتهي الأمر بفقدانها مقرّها، مشيراً إلى أنّه طلب من وزير الداخلية اجتماعاً طارئا في هذا الشأن من دون أن يستجيب الوزير على مدى أسبوع وحتى تاريخ إعطاء هذا الحديث للمفكرة. وقد لفت رئيس الهيئة عبد الملك إلى أنّها طالبت بمقرّ يتسّع لجميع معدّات المراقبة وللمراقبين لإتمام أعمالها في انتخابات 2022، ولم يتمّ الاستجابة لهذا الطلب إلّا في تاريخ 10 شباط 2022، أي بعد شهر من بدء الحملة الانتخابيّة في تاريخ 10 كانون الثاني وهو تاريخ فتح باب الترشيح. ومن ثمّ تولى “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” (UNDP) نقل معدات الهيئة من المدينة الرياضية إلى المقرّ الجديد حيث تمّ تركيبها. وقد استغرق ذلك شهراً إضافيًّا، الأمر الذي أخّر انطلاق عمل الهيئة التي لم تكن قادرة تقنيا خلال فترة الانتظار تلك من مراقبة الحملة الانتخابية. وقد عانت الهيئة كغيرها من أزمة الكهرباء في لبنان، فأشار عبد الملك أن الكهرباء في المبنى حيث تتواجد الهيئة مؤّمنة حتّى الساعة السادسة مساءً، وال UNDP كان قد وعد بتزويد الهيئة بساعات إضافيّة من الكهرباء حتى الساعة العاشرة مساءً. إلّا أن هذا لم يحصل، ممّا أثّر سلباً على عمل المراقبة خصوصاً في ساعات الذروة للحملات الإنتخابيّة في البرامج المسائية على الشاشات.
أمام هذه التحديات الكبيرة ، كان لا بدّ من سؤال رئيس الهيئة عمّا يمنعها من مشاركة الصعوبات التي تعانيها مع الرأي عام من أجل وضع السلطة السياسية أمام مسؤولياتها تجاه الهيئة وبغية تفنيد المعوقات القانونية التي تحول دون إتمام الهيئة لعملها على أكمل وجه. ولا شك أن اطلاع الرأي العام والتواصل معه بطريقة شفافة وصريحة، في إطار التحضير للانتخابات، يعتبر حاجة ضرورية لتوضيح حقيقة مجريات الانتخابات كي يتبين للجميع مدى جدية تحضيرات السلطة والتزامها بكافة المعايير التي تضمن نزاهة العملية الانتخابية وديمقراطيتها. لكن رئيس الهيئة اعتبر أنها لا تملك الوقت الكافي للإطلالات المتكررة. واعتبر أن الهيئة قامت بواجبها في موضوع الشفافية عبر البيانات التي كانت تنشرها دوريًّا على موقع الإنتخابات الإلكتروني. غير أنه لا يخفي في حديثه لنا عن تريّث للهيئة في الإفصاح عن كلّ ما يصيبها، أي ما يصفه ب “نشر غسيل” الهيئة على الملأ، وهي وجهة نظر لا بدّ من العمل على تطويرها تماشياً مع مقتضيات الشفافية العصريّة.
4 – ملاك الهيئة
تنص الفقرة باء من المادة 23 من قانون الانتخابات أنه يرتبط بالهيئة جهاز إداري ولها أن تتعاقد مع من تراه مناسباً لمساعدتها في إتمام مهامها. وللهيئة أيضاً أن تطلب إلحاق بها موظفين من ملاك الدولة لمؤازرتها في عملها لفترة مؤقتة ويتم ذلك بناءً على قرار وزير الداخلية إنطلاقاً من طلب الهيئة.
غير أنه في الواقع، تفتقر الهيئة منذ تعيينها عام 2018 إلى طاقم بشري مستدام يؤمّن لها ديمومتها ويؤازرها في عملها في فترة الانتخابات وخارجها. فقد أفادنا رئيس الهيئة أنّه في انتخابات 2018، طلبت الهيئة من وزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق أن يلحق بها عدداً من الموظفين، فعاد إليها الوزير بجواب أّنه لم يجد في إدارات الدولة فائضاً من الموظفين ليلبّي حاجاتها. مذ ذاك الحين والهيئة تعمد إلى تأمين استمراريتها بما تيسّر من الطاقات البشريّة التي تبقى محدودة وغير كافية لتمكين الهيئة من إتمام واجباتها على وجه الكمال. وهذا ما أشار إليه أيضا التقرير النهائي لبعثة الاتحاد الأوروبي[8]. فكما ذكرنا أعلاه، إنّ الموظفين في الهيئة هم على عاتق برنامج الأمم المتحدة للتنمية. فالمراقبون الذين يتولون رصد المخالفات الإعلامية خلال الحملة الانتخابية، والمعاونون المباشرون لأعضاء الهيئة من كاتب ومستكتب ومسؤول تقني (IT) هم جميعهم على عاتق البرنامج أيضاً.
وقد احتاجت هيئة الإشراف لإتمام التدقيق في البيانات الحسابية للمرشحين واللوائح إلى خبراء في المحاسبة، ونظراً للكلفة الباهظة التي كانت ستتكبدها الهيئة للاستعانة بمكاتب المحاسبة، فقد استعاضت عن ذلك ببعض الموظفين أصحاب الخبرة من ديوان المحاسبة وقد نشرت قراراً يحمل الرقم 10 بهذا الخصوص، كما استعانت أيضاً بعدد من الخبراء المجازين الذين قبلوا التعاون مع الهيئة إذ وافقوا على تخصيص مبلغ 50 مليون ليرة لكل واحد منهم فقط علما مكاتب المحاسبة كانت قد طالبت في البداية بمبلغ 150 مليون ليرة. وبحسب رئيس هيئة الإشراف، تولى كل خبير في المحاسبة التدقيق في عشرات الملفات إذ أن أقل خبير أنيطت به مهمة دراسة 48 ملفا، ما يبيّن حجم المهمّة الشّاقة الموكلة لهم خاصّة أن المهلة لإتمام دراسة البيانات وفقا للقانون هي شهر فقط، وهو شرط شبه تعجيزي قد يشي بنية مستترة لمنع الهيئة من إتمام واجبها والسماح للمخالفين بتجنب المحاسبة نظرا لضيق الوقت الذي تم منحه للمدققين الحسابيين بغية إنجاز مهامهم.
إن هذا الاستهتار المادي والمعنوي والوظائفي بالهيئة من قبل السلطة السياسية، لا سيما الحكومة، هو أوضح تعبير عن مدى لامبالاة هذه الأخيرة بغية تأمين الحد الأدنى لحسن سير العمليّة الانتخابية ولجعلها أكثر ديمقراطية. وبما أن وجود الهيئة هو شرط قانوني لا بد منه من أجل إجراء الانتخابات، فإن العوائق التي واجهت الهيئة، سواء كان ذلك بشكل متعمد أو بسبب الإهمال، يمكن اعتبارها انها تندرج ضمن سياق تخريبي يهدف إلى نزع الطابع الديمقراطي عن الانتخابات وتهديد مصداقيتها.
[1] وقد صدر تقرير هيئة الإشراف عن هذه الانتخابات في العدد 34 من الجريدة الرسمية تاريخ 11 تموز 2019
[2] وقد صدر تقرير هيئة الإشراف عن هذه الانتخابات في العدد 3 تاريخ 16 كانون الثاني 2020
[3] يشمل تقرير هيئة الإشراف عن الانتخابات الفرعية في طرابلس سنة 2018 مذكّرة توضيحيّة حول وضع الهيئة القانوني. تشمل هذه المذكرة الاستشارات الثلاثة الصادرة عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل. الاستشارة الأولى صدرت بتاريخ 3/6/2018 وقد وضعت حدّ للتناقض الحاصل بين المادتين 11 و18 من قانون الانتخابات، حيث اعتبرت هيئة الاستشارات أن تقاضي أعضاء الهيئة لمخصصاتهم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمهامهم وهي تمتدّ من تاريخ صدور مرسوم تعيين الأعضاء حتّى ستّة أشهر بعد الانتخابات. أمّا الاستشارة الثانية فقد صدرت بتاريخ 6/12/2018 أيضاً بطلب من وزارة الداخليّة التي أرادت أن تستوضح عن مدى إمكانية الهيئة متابعة عملها بعد 6 أشهر من إنتهاء الإنتخابات العامة سنة 2018. وقد جاء جواب هيئة الاستشارات أنّه لا يمكن لهيئة الإشراف متابعة عملها “وفقاً للغاية التي أنشأت لأجلها” وأن أي عمل تقوم به لا يستحق التعويض. اعتبرت هيئة الإشراف أن هذه الاستشارة أتت مخالفة لنص وروحية قانون الانتخابات الذي شدد على ديمومة الهيئة، كما اعتبرت أنّ الحاجة إلى هذه الاستشارة الثانية تنبع من تفسير توسّعي للاستشارة الأولى التي تتحدث حصراً عن مخصصات أعضاء الهيئة وتحصرهم بفترة ستة أشهر بعد انتهاء الانتخابات ولا تمسّ بوجود الهيئة وديمومتها وممارسة صلاحياتها. بعد أخذ وردّ حول مضمون هذه الاستشارة بين هيئة الاشراف ووزارة الداخلية، قامت الوزارة بطلب استشارة جديدة من هيئة التشريع والاستشارات بمناسبة شغور مقعد نيابي في دائرة طرابلس والحاجة إلى تحديد من هي الهيئة التي ستشرف على الانتخابات الفرعيّة. أتت الاستشارة الثالثة التي تحمل الرقم 141/2019 تاريخ 28/2/2018 لتؤكّد على استمرار الهيئة القيام بمهامها إلى حين تعيين هيئة جديدة، ما يتناقض مع الاستشارة التي سبقتها.
[4] استشارة رقم 141/2019 تاريخ 28/2/2019
[5] وثّقت الهيئة آراءها إضافة إلى البرنامج الأوّلي لمهامها في مرحلة ما بعد الانتخابات في تقريرها النهائي لانتخابات 2018 العامة وفي كتاب أرسلته إلى وزارة الداخلية والبلديات في هذا الشأن بتاريخ 28/2/2019
[6] قرار رقم 46 بتاريخ 21/3/2019 بخصوص فرعية طرابلس والقرار رقم 114 تاريخ 22/8/2014 بخصوص فرعية صور
[7] حيث أجرت المفكرة القانونية مقابلة معه بتاريخ 29 آب 2022
[8] تقرير البعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات، ص.11