ترسم المادة 19 من قانون الانتخابات ملامح الدور الذي أناطه قانون الانتخابات بهيئة الإشراف على الانتخابات في مجال مراقبة الإعلام في فترات الحملات الانتخابية، وذلك ضمانا لديمقراطية الانتخابات. هذه الديمقراطية التي لا يمكن أن تقوم إلا بضمان الحدّ الأدنى من المساواة بين المرشحين في مخاطبة الناخبين والأهم بضمان وصول الناخبين إلى معلومات كافية عن برامج وتطلعات هؤلاء تمهيدا لتكوين قناعاتهم. بالإضافة إلى ذلك، توكل المادة لها مهمو مراقبة الصمت الانتخابي ضمن فترة الحملة الانتخابية كما تنظيم استعمال الأماكن العامة ودور العبادة والمباني التابعة لها لأجل أغراض الحملة الانتخابية للمرشحين واللوائح. أخيراً، يتوجّب على الهيئة العمل على نشر الثقافة القانونية والسياسية للناخبين لتمكينهم من القيام بالاقتراع وهم على كامل دراية بأصول قانون الإنتخابات.
وقد ارتأينا أن تقييم أداء الهيئة في هذا المجال يتطلب درس كيفية قيامها بمهامها انطلاقا من طبيعة الوظائف المناطة بها. وهي تباعا سلطة الترخيص وسلطة وضع قواعد تنظيمية وسلطة المراقبة وأخيرا سلطة المساءلة.
سلطة الترخيص والتصريح:
أول سلطة تنظيمية منحها القانون للهيئة تقوم على منح التراخيص والتصاريح. ومنها:
الترخيص للشركات الإعلانية ومحطات التلفزيون والإذاعة والمواقع الإلكترونية التي تريد أن تعرض أعمالاً دعائيّة وإعلانية مدفوعة، بعد أن تتقدم هذه المؤسسات بطلب إلى الهيئة تحدد فيها أسعار الدعاية والإعلانات والمساحات المخصصة لها.
وبمراجعة بيانات الهيئة المنشورة على موقع الإنتخابات الإلكتروني، يتبدى أن الهيئة نشرت إعلانا يحمل الرقم 7 منحت من خلاله 38 وسيلة إعلامية من تلفزيون وإذاعة ومواقع إخبارية إلكترونية وشركات إعلان الحق ببث الإعلانات الانتخابية. وقد أرفقت جميع هذه المؤسسات، في الطلب الذي تقدّمت به إلى الهيئة، بلائحة أسعارها والمساحات التي ترغب في تخصيصها للدعاية والإعلان الانتخابيين، حسب ما جاء في بيان الهيئة المذكور.
منح تصاريح خاصة للوسائل الإعلامية التي ترغب بمراقبة عمليات الاقتراع والفرز. وفي هذا الإطار، وضعت الهيئة قواعد عامة لمنح التصريح وقوامها أن تكون الوسيلة الإعلامية اللبنانية مرخّصة من قبل الدول اللبنانية وفق القوانين المرعيّة الإجراء وأن يكون للوسائل الإعلامية الأجنبية مكتب تمثيل في لبنان، من دون أي زيادة أو تفصيل. كما أصدرت القرار رقم 8 عن تحديد قواعد السلوك للوسائل الراغبة في المشاركة بتغطية الفرز والاقتراع، غير أننا لم نجد في منشورات الهيئة أي لائحة بالوسائل الإعلامية التي منحتها التصريح المذكور.
سلطة وضع قواعد عامة وملزمة:
فوّض المشرع الهيئة صراحة مهمة وضع قواعد عامة لتأمين ديمقراطية الانتخابات. سنستعرض هذه المهام تباعا على أن نبين كيفية أداء الهيئة والعوائق التي اعترضتها بالنسبة إلى كل منها:
مهام متصلة بضمان التمييز بين الإعلام والإعلان الانتخابيين. فالقانون يشدد على التفريق بين الإعلام والإعلان والدعاية. فيوضح أن العمل الإعلامي هو مجانّي طالما أنّه يهدف إلى ضمان التعددية وإبراز الاختلاف والتباين بين مختلف اللوائح المتنافسة من دون أي انحياز وتعزيز اطلاع الناخب على الخيارات المطروحة عليه، وذلك بعكس الدعاية والإعلان اللذين هما مقابل بدل وتعرضها الوسيلة الإعلامية. ومنعا للغط، فرض القانون على وسائل الإعلام أن توضح في كل مرة تبث فيها مادة إعلانية على أنها كذلك، بما ينبه الناخبين أن المادة تعكس الطريقة التي يود المرشح تصوير نفسه بها وأن الوسيلة الإعلامية تعرضها من دون أن تكون بالضرورة موافقة على مضمونها أو أن تكون هذه المادة خضعت لأي تحقيق إعلامي. ولهذه الغاية، فوض القانون الهيئة صراحة تحديد المعايير التي تسمح بالتمييز بين الإعلام والإعلان الانتخابيين. ورغم أن الهيئة على بينة بوجود خلل كبير في هذا الخصوص كما نستشف من بيانها الصادر في كانون الثاني 2022 والذي تحدثت فيه عن زج مخالف للقانون بين ما هو مادة إعلامية وما هو مادة دعائيّة من دون تمييز المادة الإعلانية تهرّبًا من التصريح عن النفقات المتصلة بها في البيان الحسابي الشامل، فإنها لم تضع لائحة بأي معايير للتمييز بينهما. بل اكتفت بأن نبهت وسائل الإعلام إلى أحقيتها بالتحقيق فيما إذا كان أي ظهور إعلامي يخفي إعلانا انتخابيا وأن تتخذ التدابير القانونية لوضع حد لهذا الأمر.
مهام متصلة بتحديد المساحات القصوى المخصصة للإعلام أو الإعلان الانتخابيين وأوقات البث والنشر (مادة 71). تضع المادة أن على الهيئة أن تراعي عند ممارسة هذه السلطة “مقتضيات الإنصاف وحق المرشحين في المساواة في الظهور الإعلامي ضمن حدود القانون والمنافسة الانتخابية المشروعة وفق المعايير المنصوص عليها أعلاه.” إلا أن الهيئة لم تصدر أي تعاميم بهذا الخصوص.
إصدار توصيات ملزمة لوسائل الإعلام بما يضمن التوازن والحياد في المعاملة بين المرشحين، وذلك في إطار السهر على احترام حرية التعبير عن مختلف الآراء والتيارات الفكرية في برامج وسائل الإعلام أثناء فترة العملية الانتخابية (مادة 72). غير أنّنا لم نجد في مجمل البيانات والإعلانات والقرارات التي أصدرتها الهيئة منذ بداية عملها في ما يخص الانتخابات التي جرت سنة 2022 أيّة توصيات في هذا الخصوص. ويمكن مراجعة في هذا الخصوص تقرير جمعية مهارات حول أداء الإعلام الانتخابي التلفزيوني في الانتخابات النيابية 2022 الذي يذكر جميع هذه المخالفات كما مخالفات أخرى سنذكرها تباعاً.
بالمقابل، مارست الهيئة صلاحياتها بموجب المادة 19 البند الثاني من قانون الانتخابات الذي يوليها مهمة وضع قواعد سلوك للتغطية الإعلامية لعملية الاقتراع والفرز. وفي هذا الإطار، أصدرت الهيئة القرار رقم 8. وقد جاء فيه أن على الوسيلة الإعلامية أن تمتنع عن بث الترجيحات واستطلاعات الرأي (في نهار الاقتراع طبعاً) غير أنها لم توضح ما إذا كان هذا المنع يتوقف عند إقفال الصناديق أو يمتدّ إلى وقت الفرز لأن وسائل الإعلام اعتادت بثّ الترجيحات بعد انتهاء عمليّة الفرز. وفي كلّ حال إن هذا المنع لا يشمل بثّ نسب الاقتراع التي تنشرها أصلاً وزارة الداخلية للعموم بشكل دوري في نهار الاقتراع. تتابع الهيئة فتملي على الوسائل الإعلامية التقيّد ببث المعلومة الصحيحة والإضاءة على الشوائب بطريقة “موضوعيّة” وتضيف “دون التدخل في عمل القضاء أو الأجهزة الأمنية الرسمية”.غير أن هذه العبارة مطاطة ومبهمة وتحتمل التأويل، إذ إن من واجبات الإعلام الإضاءة على عمل القضاة المولجين إدارة الفرز وإظهار الشوائب في عملهم كذلك في عمل قوى الأمن والجيش المولجين الحفاظ على الأمن. فما هو معيار التدخل وإلى أي حدّ يُسمح للإعلام بالإضاءة فعليًّا على ممارسات هؤلاء وأين تسمح الهيئة لنفسها التدخل؟ كما تسمح الهيئة في قرارها للوسائل الإعلامية المرخصة بالحصول على المعلومات والبيانات المعلنة والمتعلقة بمجريات العملية الانتخابية، كما تقديم شكوى مباشرة لرئيس القلم في حال تعرّض الوسيلة الإعلامية إلى ما يعيق عملها، والسماح لها بالدخول إلى أقلام الاقتراع والفرز. وفي هذه النقطة الأخيرة، تبيّن لنا من مشاهداتنا أن عدداً من الإعلاميين مُنعوا من دخول أقلام الاقتراع والفرز في عدد من الأماكن لا سيما من قبل رؤساء الأقلام ما أدّى إلى نداءات من قبل الإعلاميين إلى الهيئة لتصويب الأمر. غير أنه لم يتبيّن لنا في منشورات الهيئة في يوم الاقتراع أيّة ملاحظة واضحة في هذا الشأن حيث اكتفت الهيئة، لا سيما في تقييمها لنهار الاقتراع الذي ذكرناه سابقاً، بالتنديد بالشتائم والتعابير التي تثير النعرات وبمخالفة الصمت الانتخابي، من دون العودة إلى المخالفات التي ضيّقت على عمل الإعلاميين، لا سيما في أقلام معيّنة نظراً للتوجهات السياسيّة المسيطرة عليها واختلافها مع توجهات بعض المحطات التلفزيونية والإذاعية.
كما أوجبت الهيئة على الوسائل الإعلامية في الوثيقة نفسها عدم ارتداء شارات حزبيّة والامتناع عن أي تصرّف يخلّ بالعمليّة الانتخابية والالتزام بتعليمات رئيس القلم. كما منعت الصحافيين من إجراء مقابلات مع الناخبين داخل قلم الاقتراع كما ورد في البند الثالث من المادة الخامسة من القرار رقم 8. إلا أن الوسائل الإعلامية خالفت هذا الموجب بشكل واضح ومكثّف حيث أجرت العديد من المقابلات مع المقترعين داخل القلم منها مثلاً مقابلة مع المخرج زياد دويري في قلم اقتراع باريس على قناة MTV والتي أخذت رواجاً كبيراً فضلاً عن العديد من المقابلات في دوائر الإقتراع في نهار 15 أيّار. كما شهدنا في اليوم عينه صباحاً في قلم الطوائف الأرمنية في منطقة المدوّر حيث سأل الصحافيون الناخبين عمّن سينتخبون. ولم يتبيّن لنا من متابعتنا لمنشورات الهيئة أيّ تصويب واضح على هذه الظواهر لاسيما في تقييمها لانتخابات الاغتراب في بداية تقييمها الأولي لمجريات العملية الانتخابية ولا في البيان العاجل الذي أصدرته يوم الانتخابات لحضّ الوسائل الإعلامية على احترام القانون بعد مشاهدتها العديد من المخالفات حسب ما جاء في البيان، فبقيت الهيئة في التعابير العموميّة ولم تحدد الأخطاء والمخالفات.
غير أنه في إعلانٍ يحمل الرقم 11 أصدرته الهيئة للتكلم عن موجبات الإعلام ابتداءً من الساعة صفر، أعادت الهيئة طرح موضوع منع المقابلات وفصّلته حيث كررت منع إجراء المقابلات مع الناخبين ولكن استثنت من ذلك ما هو “عفويّ” و”فوري” وذلك “لإبداء الرأي في مجريات العمليّة الأنتخابيّة”.
يتبيّن لنا إذاً أنّه فيما عدا تحديد قواعد السلوك لوسائل الإعلام في تغطية الإقتراع والفرز، تلكأت الهيئة عموما عن ممارسة مسؤوليتها في وضع العديد من قواعد عامة وملزمة لوسائل الإعلام والمرشحين.
سلطة تفسير القانون بما يتصل بصلاحياتها
فضلا عن سلطتها في وضع قواعد عامة بتفويض من المشرع، لها في سياق القيام بمهامها أن تفسر القانون في كل ما يتصل بممارسة صلاحياتها تمهيدا لاتخاذ الخطوات المناسبة. وبالطبع، يبقى تفسيرها للقانون في هذا الخصوص قابلا للطعن طالما أنه يعكس اجتهادا منها من دون أن يكون لها أي تفويض تشريعي بذلك. وتجدر هنا الإشارة إلى أمرين بارزين:
الأول، تدخلها لتفسير القانون على نحو يمدّد فترة الصمت الانتخابي: وعليه، شهد لبنان خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة أربع فترات من الصمت الانتخابي وفقا للتفسير الذي أعطته الهيئة للمادة 78 من قانون الانتخابات. فقد أصدرت هيئة الإشراف البيان رقم 14 الذي فصّلت فيه هذه الفترات انطلاقاً من المراحل الأربعة للانتخابات النيابية وهي مرحلتي الانتخابات في الخارج، ومرحلة انتخاب الموظفين العموميين المشاركين في تنظيم الانتخابات، والمرحلة الأخيرة وهي الانتخابات العامة داخل الأراضي اللبنانية.
وتنص المادة 78 من القانون على أنه “ابتداءً من الساعة الصفر لليوم السابق ليوم الانتخابات ولغاية إقفال صناديق الاقتراع، يحظر على جميع وسائل الإعلام بث أي إعلان أو دعاية أو نداء انتخابي مباشر باستثناء ما يصعب تفاديه من صوت و/أو صورة لدى التغطية المباشرة لمجريات العمليات الانتخابية. في يوم الاقتراع، تقتصر التغطية الإعلامية على نقل وقائع العملية الانتخابية. “
وفي حديثنا مع رئيس هيئة الإشراف القاضي نديم عبد الملك، سألناه عن مدى صوابيّة فرض أربع فترات من الصمت الإنتخابي خصوصا أن هذه الفترات تقع في أشدّ أوقات الحملات الانتخابية حماسة واندفاعا فتقطّعها بشكل يفتقر إلى الانتظام. وقد تفهّم رئيس الهيئة وجهة النظر هذه بيد أنه اعتبر أن قانون الانتخابات هو قانون خاص ولا يجوز التوسّع في تفسيره. فوجود أربع محطات انتخابيّة يفرض وجود أربع فترات صمت انتخابي، أكانت المحطة الانتخابية في لبنان أو في الخارج. غير أن رئيس الهيئة اعترف أنه بالنسبة للانتخابات في الخارج وفرق التوقيت لا إمكانية للمراقبة الجديّة والفعليّة.
وكان أحد المرشحين شكري حداد تقدم بدعوى أمام قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شوّاح معتبرا أن القرار بتوسيع فترة الصمت إنما يؤدي إلى حرمانه من حرية التعبير من دون أن يكون هنالك أي ضرورة تفرض ذلك وقد قبلت القاضية شوّاح الدعوى بتاريخ 12 أيار الطلب مصدرة قرارا باعتبار قرار الهيئة غير ذي مفعول بالنسبة للمرشح حداد. وعند سؤال رئيس الهيئة بهذا الشأن، أجاب أنه يعتبر أن القضاء المستعجل ليس صالحا لمراقبة قانونية أعماله حيث أن الصلاحية تعود إلى مجلس شورى الدولة.
الثاني، تدخلها لمنع الإفلات من الرقابة على الظهور الإعلامي والإنفاق من خلال تأخير إعلان الترشيح:
وبالفعل، في إطار تنظيم الدعاية الانتخابية أيضاً، أصدرت الهيئة في كانون الثاني 2022 بياناً أوضحت فيه أن بعض المرشحين شرعوا بحملاتهم الانتخابية بما فيها الدعاية والإعلان قبل تقديم ترشيحهم رسميًّا حيث يتريثون بالترشح حتى اللحظة الأخيرة تهرّبًا من تقديم التصاريح عن حملتهم في الفترة السابقة لترشحهم. لذلك، اعتبرت الهيئة أن الحملة الانتخابية تبدأ من تاريخ فتح باب الترشح موجبة على الوسائل الإعلامية كما على المرشحين واللوائح إفادتها بجميع النفقات الدعائية والإعلانية التي حصلت في الفترة المذكورة ووجوب إدراجها في حساب النفقات الشامل النهائي.
بينما قامت الهيئة بتفسير القانون في شأن الصمت الانتخابي وفي شأن بداية الحملة الإنتخابية وتهرّب بعض المرشحين من التصريح عن إنفاقهم على الدعاية والإعلان، إلّا أنها بقيت في غالب الأحيان متحفظة في التوسع في تفسير القانون على نحو يعزز دورها. وقد تمثل ذلك بشكل خاص في تمنع الهيئة عن نشر معطيات هامة تهم الرأي العام مثل نشر جداول الأسعار المقدمة من الوسائل الإعلامية مقابل الإعلان والدعاية الانتخابيين أو تفصيل المصاريف الانتخابية للمرشح أو اللائحة لاسيما لجهة تبيان المصاريف المتعلقة بالدعاية والإعلان الانتخابيين. وبالرغم من انّ القانون لا يلزمها بنشر هذه المعلومات، فإنه لا يمنعها أيضاً عن ذلك،
سلطة تنظيمية مباشرة:
إلى ذلك، منح القانون الهيئة سلطة تنظيمية مباشرة في مجالين اثنين:
مجال الإعلام الانتخابي في وسائل الإعلام الخاص: يوجب القانون على الهيئة “أن تؤمن التوازن في الظهور الإعلامي بين المتنافسين من لوائح ومرشحين بحيث تلزم وسيلة الإعلام، لدى استضافتها لممثل لائحة او المرشح ان تؤمن بالمقابل استضافة منافسيه بشروط مماثلة لجهة التوقيت والمدة ونوع البرنامج.” (المادة 72-4). وتجدر الإشارة هنا إلى أن القانون لم يرتّب أية نتيجة على عدم التزام المؤسسات الإعلامية والمرشحين بمضامين القانون ولا بإرشادات الهيئة.
مجال الإعلام الرسمي: أعطى القانون اللائحة والمرشح حق الظهور على وسائل الإعلام الرسمي من دون مقابل لأجل عرض البرامج الانتخابية وفقا لأحكام هذا القانون والقواعد التي تضعها الهيئة. وقد أناط بالهيئة سلطة تنظيمية مباشرة، بحيث كلفها بأن تضع “قائمة بأسماء المرشحين واللوائح المرخص لهم باستعمال وسائل الاعلام الرسمية.” كما تضع ” برنامجا خاصا تحدد فيه مواعيد وشروط توزيع أوقات البث بين مختلف اللوائح والمرشحين مع التقيد بضرورة توفر مواعيد بث متوازنة بما يضمن تحقيق المساواة والتكافؤ في الفرص بين مختلف المرشحين وبين مختلف اللوائح.” إن هذه اللوائح جميعها لم تكن متاحة للعموم حيث غابت أيّة تفاصيل في هذا الشأن عن منشورات الهيئة على موقع الانتخابات الإلكتروني. وفي هذا الإطار، أشار البيان الأولي لبعثة المراقبة الأوروبية إلى أن محطة تلفزيون لبنان التابعة للدولة كانت تبثّ فقط برنامجًا انتخابيًّا واحدًا يتيح الظهور المجّاني للمرشحين “وكان القليل جدًّا منهم يشارك فيه” بسبب ضعف المشاهدة لهذه المحطة.
فيما يخص التوعية الانتخابية، أولت المادة 19 في بندها العاشر الهيئة “نشر الثقافة الانتخابية وإرشاد الناخبين وتعزيز الممارسة الديمقراطية بالوسائل المتاحة كافة.” وقد أشار عدد من المراقبين أن الهيئة لم تقم بجهد كبير لإقامة حملة توعية واسعة من أجل الثقافة الانتخابية. وبحسب التقرير الأولي للبعثة الأوروبية لمراقبة الانتخابات، اكتفت الهيئة بنشر 24 منشوراً على الفايسبوك يتضمن مواد تثقيفية للناخبين كالصور والفيديوهات التي طالت أيضاً الناخبين المغتربين وذوي الاحتياجات الخاصة. غير أن رئيس الهيئة في حديثنا معه اعتبر أن موجب التثقيف الانتخابي طرأ مجدداً على عمل الهيئة منذ قانون 2017 أمّا الموجب الأساسي في نشر الثقافة الانتخابية يقع أساساً وأوّلاً على عاتق وزارة الداخلية والبلديات. بالإضافة إلى ذلك، إن قراءة الهيئة للبند العاشر من المادة 19 هو أن عمل الهيئة في هذا الشأن هو عمل إضافي وتكميلي لعمل الوزارة، بما أوتيت الهيئة من قدرات وهي أصلاً قليلة. وقد اعتبر القاضي عبد الملك أن الهيئة قامت بتثقيف انتخابي عبر استفسارات المرشّحين واللوائح حول مسائل انتخابية والتي جاوبت عليها الهيئة، واعتبر أن التقرير النهائي الصادر في سنة 2018 هو أداة تثقيفيّة بما يحتويه من معلومات، وقد أصرّت الهيئة حينها على نشره على نطاق واسع ليس فقط عبر الجريدة الرسمية لكن أيضا عبر طباعته وتوزيعه على المعنيين. ويلحظ أن ثمة تضاربا في القانون: ففي حين أنه يضع على الهيئة موجب نشر الثقافة الانتخابية، فإن المادة 75 أوجبت على وسائل الإعلام المرئي والمسموع تخصيص “ثلاث ساعات أسبوعياً على الأقل لأجل بث برامج تثقيفية انتخابية تنتجها وزارتا الإعلام والداخلية والبلديات بالتنسيق مع وسائل الإعلام المعنية”. بمعنى أن المشرع وضع هذا الموجب على الهيئة ليسرع إلى إعطاء الإمكانات لوزارتي الإعلام والداخلية وليس لها. وقد سجلت جمعية مهارات إلى أن مساحة مواد التثقيف الانتخابي الرسمي “قد انحصرت على المحطات بین 1 شباط و 15 أيار بنسبة %0.13 من مجمل مساحة التغطیة التلفزیونیة للفاعلین السیاسیین والقضایا المتعلقة بالشأن الانتخابي. ولم یتم رصد أي مواد تثقیف انتخابي صادرة عن ھیئة الإشراف على الانتخابات. ولم یلحظ أي إنتاج إعلامي مادة إعلامية انتخابية مخصصة لذوي الاعاقة”.
يتبيّن لنا إذاً أنّ الهيئة لم تقم بدورها التنظيمي المباشر. ففضلاً عن غيابها في مجال التثقيف الانتخابي الذي بررته بأنها لا تملك القدرات الماديّة والبشريّة للقيام به وأن هذه المهمّة هي أصلاً من مسؤوليّة وزارة الداخليّة والبلديات، فهي أيضاً قد قصّرت في إدارتها للمساحات الإعلاميّة على الإعلام الخاص والعام والتي هي من المهمات الموكلة إليها حصراً والجوهريّة. وعليه، شهدت المحطات الخاصة على التلفزيون تفاوتاً كبيراً في نسب الظهور بين المرشحين وغابت التعددية عن أكثريّة المحطات، حتى في برامجها المخصصة أقله في الظاهر للإعلام الانتخابي.
وفي هذا الإطار، أوصت البعثة الأوروبية في تقريرها النهائي بتعديل المادة 73 من قانون الانتخابات بهدف “الوصول الحر والمتساوي للمرشحين وقوائم المرشحين إلى وسائل الإعلام التابعة إلى القطاع العام، بما في ذلك مؤسسة تلفزيون لبنان وإذاعة Radio Liban، التي يجب أن يتم منحها وتنظيمها باستمرار تحت مراقبة هيئة الإشراف على الإنتخابات”. فتلفزيون لبنان لم يبث إلّا برنامجاً واحداً فقط يتيح ظهور المرشحين على الهواء، وقد شارك القليل منهم كما ذكرنا.
سلطة الرقابة لضمان التزام وسائل الإعلام بالأحكام القانونية وتوجيهاتها:
تتولى الهيئة مراقبة وسائل الإعلام ضمانا لاتخاذ الإجراءات اللازمة عند الاقتضاء. وفي حين فرض القانون على وسائل الإعلام تزويد الهيئة ببيانات معينة تسهيلا لعملها الرقابي، فإنه أتاح بطبيعة الحال لها ممارسة رقابتها التلقائية.
موجب وسائل الإعلام بتزويد الهيئة:
يشمل هذا الموجب تسليم الهيئة نسخة عن أشرطة الدعاية الانتخابية قبل ثلاثة أيام من بثها وتلزم الوسيلة الإعلامية بالتوضيح صراحة عن أن الإعلان المبث مدفوع وأن تصرّح عن الجهة التي طلبت بثه. إلا أن المزج الحاصل بين المواد الإعلامية والمواد الإعلانية وما يرشح عنه من التفاف على القانون أدى عمليا إلى تجاهل هذا الموجب. وهذا ما نستشفه من إعلان الهيئة الرقم 6 والذي طلبت فيه من مؤسسات الإعلان والإعلام التقيّد بموجبات المادة 71 من القانون التي تمنع قبول الدعاية المجانية وتلزم المرشح بتسليم المادة الإعلانية للوسيلة الإعلامية ومنها للهيئة قبل بثه.
وحتى في حالات الظهور الإعلامي التي تعاملت معه الهيئة على أنه إعلان انتخابي، فإن المعلومات المسلمة للهيئة عن البدلات المستوفاة كانت في حالات كثيرة غير صحيحة و”زائفة” وفق بعثة الاتحاد الأوروبي من دون أن يتسنى للهيئة التحقق منها. وهذا ما أفادنا به رئيس الهيئة حيث أشار إلى أن القانون يوجب على المرشحين واللوائح أن ينفقوا على حملتهم من حسابهم الانتخابي حصراً وبموجب شيك إذا تعدّت قيمة النفقة المليون ليرة، وهو أمرٌ سهل الالتفاف عليه. غير أن تكتم الهيئة عن رصدها للمخالفات أثناء الحملة قد منعنا من معرفة تطوّر مراقبتها وكيفية تعاملها مع ما تصادفه من مخالفات. وفي هذا الإطار، أقرّت هيئة الإشراف للبعثة أنه لم يكن لها القدرة على مراقبة العمليات النقديّة (الكاش) بينما دفع النفقات الانتخابية كان يتم في أغلبية الأحيان بهذه الطريقة.
كما جاء في تقرير البعثة الأوروبية أن وسائل الإعلام الرئيسيّة أكدت لها أنّ الأسعار الرسميّة التي أرسلتها إلى هيئة الإشراف على الانتخابات كانت “وهميّة” ومقدّرة بأسعار تقلَل من شأنها وكررت الهيئة الأوروبية هذا الأمر في بيانها النهائي حيث وُصفت الأسعار بال”مزيفة”، وذلك خلافًا للقانون وكانت عمليات الدفع تتم نقدًا.
فضلا عن ذلك، أكدت البعثة أن “معظم محطّات البث التفليزيونيّة لم تلتزم بواجبها عرض شعار”برامج مدفوعة الأجر” أو “Sponsored program” على شاشاتها عندما تكون تغطيتها الانتخابيّة مدفوعة الأجر، بما في ذلك بالنسبة للنقل المباشر للحملات. وكانت جمعية مهارات قد تطرّقت أيضاً إلى هذا الموضوع في تقريرها حول أداء الإعلام الانتخابي التلفزيوني في الانتخابات النيابية 2022 حيث أشارت إلى وجوب وضع علامة فارقة على المحتوى الإعلامي المدفوع الأجر وأن هذا الموجب لم يحترم.
وقد اعتبرت البعثة في بيانها الأولي أن معظم وسائل الإعلام الخاصة، بما في ذلك المواقع الإلكترونية الإخبارية المحلية والمحطات الإذاعية، “حدّدت رسومًا مقابل التغطية الإعلامية للمرشّحين، مع أسعار مرتفعة بشكل ملحوظ لقنوات التلفزيون الخاصة الرئيسية. وصرّحت مؤسسات البث أنّها قدّمت أيضًا وصولا مجّانيا لمرشّحين أقل اقتدارًا، بمن فيهم “مرشحي الثورة”، على أساس كل حالة على حدة.” وفي رصدها للمخالفات، أوضحت البعثة في بيانها أن “القنوات التلفيزيونيّة المحسوبة على جهات سياسية قدّمت الوصول المجاني والتغطية المدفوعة الأجر على حدّ سواء، بحسب الحزب السياسي الذي ينتمي إليه المرشّحين”.
رقابة تلقائية:
إنّ محدوديّة أدوات المراقبة التي بحوزة الهيئة معروفة وتؤدّي إلى تكبيلها في عملها إلى حدٍّ كبير.
أوّلاً وكما ذكرنا سابقاً، فإن الهيئة تعتمد في مراقبتها على 30 مراقباً يعملون لساعات محدودة بسبب عدم توفير الكهرباء بعد الساعة السادسة مساءً. إن هؤلاء المراقبين، فضلاً عن مراقبتهم وسائل الإعلام التقليديّة والمواقع الإلكترونيّة، قد أوكلوا مهمّة جديدة في انتخابات 2022 وهي مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي. وبحسب رئيس الهيئة، فإنّ موضوع التواصل الاجتماعي هو في صلب المراقبة المنصوص عليها قانوناً إلّا أنّها تعذّرت في الانتخابات السابقة لعدم وجود التقنيات الضرورية لها، بينما في انتخابات 2022 تأمّنت هذه التقنيات. ولدى سؤالنا له عن مدى إمكانيّة مراقبة وسائل التواصل بشكل كامل، اعترف رئيس الهيئة بصريح العبارة أنّ الهيئة لم تتمكن من إتمام مراقبة شاملة كاملة على كافة وسائل التواصل الاجتماعي نظراً للكميّة الهائلة من المعلومات الواردة فيها، وأن الهيئة لم تتمكّن حتّى من إتمام مراقبة كاملة على الإعلام التقليدي بسبب غياب القدرات البشريّة والتقنيّة الكافية. فمن المؤكّد إذاً أن المخالفات ال592 التي أحصتها الهيئة وأحالتها على محكمة المطبوعات ليست إلّا عيّنة عن الفوضى الإعلامية التي حصلت.
وعلاوة على أن الهيئة لم تقم بدورها التوجيهي المشار إليه أعلاه لجهة تحديد كيفيّة الاستضافة على المحطات الإعلامية وتقسيم وقت الهواء على الشاشة أو الراديو، فإنها لم تصدر أيضا أي بيان بالمخالفات التي حصلت. وجل ما نشرته حتى الآن (وبانتظار تقريرها النهائي) هو تقييم أوليّ عن مجريات الانتخابات اعتبرت فيه أن الانتخابات التي حصلت في 7 و 8 و 12 أيار شهدت التزاماً مقبولاً من قبل الإعلام والمرشحين لاسيما في موضوع الصمت الانتخابي. أمّا في يوم 15 أيّار فكان الوضع مغايراً جدًّا ورصدت الهيئة كمًّا هائلاً من المخالفات. وتجدر الإشارة هنا إلى نمطيّة في تقارير الهيئة في التركيز على موضوع الصمت الانتخابي وكأنه المعيار الأهم لصحة العمليّة الانتخابية، مهملةً بهذا المواضيع الأخرى كحرية التعبير والمساواة والحياديّة وكل ما ذكرناه سابقاً في منشوراتها. وهذا الرضى النسبي للهيئة يتناقض بالواقع مع ما خلص إليه سائر المراقبين الأروبيين أو المحليين. فقد ورد في البيان الأولي لبعثة المراقبة الأوروبية أنه “خلافًا للقانون، تخلّفت وسائل الإعلام عن تأمين الظهور المتساوي لجميع المرشّحين واللوائح”. ويضيف أنه “فضلاً عن ذلك، فضّلت وسائل الإعلام المحسوبة على أطياف سياسيّة بشكل رئيسي لوائحها الخاصة ومرشّحيها، ما أسهم في عدم تحقيق التوازن في التغطية الإعلامية الانتخابيّة لصالح الأحزاب السياسية الأساسية.” كما اعتبر البيان الأولي للبعثة الأوروبية ” أنّ المناظرات التلفزيونية كانت نادرة بين المرشّحين.” وفي تقريرها النهائي صفحة 21 اعتبرت البعثة أن وسائل الإعلام فشلت في توفير فرص للتعرف على جميع المرشحين وقوائمهم بالتساوي. ويعود ذلك بحسب التقرير إلى التدفّق الانتقائي للمحتوى الانتخابي المدفوع خصوصاً على المحطات التلفزيونية الخاصة الرئيسية، فضلاً عن دعم المحطات التابعة للأحزاب كالمنار (حزب الله) وال أن بي أن (حركة أمل) وال أو تي في (التيار الوطني الحرّ) للوائح التابعة لها. وبحسب جمعية مهارات في تقريرها عن التغطية التلفزيونية للانتخابات النيابيّة لشهر آذار 2022 أنّه ” يبدو واضحا أن هناك بعض المحطات التي تحصر تغطياتها بالقوى السياسية التقليدية مثل المنار إذ تغيب القوى السياسية الناشئة عنها كليا. وقد أشارت مجدداً جمعية مهارات في تقريرها النهائي حول أداء الإعلام الانتخابي التلفزيوني في الانتخابات النيابية 2022 إلى الفروقات كبيرة في الظهور بين الأحزاب السياسية بنتيجة الحملة الانتخابية كاملةً ونجد بيانات مفصلة ومعبرة بهذا الخصوص ص 44 و 45 من التقرير المذكور حول التفاوت بين الأحزاب السياسية في الظهور.
من الملاحظ أن المحطات التي تخضع مباشرة لسيطرة قوة سياسية بعينها هي أقل عدالة واحتراما للتعددية، بينما يعتبر دور تلفزيون لبنان بتخصيص المساحة الكبرى من تغطيته للأحزاب التقليدية خرقا لمبدأ حياد الإعلام الرسمي الذي كرسه قانون الانتخابات. في هذا الإطار، يبيّن تقرير جمعية مهارات حول أداء الإعلام الإنتخابي التلفزيوني في الانتخابات النيابية 2022 عن فرق في ظهور مرشحي قوى التغيير بين المحطات. فيفيد التقرير بأن: “جاءت محطتا LBCI MTV في مقدّمة القنوات التي ظھر فیھا مرشحون من “قوى التغییر” في البرامج الحواریة بنسبة تزید على 30%، تلیھما مباشرة محطة AL JADEED بنسبة 25%. بینما تغیب كلیا عنھم محطة ALMANAR، كما جاءت النسبة في NBN شبھ معدومة بنسبة 0.14%، وبمساحة ضئیلة في محطة OTV بنسبة 3.80%، وبنسبة متواضعة في TL بلغت 7.41%.”
ويسجل أن بعثة الاتحاد الأوروبي دونت في بيانها الأولي (الصادر بتاريخ 17 أيار 2022) أن هيئة الإشراف، ” لم تتصرف بشكل حيادي، مستقل، شفاف ذات سلوك متناسق لضمان التزام وسائل الإعلام بالقوانين الخاصة بها”. وأنها لم تصرّح “عن معلومات كافية حول المخالفات المتعلّقة بوسائل الإعلام للرأي العام أو لبعثة الاتّحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات.”
يتبيّن إذاً أنّ فعالية هيئة الإشراف على الانتخابات في في مراقبة الإعلام والإعلان الانتخابيين تبقى جدّ محدودة. وهذا الأمر يبدو جليا في عجزها عن إجراء توثيق كاف لثلاث مخالفات جسيمة تثبت منها المراقبون المحليون والدوليون تمهيدا لمحاسبتها، وهي على التوالي المزج بين الإعلام والإعلان وزيف البدلات وعدم مراعاة وسائل الإعلام مبدأيْ التعددية والحيادية.
مطالبة وسائل الإعلام بتزويدها بمعلومات إضافية
من المهمّ التنويه في هذا المجال أن القانون لم يمنح صراحة الهيئة صلاحية عامة بطلب معلومات تتصل بأداء وسائل الإعلام في الانتخابات النيابية. وهنا أيضا بقيت الهيئة حذرة في توسيع صلاحياتها.
المساءلة والملاحقة
لم يمنح القانون الهيئة سلطة المعاقبة، إنما فقط توجيه تنبيه أو الإحالة إلى النيابة العامة لإجراء المقتضى. وبالنظر إلى محدودية هذا الدور، طورت الهيئة أشكالا مختلفة من التدخلات البديلة بهدف تجنّب وقوع المخالفات أو التخفيف منها. عدا عن أنه ليس للهيئة سلطة فرض عقوبات، فإن المخالفات العديدة المرسلة إلى محكمة المطبوعات سنة 2018 بقيت بمعظمها دون بتٍّ حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر، ، إذ لا يوجد في قانون الانتخاب أي مهلة للبت بهذه الطعون.
التذكير بالقانون
نلحظ أن الهيئة قد طورت آلية التذكير بالقانون. وهذا مثلا ما أفادنا به رئيس الهيئة لجهة أنها على خلفية ما وقع من مخالفات في انتخابات سنة 2018، بادرت إلى دعوة وسائل الإعلام كافة إلى اجتماع تعارف وتنسيق، أُريد منه إرساء جوٍّ من التفاهم بين الهيئة ووسائل الإعلام لحثّها على احترام القانون دون الدخول في صراعٍ ودون الاضطرار إلى استعمال أدوات الملاحقة القانونية. غير أنّه، وبالرغم من الجوّ الإيجابي والنيات الحسنة التي ظهرت في الاجتماع، إلّا أنّ الممارسات كانت معاكسة وكانت المخالفات للقانون بالجملة.
التنبيه
في حين يفترض القانون أن التنبيه هو التنبيه الموجه إلى فرد أو وسيلة بعينها، فقد عمدت هنا أيضا الهيئة من باب تخفيف الاصطدام المباشر بوسائل الإعلام، توجيه ما صح اعتباره تنبيها عاما وإن كان ينطبق على عدد محدود من الوسائل أو الأشخاص. وعليه، أصدرت الهيئة بياناً نبّهت فيه لوجود استغلال للمساحة الإعلامية من قبل إعلاميين مقدمي برامج ومعديها هم في نفس الوقت مرشحين للانتخابات النيابية، حيث كان هؤلاء يمارسون عملهم الإعلامي في وقت الحملة الانتخابية ويستغلون برامجهم للتسويق لأنفسهم ومشاريعهم الانتخابية بشكل مباشر أو غير مباشر، ضاربين بذلك موجبات الحياديّة وتكافؤ الفرص والمساواة في الظهور الإعلامي المفروضة على وسائل الإعلام والمنصوص عليها في القانون، كما الخلط بين الإعلام والإعلان الانتخابي المدفوع الأجر الذي سنتحدث عنه لاحقاً. وعليه طلبت الهيئة في البيان المذكور من وسائل الإعلام الالتزام بالقانون تحت طائلة الملاحقة القانونية، من دون أن تحدد هوية الإعلاميين المقصودين ولا البرامج التي يقدمونها. لكن تبعات هذه الملاحقة القانونية لم تظهر للعيان في منشورات الهيئة التي كانت تكتفي بالتنبيه دون إظهار ما هي الإجراءات التي اتخذتها لاحقا.
تلقي الشكاوى
عبّرت الهيئة في إعلانها رقم 9 عن استعدادها لتلقي الشكاوى المتعلقة بالحملات الانتخابية عملا بالمادة 19-11 تنص على أن للهيئة : “تلقي الشكاوى في القضايا المتعلقة بمهامها والفصل بها، ويعود لها أن تتحرك عفواً عند تثبتها من أية مخالفة وإجراء المقتضى بشأنها.” إلّا أنها انتُقدت على إعلانها هذا من قبل جمعية لادي. إذ إن الهيئة تتحدث في إعلانها عن تلقي الشكاوى الواردة إليها من “المرشحين واللوائح الانتخابية والجهات السياسية الحزبية المعنية”. وقد فسّرت الجمعية الإعلان على أنّ الهيئة لا تستقبل الشكاوى إلّا من قبل من ذكرتهم فيه أي المرشحين واللوائح أو الأحزاب أو الجهات السياسية. وقد اعتبرت جمعية لادي أن ذلك يحرم المواطنين من الاستفادة من هذه الإمكانية، مضيفة شرطاً إقصائيًّا لم يضعه القانون أصلاً. غير أن رئيس الهيئة اعتبر أن الهيئة ما كانت لترفض شكاوى الناس مشترطا رغم ذلك أن تتوفر لدى الشخص المذكور الصفة والمصلحة. واعتبر أنّ ما أوردته الهيئة في إعلانها من تعداد للجهات التي بإمكانها أن تتقدم بشكاوى ما هو إلّا تسهيل لصاحب الشكوى وتعداد على سبيل المثال وليس الحصر. وأضاف أن أصحاب المصلحة هم عموماً المرشحين واللوائح، وأنّ ما من شيء يمنع المواطنين من التقدم من الهيئة بإخبار في الحدّ الأدنى.
وقد أوردت جمعية مهارات أن هيئة الإشراف :”لم تعتمد أّيّ شفافیة في عملھا لناحیة الإعلان عن نوع الشكاوى التي تلقتھا خلال العملیة الانتخابیة والجھات التي قدمتھا ومسار التحقق منھا”.
الكشف عن المخالفات التي تم رصدها
باستثناء رقم المخالفات المحالة، أبقت الهيئة كل ما يتصل بها قيد الكتمان. ويسجل أن بعثة الاتحاد الأوروبي دونت في بيانها الأولي (الصادر بتاريخ 17 أيار 2022) أن هيئة الإشراف “لم تتصرف بشكل حيادي، مستقل، شفاف ذات سلوك متناسق لضمان التزام وسائل الإعلام بالقوانين الخاصة بها”. وأنها لم تصرّح “عن معلومات كافية حول المخالفات المتعلّقة بوسائل الإعلام للرأي العام أو لبعثة الاتّحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات.” وبشكل أكثر تفصيلا، أشارت بعثة الإتحاد الأوروبي في تقريرها النهائي أن الهيئة لم تشارك المعلومات الكافية حول انتهاكات الوسائل الإعلامية للقانون لا معها ولا مع الناس. فأضحى المواطنون يرون المخالفات الإعلامية والإعلانية تتوالى ولا يرون بالمقابل تحرّكاً علنيًّا للهيئة وهذا ضربٌ لصدقيّة الهيئة والإنتخابات معاً ما يفقد المواطن الثقة بالعملية الإنتخابية ويشكك في مصداقيتها.
وعند سؤال رئيس الهيئة عن هذا الأمر، صرح أن الهيئة سنة 2022 كما في سنة 2018 كانت منهمكة في تحضيراتها وفي قيامها بعملها ولم يتسنّى لها الظهور الإعلامي المكثف مع لفت الإنتباه على أنّها قامت بمجهود إضافي في سنة 2022.
الإحالات إلى النيابة العامة
أصدرت الهيئة بياناً بتاريخ 27 تموز 2022 أشارت فيه إلى إحالتها 592 مخالفة لوسيلة إعلامية إلى محكمة المطبوعات لقيامها بأفعال التشهير والقدح والذمّ ومخالفة قواعد استطلاعات الرأي ونشر خطاب الكراهية وخرق الصمت الانتخابي. وأشارت في البيان نفسه عن إحالة 25 شكوى إلى مختلف النيابات العامة بتهمة الرشوة وعرقلة العملية الانتخابية وغيرها.
وكانت البعثة أشارت أنه “نقلاً عن مصادر موثوقة، تمّ اعتبارًا من 28 نيسان رصد 405 مخالفة لوسائل الإعلام من قبل هيئة الإشراف على الانتخابات، تتعلّق جزئيًّا بالخطاب التحريضي المزعوم، دون الإشارة إلى اتّخاذ إجراء فعّال بهذا الشأن. اعتبارًا من 10 أيار، لم يتم إحالة أية شكاوى تتعلق بوسائل الإعلام إلى محكمة المطبوعات من قبل هيئة الإشراف على الانتخابات.”
وحتى الآن، لا نعلم كيف تتوزع هذه المخالفات ومن هم الأشخاص المعنيون بها وتقول جمعية مهارات في هذا الإطار أن الهيئة :”لم تعتمد أيّ شفافیة لناحیة الإجراءات التي اتخذتھا بحق وسائل الإعلام، مؤسسات استطلاعات الرأي، والمرشحین تطبیقا لأحكام قانون الانتخاب.” وقد أتى إضراب القضاة ليفاقم من هذا الأمر. وفي هذا المضمار، أوصت بعثة المراقبة الأوروبية بتعديل المادتين 19 و 81 من قانون الإنتخابات ” منح هيئة الإشراف على الإنتخابات صلاحيات جزائية بفرض غرامات مباشرة في الوقت المناسب و/أو تعليق البرامج على وسائل الإعلام، بما في ذلك القنوات التلفزيونية، عند انتهاك التزاماتها أثناء الحملة”.
بالنتيجة، بإمكاننا القول أنّ دور هيئة الإشراف على الانتخابات في مساءلة ومحاسبة المخالفات الإعلامية بقي هو الآخر محدودا، فضلا عن أنها آثرت آليات التذكير بالقانون والحوار على آليات المواجهة المباشرة. وقد عكس توجهها هذا محدودية صلاحياتها القانونية وانتفاء ثقتها بإمكانية محاسبة المخالفات قانونيا، فضلا عن أنه عكس خللا كبيرا في استقلاليتها وفي موازين القوى بين الجهات المخالفة والجهات الحريصة على تطبيق القانون.