الحديث عن هيئة إدارة السير والمركبات (النافعة) لا ينتهي. منذ الأزمة المالية وأحوالها لم تعرف الانتظام، آخذة معها الناس ومصالحهم رهينة. فمن ثورة 17 تشرين 2019، إلى كورونا، إلى التحقيق القضائي مع أغلب الموظفين وتوقيفهم، إلى الخلافات المستمرة مع شركة “إنكريبت” المسؤولة عن إدارة النظام الإلكتروني للهيئة وتوريد رخص السوق والسير وغيرها، لم يتمكّن المواطنون من إنجاز معاملاتهم بشكل طبيعي، فتراكمت المخالفات وصارت الفوضى هي السائدة. وحتى مع تسلّم قوى الأمن الداخلي لإدارة هيئة إدارة السير، لم يتغيّر الكثير. أولاً لأن هؤلاء لا خبرة لديهم في القطاع، وثانياً لأن المشكلات كانت بنيوية ويحتاج حلّها إلى نفضة فعلية تبدأ من الصفر. تكفي الإشارة إلى أن ما يزيد عن 250 ألف شخص بلغ سنّ الـ18 خلال السّنوات الماضية يقودون سياراتهم من دون رخص سوق لأنهم لم يتمكنوا من الحصول عليها. كذلك، فإن مئات السيارات تسير في الشوارع إما من دون لوحات تسجيل أو بلوحات غير أصلية. فـ”النافعة” توقّفت منذ سنوات عن إصدار دفاتر السوق ودفاتر السيارات واللوحات الذكية وغيرها من اللوازم، واستبدلتها باستمارات ورقية مؤقتة. إذ إن شركة “إنكريبت” التي تؤمّن البطاقات البلاستيكية رفضت تسليم هذه البطاقات، احتجاجاً على عدم قبض مستحقّاتها (بسبب خلاف على كيفية احتساب قيمة العقد بعد انهيار سعر صرف الليرة)، علماً أنها سبق أن توقّفت تماماً عن العمل في فترات مختلفة. فهي لم تتردّد في إقفال النافعة وحرمانها الخزينة من أموال طائلة، من خلال إطفائها نظام التشغيل والخوادم كلياً. إذ أصبح من المستحيل إنجاز أي معاملة أو الولوج إلى النظام واستخراج أيّ معلومة منه.
الشركة أصرت خلال السنوات الماضية على الحصول على مستحقاتها بالدولار. علماً أنها رفضت أن تسري عليها طريقة الاحتساب التي أقرها مجلس الوزراء في 14/4/2022 ووضع فيها معادلة تهدف إلى معالجة تداعيات الأزمة المالية والنقدية على عقود الأشغال والخدمات العامة. واعتبرت أن القرار لا ينطبق عليها، وهو ما استدعى طلب الوزارة لرأي ديوان المحاسبة.
في الرأي الاستشاري الصادر عن الهيئة العامة لديوان المحاسبة (برئاسة رئيس الديوان القاضي محمد بدران، وعضوية رؤساء الغرف القضاة عبد الرضى ناصر، انعام البستاني ونللي أبي يونس المستشارة المقررة القاضية رانية اللقيس) في تاريخ 31 آب 2023، اعتبر الديوان أن العقد مع “انكريبت” يتضمن أعمال المقاولة والكهرباء وتحديث برامج المعلوماتية وإصدار بطاقات وتقديم خدمات وصيانتها، الأمر الذي يجعله واحداً من عقود التشغيل المشمولة بقرار مجلس الوزراء، وبالتالي وجب دفع مستحقات الشركة حسب قرار مجلس الوزراء.
ما حصل حينها أنه تبيّن أن طريقة الاحتساب تلك لا يمكن تطبيقها على العقد لأنه لا يتضمن تحليل الأسعار، أي لا يتضمن، على سبيل المثال، كلفة اليد العاملة وكلفة الطاقة وكلفة الصيانة والمعدات… إذ أن دفتر الشروط كان دمج كل هذه الأكلاف في سعر دفاتر السوق أو السير. وبذلك لم يكن بالإمكان تطبيق المعادلة التي وضعها مجلس الوزراء حينها والتي يحدّد فيها أسعار دولار مختلفة لكل خدمة، ربطاً بتعدّد الأسعار الذي كان سائداً في تلك الفترة. فبحسب المادة 14 من العقد “يتقاضى الملتزم بدلاً عن كل رخصة سوق إلكترونية وعن كل رخصة سير إلكترونية للمركبات الآلية وعن كل لاصقة إلكترونية للمركبات الآلية ولا يستطيع المطالبة بأي بدل آخر عن جميع التجهيزات والخدمات التي يقدمها طيلة فترة العقد”.
خسائر هائلة من جراء تعطيل المرفق العام
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ وزارة الدّاخلية كانت قدّرت الخسائر الناتجة عن توقّف هذا المرفق بـ 23 مليار ليرة يومياً. وقد اعتبر الدّيوان حينها أنّ عدم تجاوب الشركة مع هيئة إدارة السّير التي وجّهت إليها إنذارات عدّة كي تستمرّ في تنفيذ التزاماتها، واستمرارها في تعطيل المرفق العامّ ومصالح المواطنين يوجب عليها تعويض الدولة عن هذه الخسائر. كما دعا الإدارة إلى اتّخاذ كل الإجراءات التي تؤدّي إلى إعادة تسيير المرفق العامّ ومطالبته بالتعويضات عن كافّة الخسائر اللاحقة بها، كما ملاحقة الشركة جزائيّاً أمام النيابة العامة التمييزية وإحالة الملف إلى كل من النيابة العامة لدى الديوان وإلى الغرفة القضائية المختصّة. وهو ما تؤكّد الإدارة أنه حصل من خلال إحالتها الموضوع على المراجع المختصة وتأكيدها الاحتكام للقضاء المختصّ في هذا الإطار. علماً أن لا تطورات في هذا الملف حتى اليوم.
بعد ذلك، عادت الشركة للمطالبة بمستحقاتها التي تُقدّر بنحو 40 مليون دولار نقداً، خاصة أن عقدها بالدولار. ومرة جديدة استعملت مصالح المواطنين سلاحاً في مواجهتها مع الإدارة، تارة من خلال التوقّف التام عن العمل كما حصل منذ شهرين وتارة من خلال الاكتفاء بتشغيل النظام الإلكتروني من دون تسليم البضاعة كما يحصل حالياً.
“الديوان” يجيز دفع متأخرات “انكريبت” على سعر 89 ألفا للدولار
أما الإدارة التي تؤكد أنها لم تصرف المستحقات العائدة للشركة عن الكميات المطلوبة لها في الأعوام من 2019 حتى 2024 كاملة بالتوازي مع عدم تسليم الشركة لكل الأشغال المطلوبة منها، فعادت لتطلب رأي ديوان المحاسبة بشأن عدد من الأمور من بينها معرفة مدى إمكانية تسديد الفواتير الصادرة من قبل الملتزم وغير المسدد لغاية تاريخه وفقاً لسعر الصرف المعتمد من قبل مصرف لبنان بتاريخ الإيفاء سنداً لرأي الديوان رقم 60/2024 الصادر في 15/7/2024، كون العقد مع الشركة معقودًا بالدولار الأميركي. كما سألت عن إمكانية استكمال تنفيذ المشروع وطلب الكميات المتبقية في العقد بعد تعديل أمر العمل الأخير وإصدار أمر عمل جديد يحدد الكميات المطلوبة على أن يتمّ تأمين الاعتمادات اللازمة عند تسديد الفواتير وفقاً لسعر الصرف المطبق بتاريخ الإيفاء.
وبالفعل، أصدر الديوان رأياً استشارياً في 22/8/2024، عبر هيئته العامة أشار فيه إلى أن قراره الرقم 60 ينسحب على هذه الحالة نظراً لأن العقد الموقّع مع الشركة الملتزمة مقدّم بالدولار الأميركي. كما يمكن استكمال المشروع وطلب الكميات المتبقية على أن يتم تأمين الاعتمادات اللازمة عن تسديد الفواتير وفقاً لسعر الصرف المطبّق بتاريخ الإيفاء ضمن الشروط والضوابط الواردة في العقد، تأميناً لحسن سير المرفق العام وتسييراً لمصالح المواطنين.
وشدّد الديوان على أن استكمال المشروع مع الملتزم الحالي والذي ينتهي عقده في 25/2/2025 لا يجب أن يؤخّر أو يحول دون مبادرة الإدارة لإطلاق مناقصة جديدة شفافة لتلزيم هذا المرفق الحيوي، بالإضافة إلى اتخاذ كل التدابير والإجراءات الإدارية والقانونية بسبب قيامه بتعطيل مصالح الدولة المالية ومصالح المواطنين ومن ضمنها تطبيق أحكام النكول بحقه في حال توفر شروطه ومتابعة ملاحقته جزائياً أمام المراجع المختصة ومطالبته بالتعويض عن كافة الخسائر التي تسببت بها أفعاله على الإدارة وعلى المواطنين.
وبحسب المعلومات، فقد وافق الملتزم على السير برأي الديوان، ما يشير إلى إمكانية استئناف إصدار الرخص قريباً. علماً أن ذلك سيكون مقترناً أيضاً بإقرار موازنة الهيئة التي لا يمكنها أن تدفع في غياب الموازنة التي لم تقر منذ العام 2019. وتؤكد مصادر مطّلعة أن الإدارة أعدّت بالفعل موازنتها وأرسلتها إلى وزارة المالية. علماً أنّ الهيئة استطاعت أن تراكم مبلغاً كبيراً من المال منذ العام 2022، عام تعديل الأسعار، التي احتسبت منذ ذلك الحين على سعر 89.5 ألفاً للدولار. وهي على حدّ قول مصدر مسؤول فيها مستعدة لإغراق السوق بالبطاقات، بما يلغي أي محاولة لبيعها في السوق السوداء.
“إنكريبت” تتقاضى ضعف ثمن الخدمات المقدّمة
تجدر الإشارة هنا إلى أن الديوان كان أعلن، في رأيه الاستشاري الصادر في العام 2023، إلى أن العقد الذي أنجز في العام 2015 وبدأ العمل به في العام 2016 يتضمّن أكلافاً مرتفعة للخدمات المقدمة “ما يستوجب إعادة دراسة الملفّ مالياً في إطار الرقابة على الأداء وعلى الحسابات”. إذ أنّ الشركة تقاضتْ 184 مليار ليرة قبل الأزمة، أي ما يعادل 123 مليون دولار. وبما أن كلفة تركيب لوحات السيارات بلغت خلال العام الواحد ما يقارب 10 مليارات ليرة، أي حوالي ثلث القيمة السنوية للصفقة. وإذا أضيفت الكلفة غير الدقيقة لخدمات المكننة وتأمين التجهيزات المطلوبة، فقد تلامس الكلفة 50% من قيمة الصفقة عن السنة الأولى وحدها (ما يعني أن الإدارة تدفع ضعف ثمن الخدمات المقدّمة وقبل إنجازها حتى). الأمر الذي يستوجب وفق الديوان التدقيق في الملف الراهن من حيث الكلفة ومدى اعتدال الأسعار (الأسعار المعقولة لهكذا خدمات). علماً أن الديوان كان أصدر قراراً قضائياً في 19/7/2022 خلص بموجبه إلى تغريم رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهيئة نتيجة المخالفات المرتكبة في مشروع التلزيم.
مافيا المواعيد في النافعة
النقطة الثانية التي بدأ العمل عليها، هي مسألة الخروقات التي ظهرت على المنصة الخاصة بالمواعيد، إذ تبيّن وجود غرفة عمليات تضم عشرات أجهزة الكمبيوتر مهمتها حجز عدد كبير من المواعيد لسماسرة وشركات محددين، ما يحرم المواطنين من إمكانية الحصول على مواعيد بشكل عادل. وبحسب المعلومات التي وصلت إلى إدارة الهيئة فإن هذه العملية تجري بالتنسيق مع عاملين على المنصة، وتعد مصادرها أن هذه العمليات لن تستمر حيث يجري العمل لوقفها من خلال تحديث المنصة، بما يمنع عمليات الحجز المنظّمة أو المشبوهة.
ويأتي هذا الاكتشاف بالتزامن مع إيقاف العمل بيوميْ العمل الإضافيين اللذين كانا مخصصين للشركات المستوردة منذ نحو أسبوعين، بعد اعتراضات كبيرة، وتحويل المنصّة إلى الوسيلة الوحيدة لحجز المواعيد لكلّ الناس. وللتذكير، كانت طرحت منذ فترة مسألة دفع هذه الشركات مبلغ 50 دولاراً عن كل سيارة، للعاملين في النافعة مقابل تسيير معاملاتهم. ولما بدت هذه الخطوة بمثابة رشوة معلنة، تم الاستعاضة عنها بتقديم تبرعات عينية للهيئة، مقابل يومي عمل إضافيين يخصصان لإنجاز معاملات هذه الشركات حصراً. أما التبرعات، فهي عبارة عن مازوت لتشغيل المولدات وبنزين للموظفين إضافة إلى أعمال الصيانة والقرطاسية وغيرها. وهذه التبرعات يتحمّل أصحاب السيارات كلفتها من خلال زيادة 50 دولاراً على كل معاملة.
ولما عادت النافعة إلى العمل ما بين يومين وثلاثة أيام في الأسبوع، فإن الضغط عاد مجدداً بعدما كانت أنجزت كل المعاملات المتأخرة عن السنوات السابقة في ما يتعلق بالسيارات الخصوصية وتم تسجيلها جميعها، وإن لم يكن هذا التسجيل مقترناً بتسليم دفاتر السيارات.
الموظفون يعودون إلى عملهم
إذا كانت المسألة المالية على طريق الحلّ وكذلك الأمر بالنسبة للعقد مع إنكريبت قد حلّت، فإن مسألة النقص الكبير في عدد الموظفين لن تسمح بتفعيل عمل الهيئة. إذ أن عديد النافعة لا يتجاوز 30 مدنياً و40 عسكرياً وهو عدد قليل جداً بالمقارنة مع متطلبات عملها في فروعها كافة، والتي تتعامل مع نحو مليوني سيارة في لبنان. ولحلّ هذه المشكلة، وافق وزير الداخلية بسام المولوي على إعادة 30 موظفاً من الذين كانوا أوقفوا، وتبين أنهم لم يرتكبوا جنايات بل جنحا، إلى عملهم. علماً أن المولوي كان أكد خلال استقباله نقيب المحررين أمس أن الوضع في النافعة سيعود طبيعيأ اعتباراً من الأسبوع المقبل، وسيتم توريد دفاتر السوق ودفاتر السيارات وكل من سجّلوا ولم يحصلوا على دفاترهم أصبح بإمكانهم الحصول عليها.
أما مسألة غياب اللجان الفاحصة، بعد أن أوقف جميع العاملين فيها، فقد تقرر معالجتها جزئياً من خلال تشكيل 10 لجان (من أصل نحو 50 لجنة يتطلبها انتظام العمل) من متقاعدي الأمن الداخلي، الذين بدؤوا بالفعل يخضعون لدورة تدريبية في معهد قوى الأمن الداخلي. وهذه اللجان ستكون معنية بالنظر بنحو 300 ألف طلب للحصول على دفاتر السوق.
النافعة تُبنى من جديد
بالتوازي، بدأت الهيئة، بعد موافقة مجلس شورى الدولة السير بشروط جديدة للحصول على دفاتر السوق، وأبرز هذه الشروط هي وجوب حصول المتقدّم إلى الامتحان على شهادة سوق من إحدى المدارس المرخصة. ولهذه الغاية عمدت الهيئة إلى تحويل مكاتب السوق التي تراعي مواصفات معينة، وعددها يقارب الـ300 مكتب، إلى مدارس سوق، علماً أن المعنيين في هذه المدارس بدؤوا كذلك الخضوع لدورة تدريبية في معهد قوى الأمن الداخلي.
بالنتيجة، يبدي المصدر المسؤول تفاؤلاً بأن النافعة تسير على الطريق الصحيح لإعادتها إلى الحياة، كاشفاُ أنه بعد إقرار موازنتها وإنشاء نظام جديد للحوافز، سيكون بالإمكان العمل أياماً إضافية تشمل أيضاً أيام نهاية الأسبوع، بحيث تنجز كل المعاملات المتأخرة وتعود النافعة إلى استقبال الطلبات وإنجازها مباشرة، ليخلص إلى أن النافعة تبنى من جديد، بكل ما للكلمة من معنى.