“
يمكن تعريف الهيئات العامة للرقابة وظيفيا بكونها “الهياكل التي تتولى الرقابة البعدية على أشكال التصرف في المال العام طلبا لتحسين طرقه وسعيا لكشف الإخلالات”. كما يمكن تعريف ذات الهيئات هيكليا بكونها وعلى خلاف الرقابة الداخلية هيئات رقابية خارجية على المؤسسات والإدارات. وقد تطورت هيئات الرقابة العامة وظيفيا وعدديا في تونس في سياقين متمايزين أولهما قبل الثورة وثانيهما بعدها.
قبل الثورة، حكم فكرة هيئات الرقابة المستقلة تجاذب ظاهر بين توجه تحديثي أرسى تلك الهيئات استئناسا بالتجارب الإدارية المقارنة المتطورة وتوجه حكم البلاد. وكان يفرض أن تكون كل المؤسسات خاضعة لحكم الفرد وتنفذ التعليمات التي تصلها من السلطة السياسية.
بعد الثورة، كانت تلك الهيئات وتصوّرها الوظيفي والهيكلي محكومة بصراع جديد ميّز المرحلة. وقد حصل التجاذب بين رغبة القوى السياسية الصاعدة في إرساء مؤسسات جديدة دون النظر في القديم، واستمرار الهيئات القديمة في عملها وبحثها عن تطوير مجالاته في محاولة للتكيف والنهوض.
ويبدو في هذا الإطار طرح السؤال حول التطور الحاصل مهمّا لما قد يقدمه من تشخيص لأسباب الفشل الحاصل في تطوير قدرة مؤسسات الدولة على تطوير مناعتها الذاتية ضد الفساد رغم تعدد الحاملين صلبها للواء محاربته.
1- البناء القديم: أسس صلبة وجهد موؤود
انتهى تطور الجهاز الإداري التونسي إلى تشكل ثلاث هيئات رقابية مستقلة ارتبط إنشاء كل واحدة منها بوزارة من الوزارات التي لها اختصاص وظيفي يمتد أفقيا ليمسّ إدارات ومؤسسات تتبع هيكليا وزارات أخرى:
- أنشأت وزارة المالية هيئة الرقابة العامة للمالية والتي كان الهدف من إنشائها متابعة تنفيذ تطبيق موازنة الدولة والتصرف في المال العام،
- أنشأت لاحقا وتحديدا سنة 1982 الوزارة الأولى -والتي باتت حاليا تسمى رئاسة الحكومة[1] – هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية لتكون ذراعها التي تعطيها معطيات واقعية عن عمل كل الوزارات والإدارات بما يمكنها من ضبط السياسات العامة وتقييم تنفيذها.
- أنشات في مرحلة أخيرة وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية وتحديدا سنة 1991 هيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة والشؤون العقارية لتمكنها من مراقبة التصرف في أملاك الدولة.
كانت تعددية الهياكل الرقابية في منطلقها وكما يتبين مما سلف نتيجة لممارسة إدارية وسياسية لا تنسجم مع مفهوم الفريق الحكومي المتكامل والمتجانس. وقد أدى هذا الخيار إلى أن إضطلعت هيئات متعددة بمهام رقابية تكرس ذات الأهداف وتستعمل ذات التقنيات من دون أن يكون هناك تنسيق بينها يضمن حوكمة نشاطها. وقد فرضت هذه التعددية في مرحلة متقدمة زمنيا [WU1] على رئاسة الجمهورية أن تستحدث الهيئة العليا للرقابة بهدف تنسيق برامج عمل مختلف الهيئات ومتابعة تنفيذ توصياتها.
اشتركت الهيئات العامة للرقابة بعيدا عن تشتتها وتداخل أعمالها، في كونها منصات راكمت تجارب هامة في الرقابة البعدية، كان سلاحها فيها المراقبون العموميون والذين تميزوا كإطارات إدارية بصلابة تكوين نظري تضمنه شروط انتدابهم وبخبرة ميدانية هامة خولتهم إنجاز مهام رقابية معمقة من دون تعويق سير المصالح العامة التي تخضع لذلك. نزّل المراقبون العموميون في سياق هذه الخبرة المتراكمة معايير الرقابة الدولية لتكون من ضوابط عملهم مستعينين في ذلك بذات الجهد الذي بذله قضاة دائرة المحاسبات الذين كانوا يمارسون معهم ذات المهام الرقابية.
في المقابل، أعاق تطور تجربتهم وتحقيق ما هو مفترض من نتيجة لعملهم:
- اختصاص الوزراء الذين ترجع لهم بالنظر هيئاتهم بتعيين رؤساء الهيئات وتحديد برامج عملها السنوية،
- اعتبار الهيئات مصالح إدارية بوزارات الإشراف، بما يعني عدم تمتعها بميزانية خصوصية، بما يحول غالبا دون توفر ما يكفي من اعتمادات لتنفيذ مهامها،
- منع نشر التقارير الرقابية التي يحررونها بدعوى أنها وثائق إدارية داخلية تعدها الوزارة لتحسن شروط اتخاذ المسؤول السياسي للقرار،
- منع كل متابعة مباشرة من الهيئة الرقابية لتنفيذ توصياتها،
- عدم تخويل الهيئات الرقابية، حتى في الحالات التي يجيز لها النص القانوني ذلك، تقديم شكاية مباشرة فيما تم اكتشافه من تجاوزات يمكن أن تشكل مخالفات جزائية من دون موافقة مسبقة من الوزير المشرف. وأدى هذا التقييد في الصلاحيات لأن كانت أعمال الرقابة تستعمل في صناعة التحالفات السياسية والتصفيات للخصوم. فكان يتم التغاضي عما يكشف من فساد لمن كان يتمتع بحماية السلطة السياسية، فيما كان يستثار ملف الفساد فقط في حق من تسحب تلك السلطة حمايتها عنهم.
- عدم استحداث أنظمة داخلية لمتابعة التوصيات. فلا يتولّى الهيكل الذي أنجز التقرير متابعة التوصيات الواردة فيه مباشرة مع الجهة المراقبة. كما لا ترفع الأجهزة الرقابية تقاريرها إلى السلطة التشريعية إلا نادرا وبناء على طلب من لجنة من لجان هذه الأخيرة. أما الهيئة العليا الرقابية الإدارية والمالية التابعة لرئاسة الجمهورية فتولّيها متابعة التوصيات يشكو بطء في نسقه لضعف مواردها البشرية. كما أن متابعتها لتوصياتها تبقى مستندية وليس متابعة ميدانية، بما يحول دون التأكد بصفة جازمة من إنجاز هذه التوصيات من عدمه.
حاولت هيئات الرقابة العامة تغيير هذا الواقع في اتجاه يضمن لها أكثر استقلالية[2]. وكان من ثمار هذا أن صدر الأمر عدد 3232 لسنة 2013، الذي أعاد تنظيم هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية وتضمن في الفصل 15 منه تنصيصا صريحا على أن “المراقبين يؤدون مهامهم في إطار المسؤولية والحياد والنزاهة والاستقلالية ووفقا لمدونة سلوك وباعتماد دليل عام للرقابة والتقييم”. كما تضمن الأمر تنصيصا صريحا على امكانية نشر التقارير الرقابية.[3] كما صدرت بموجب قرار عن رئيس الحكومة بتاريخ 31-10-2013 مدونة سلوك المراقب العمومي والتي خصص الباب الثالث منها لاستقلالية المراقب وورد فيها “يمارس مهامه بصفة مستقلة، دون أي ضغط أو تأثير أو تدخّل مباشر أو غير مباشر أو كلّ ما من شأنه أن يؤثّر في نزاهته وموضوعية أعماله”. كما أنها اعتبرت وهذا تطور مفهومي أن الحفاظ على الاستقلالية واجب مهني يحمل على المراقب.
في الاتجاه نفسه، صدر بتاريخ 21-03-2019 الأمر عدد 357 الذي ينظم عمل وزارة أملاك الدولة ومنها هيئة الرقابة بوزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية والذي أكّد على معايير الاستقلالية في العمل الرقابي.
وكان يمكن لذات الإصلاحات أن تطور من هيكلة أجهزة الرقابة العامة لو تمت صياغة تصور جديد لهيكلتها. ويذكر في هذا الإطار أنه وخلال سنة 2016 عرض الوزير المكلف بالوظيفة العمومية على مجلس الوزراء مشروع أمر اقترح إعادة تشكيل خارطة الرقابة لكن المجلس لم يصادق عليه لخلاف حول نصه.
وتبدو الإصلاحات التي تمت محدودة لكونها لم تطرح السؤال حول ضمانات استقلالية الهيئات الرقابية ولم تنفذ بالتالي لتجاوز ما أعاق تطور عملها. و يعود هذا الإغفال في جانب كبير منه لكون جهد الاستنباط والبحث عن النجاعة استغرقته الهيئات واللجان الجديدة التي كانت أكثر حظوة.
2- المؤسسات الجديدة: بناءات جميلة وتقنية عمل منسية
كانت فكرتا مكافحة الفساد وحوكمة التصرف في المال العام من المشاغل التي اهتمت بها السلطة السياسية بعد الثورة. وقد صاغت لأجل تحقيقها ثلاثة تصورات متتالية زمنيا وكانت دوما اللاحقة منها تستفيد من تجربة السابقة، وهي لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد واللجنة الوطنية لمكافحة الفساد والهيئة الدستورية لمكافحة الفساد والحوكمة الرشيدة.
أ- اللجنة الوطنيّة لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد
تم استحداث هذه اللجنة بعد أيام قليلة من الثورة بموجب المرسوم عدد 07 لسنة 2011 والذي حدد كمهام لها “الكشف عن الحقائق عن حالات الفساد والرشوة التي قام بها أو استفاد منها أي شخص عمومي أو خاص أو مجموعة أشخاص بفعل موقعه في الدولة أو الإدارة أو بفعل قرابته أو مصاهرته أو أي علاقة أخرى مهما كانت طبيعتها مع مسؤول أو مجموعة مسؤولين في الدولة خاصة خلال الفترة الممتدة من 7 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011″ و”النظر في التوجهات الأساسية لعمل اللجنة ووضع التصورات المستقبلية للتصدي لمظاهر الرشوة والفساد”. وبحكم مهامها ورغم طابعها المؤقت، شكلت هذه اللجنة أول لجنة مستقلة تتولّد عن السلطة التنفيذية وتكلف بمهام رقابية عامة من خارج الهيئات الرقابية المختصة. وقد أسند المشرع لرئيس هذه اللجنة مهمة السهر على تحقيق أهدافها وعشرة أشخاص من الكفاءات المتخصصة سيشكلون مجلسها الفني الذي مهمته “التقصي والتحقيق”. في نهاية تجربة هذه اللجنة تبين أنها عولت فعليا في كل أعمال التحقيق والتقصي التي أجرتها على الهيئات الرقابية. وكان هنا أن أرست اللجنة علاقة غير معلنة بينها وبين تلك الهيئات. في مسعى للاستفادة من هذه التجربة، حاول المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011[4] تحقيق علاقة مؤسساتية بين الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي استحدثها والهيئات الرقابية.
ب- الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد:
تصنف الهيئة في خانة المؤسسات المؤقتة أي مؤسسات المرحلة الانتقالية. لكنها تعتبر فعليا أول هيئة قارة مستقلة تمارس صلاحيات على علاقة مباشرة بالرقابة. حاول المشرع ضمان حضور المراقبين العموميين في تركيبة الهيئة بأن فرض أن يكون من بين أعضائها الثلاثين “سبعة أعضاء على الأقل من سامي الموظفين وممثلين عن هياكل الرقابة والتدقيق والتفقد والتقييم”. كان أن حاول هنا المشرع الاستفادة من خبرة المراقبين العموميين في بناء هيئته دون أن يسعى للاستفادة من الهيئات الرقابية ذاتها.
انتهى هذا المسار للفشل لكونه لم يكن لأعضاء الهيئة على اختلاف خلفياتهم طوال فترة عملها دور حقيقي في تطوير أدائها لغياب أغلبهم عن جلساتها أو/و لسيطرة رئيسها على هياكل عملها بحكم تفرغه المهني أولا وبالنظر لكون القانون يسند إليه صلاحيات هامة في هذا الإطار. فعليا، انتهت ذات التجربة لفشل الهيئة في تركيز فريق تحقيق وتقصٍّ على ذات كفاءة فرق الهيئات الرقابية. فكان عملها مكتبيا بالأساس.
ويذكر في هذا الإطار أن الهيئة تشغّل 147 موظفا أغلب هؤلاء متعاقدون لمدة محددة. وقد تمّ انتداب أغلبهم بطريقة مباشرة من دون اللجوء إلى مناظرات بما يطرح السؤال حول قدرتهم على مباشرة تحقيقات في قضايا فساد معقدة متشعبة. وأيا كان تقييم أداء الهيئة، يلاحظ أنها كما اللجنة التي سبقتها استفادت من تقارير الهيئات الرقابية دون أن تتواصل معها هيكليا ودون أن تكشف للرأي العام هذه العلاقة الخفية.
ت- الهيئة الدستورية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد[5]:
كرس التصور الهيكلي لهيئة الحوكمة ومكافحة الفساد كما تمت صياغته في الدستور فكرة أن تكون تلك الهيئة في تواصل هيكلي مع الهيئات الرقابية. ونزلّ هذا التوجه القانون الأساسي عدد 59 لسنة 2017 المحدث لها الذي فرض تصورا لتواصل وظيفي بينها وبين هيئات الرقابة. من أهم أشكال التواصل، اشتراط أن يكون من بين أعضائها من له خبرة في المالية أو المراقبة العمومية، وأيضا التنصيص صلب الفصل 30 منه على “تلقيها (أي الهيئة) نسخا من التقارير الصادرة عن مصالح وهيئات الرقابة والتفقد والتدقيق والتقارير السنوية والخصوصية الصادرة عن محكمة المحاسبات، وذلك في أجل أقصاه ثلاثون يوما من تاريخ تقديمها للسلط المعنية.“
ويؤمل هنا أن تنجح هذه الهيئة والتي لم تركّز بعد في إنجاز عملها مستقبلا وفي تطوير تجربة تتجاوز نقائص ما سبقها من هيئات ولجان.
كما نأمل أن يتجاوز المشهد ما برز من نقائص في عمل هيئات الرقابة ومكافحة الفساد ومن أهم الخطوات المطلوبة لسدّ هذه النقائص، تطوير تصور مؤسساتي يسمح بإنهاء تشتت هيئات الرقابة العامة ويضمن لها استقلالية وظيفية حقيقية قد يكون النشر الآلي لتقاريرها بعد حجب ما يمس المعطيات الشخصية به من أول الخطوات في سبيلها. ومنها أيضا تعزيز التواصل بين هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وهيئات الرقابة من خلال منح الهيئة صلاحية تكليف تلك الهيئات بأعمال ومأموريات محددة. للغاية نفسها، قد يكون من الضروري صياغة سياسة تواصلية تشمل كل المتداخلين في مجال الحوكمة ومكافحة الفساد يكون الهدف منها التشجيع على كشف الفساد.
- نشر هذا المقال في العدد | 15 | سبتمبر 2019، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
نكره الفساد الذي يكبر فينا
[1] ألحقت بمصالح رئاسة الحكومة بموجب الأمر عدد 468 لسنة 2017 مؤرخ في 10 أفريل 2017 والمتعلّق بإلحاق هياكل برئاسة الحكومة.
[3] لم تبادر الهيئة لتفعيل هذه الإمكانية. ويسجل هنا أن هيئة الرقابة العامّة للمالية كانت الهيئة الوحيدة التي بادرت للنشر بنشرها التقرير حول تدقيق منظومة دعم المحروقات على مستوى الشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير والمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية ومختلف المصالح الإداريّة المتدخلة في المنظومة والذّي أعدّه فريق مشترك من هيئة الرقابة العامة للمالية وهيئة الرقابة العامّة للمصالح العموميّة. ولكنها لم تواصل جهدها هذا لاحقا، يراجع منى مكي المرجع السابق.
[4] اقترحته لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد
[5] نص عليها الفصل 130 من الدستور الذي ورد به “تسهم هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في سياسات الحوكمة الرشيدة ومنع الفساد ومكافحته ومتابعة تنفيذها ونشر ثقافتها، وتعزّز مبادئ الشفافية والنزاهة والمساءلة.
تتولى الهيئة رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص، والتقصي فيها، والتحقق منها، وإحالتها على الجهات المعنية.
تستشار الهيئة وجوبا في مشاريع القوانين المتصلة بمجال اختصاصها.
للهيئة أن تبدي رأيها في النصوص الترتيبية العامة المتصلة بمجال اختصاصها.
تتكون الهيئة من أعضاء مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة، يباشرون مهامهم لفترة واحدة مدّتها ستّ سنوات، ويجدّد ثلث أعضائها كل سنتين.“
“