هوامش صناعة القرار في الأنظمة الاستبدادية: مراجعة كتاب “المستبدّون لا ينالون دائما ما يريدون”


2025-03-08    |   

هوامش صناعة القرار في الأنظمة الاستبدادية: مراجعة كتاب “المستبدّون لا ينالون دائما ما يريدون”

“المُستبدّون لا يَنالون دائما ما يريدون؛ الدّولة، المؤسسات والإستقلالية في ظل الاستبداد” كتاب جماعي باللغة الإنجليزية. انشغَل الكتاب بالتأطير النظري لمفهوم الاستبداد خدمة للغرض من الكتاب: وهو إعادة الاعتبار لدراسة المؤسسات في ظلّ الأنظمة الاستبدادية. حَرصَ الكتاب على تقديم نظريّ مُفصّل ومهمّ بالنظر إلى أنّ دراسة المؤسّسات تحت الاستبداد ليستْ بهذه البداهة في الحقيقة. ويُمكن ملاحظة أهمية هذا الرهان في الأبعاد التي انفتَح عليها التحليل. ابتعد الكتاب عن جملةٍ من الافتراضات، التي تحوّلت إلى مسلّمات في الأسئلة عن ظهور وبقاء الأنظمة الاستبداديّة؛ فهو يتجاوز الأفكار المعتادة عن أنّ المؤسسات تعكس بالضرورة إرادة الحاكم وأهدافه ومصالحه أو إرادة النظام المستبد (وهي كذلك في حالات عدّة). وللخروج من مثل هذه الفرضيات كَرّسَ الكتاب القسم الأول لفهم الاستبداد. ويُقدّر الكتاب أن المقاربات السائدة اليوم، على الرغم من أهميتها، هي أشبه بالرسم التنقيطي، تنطلق جميعها من نقاط عدّة ومختلفة لكن بالرجوع إلى الخلف تَغيب الصورة الكاملة للاستبداد.[1]

عن الحاجة لإعادة الاعتبار للمؤسسات في فهم الاستبداد

يَستعيد الكتاب مقاربة Juan Linz لمفهوم الاستبداد، والتي اضمحلّت تدريجيا منذ ستينات القرن العشرين. يَعتبر عالم الاجتماع السياسي الإسباني أنّ الاستبداد يتّصف بالتعدّدية السياسية المحدودة والافتقار إلى الأيديولوجية التوجيهية والتعبئة السياسية الضئيلة والسلطات التنفيذية غير المحددة جيدا.[2] يتوسّع الكتاب ضمن هذا الإطار النظريّ عبر تحليل كيفية عمل مؤسسات الدولة في سياقات استبدادية. من أجل فهم الأنظمة الاستبدادية، حسب الكتاب، لا يجب التوقّف عند نوايا القادة الاستبداديين ومصالحهم، بل  يجب إعادة الاعتبار لفهم المؤسسات السياسية، من الداخل إلى الخارج، كالقضاء والأجهزة الأمنية والإستخباراتية والمؤسسات الدينية. هذا المنظور يَسمح بتدقيق التّفاعلات المعقّدة بين الحكم الاستبداديّ ومؤسّسات الدولة، بخاصة التعقيدات والصعوبات التي يُواجهها مسار تعزيز السلطة والسيطرة عليها وتفاعل المؤسسات معه.

استثمر الكتاب في تعريف لينز انطلاقًا ممّا يسمح به من إمكانية التركيز على المؤسسات السياسية في معناها الفيبري؛ إذ أن الأنظمة الاستبدادية أكثر تعقيدا مما تبدو عليه، ولا يمكن اختزالها في نوايا ومصالح فرد أو مجموعة حاكمة. بل من بين الأهمّ فيها، هو التنظيم الداخليّ المؤسساتيّ للهياكل باعتبار المؤسسات وحداتٍ مستقلّة. في تعريف هذه الهياكل، ينطلق الكتاب من طبيعتها السياسية الشكلية كمؤسسات محددة قانونيّا وبيروقراطيّا وتضمّ أفرادا لهم تكوين خاصّ. وبالعودة إلى هذا الإطار النظريّ، كان لزاما تقديم نقد للمَنطق الوظيفي في عدة مقاربات سوسيولوجية وسياسية. في نفس الوقت، يؤكّد الكتاب على عناصر جديدة، هي أساس مقاربته الخاصة، المتعلّقة بالتشبيك والروابط مع المحيط ودرجة المأسَسَة التي تتمتع بها المؤسسات داخل النظام السياسي. والهدف من وراء ذلك هو تقديم صورة عن اشتغال الأنظمة الاستبداديّة من الداخل إلى الخارج.

على امتداد صفحات الكتاب، لم يتجاهَل الكتاب الجدوى التفسيريّة للمنطق الوظيفي. إذ أنّ الأنظمة الاستبدادية تُحقّق فعلا أهدافًا ومصالح مباشرة عبر المؤسسات لصالح النظام الاستبدادي، سواء بإضفاء الشرعية والمشروعية على النظام داخليا وخارجيا، وإضفاء الطابع القانوني على عمله، وتعزيز مركزية الدولة وتقوية الرقابة الإدارية، وتعزيز الدعم الداخلي للنظام، بالإضافة إلى جذب الاستثمارات الخارجية وتعزيز الأسواق والتنمية الاقتصادية، وتقوية التنسيق النخبوي ووضع سياسات أمان سياسي في حال فقدان السلطة.[3] لكن في الوقت نفسه، يَحرص الكتاب على عدم الانزلاق نحو مقاربة وظيفية من الأعلى إلى الأسفل تقوم على مركزية النظام الاستبدادي، بما يلغي أية قدرة منهجية على رؤية تفاعل المؤسسات داخل الدولة مع النظام أو مدى استقلاليتها.

المؤسسة وملكية التأويل القانوني المُلزم: المحاكم الدستورية مثالا

إذا كان هناك مؤسسات، من المُرجّح أن تسعى الأنظمة إلى تطويعها خدمةً لمصالحها فهي المؤسسات التي تُصدر تأويلات دستوريّة ملزمة.[4] في عدة حالات مُوثّقة، مثّل إنشاء المحكمة الدستورية جزءًا من استراتيجية ومصالح الأنظمة الاستبداديّة للهيمنَة والإخضاع. فهي بالنظر إلى عدد أعضائها المحدود، يمكن السّيطرة عليها بسهولة وعزلها عن المحيط السياسيّ الرسميّ وغير الرسميّ. لذلك فإنها تُمثل نموذجا مهما في مقاربة الكتاب، خاصة في حالة إيجاد نماذج لاستقلالية مؤسسات دستورية في سياقات استبدادية. بل تُثبت أيضا نقائص المنطق الوظيفي الذي لا يسمح بفهم تحولات الجهاز القضائي في الأنظمة الاستبدادية بشكل كامل، وتحوّله إلى منطق تبسيطي يربط بين الآثار والأسباب (وحتى النوايا) بطريقة سهلة.

في التجربتين المصرية والفلسطينية، تم إنشاء المحاكم الدستورية في سياقات متشابهة. كما تشابهت من الناحية القانونية والهيكلية. غير أن النتائج على مستوى المسارات كشف أن تطور هذه المحاكم مختلف تماما. ما يُفسر مثلا خصوصية المحكمة الدستورية العليا في مصر هو درجة التشبيك والربط مع مجموعات قوية داخل المجتمع: الجماعة المعرفية القانونية، المفكرين، النخب المهنية، المجموعات الحقوقية (منظمة حقوق الإنسان المصرية)[5]، الإعلام، النقابات (المحامين…)، والحركات الاجتماعية. ما وفّر لها أدوات وضمانات إضافية للدفاع عن استقلاليّتها.[6] وأيضا مع مجموعات داخلية في الدولة كالجهاز العسكريّ والبيروقراطيّ ونخب أخرى حليفة. أما العنصر الثاني، فهي درجة المـأسَسَة في الجهاز القضائي: تناسقها، تعقيدها، تكيُّفها وتراتبيتها. أو بعبارة أخرى شروط البنية التحتية المؤسسية ومدى تجذر المؤسسة القضائية في الأرضية أو المحيط السياسيين، بما يسمح لها أولا بالتشبيك وأداء مهامها بشكل مستقلّ.

عن التجربة المصرية، بدأ الكتاب بالمدوّنة الفقهية القانونية عن الموضوع. انطلق الكتاب من تثمين مؤَلّف ثامر مصطفى الصادر سنة 2007 عن السلطة الدستورية.[7] لكن بنفس المقاربة المنهجية يبتعد عن “الانحياز” العملي للمقاربة الوظيفية لصالح السعي نحو تتبّع مدى استقلالية المحكمة الدستورية التي أثارت الجدل حول مسائل سياسية وحقوقية واقتصادية، بين تثمين دورها أو إلحاقها بمصالح النظام بالمطلق.[8] فعليّا وُضعت المحكمة لأغراض ومصالح محددة، لكنها تحولت إلى جزء من المنظومة السياسية بتعقيداتها التاريخية والظرفية والهيكلية. مثلت فترة حكم جمال عبد الناصر ثم السادات فترة بداية ظهور نظام جديد من الاستبداد البيروقراطي. فمنذ السبعينات وصولا إلى الثمانينات ثم التسعينات (في عهد خليفة السادات حسني مبارك)، عَملَت الرئاسة من خلال سلطتها على تعزيز الهيمنة وإدارة المؤسسات المختلفة، التي عملت إلى حدّ ما بشكل منفصل عن بعضها البعض: كالحزب الحاكم، الأجهزة الأمنية متعدّدة الوكالات، والهيئات العسكريّة، ووسائل الإعلام، والبيروقراطيّات المختلفة المعتمدة رسميّا كالجمعيات المهنية والنقابات المهنية والقضائية الرئيسية.

كان لدى الهياكل والمؤسسات وقطاعات مختلفة من البيروقراطية بعض الاستقلالية داخل مجالهم الخاص. لقد تمّت السيطرة على التمايز الهيكلي وترويضه ولكن لم يتم القضاء عليه. وكان يرأس كل من هذه الهيئات الحكومية شخصيّة مُختارة من قبل الرئيس ومُخلِصَة له، وكانت هذه الشخصية قادرة على إثبات فائدتها ليس فقط للرئاسة ولكن أيضا إلى القطاع المعني من خلال الضغط على الرئاسة للحصول على خدمات في المقابل (الاختصاص، المزايا والرواتب والتشريعات).

فيما يتعلق بالجهاز القضائي والمَحكمة الدستورية العليا على وجه الخصوص، الاستقلالية المؤسسية  تُعد نتيجة تراكمية (غير خطّية، بالزيادة والنقص حسب المراحل التاريخية)[9] لجملة من العوامل المتقاطعة في نظام استبدادي بيروقراطي. هو نظام مماثل وليس من السّهل التحكّم فيه رغم قدرته على استخلاص نتائج وفق مصالح من يحكم، إذ في نفس الوقت -بالنظر إلى طبيعته البيروقراطية والعوامل السياسية والاجتماعية الحافّة به- سَمح بمجال خاصّ للمؤسسات داخله. فالقضاة تحصّلوا على امتيازات وضمانات مهمّة من الناحية المالية والإدارية جعلت النظام يختار تقنين وتأطير عملية تجنّبهم عبر قانون الطوارئ أو الهيئات القضائية الخاصة (كجهاز المدعي العامّ الاشتراكي المُلغى سنة 2008 أو محاكم القيم والقيم العليا). يُشير الكتاب إلى تراكم شروط قانونيّة وهيكليّة للاستقلالية منذ دستور 1971،[10] والقانون عدد 48 لسنة 1979 الذي كان هاجس مُحرّريه هو تجنّب “مجزرة قضاة” (عهد جمال عبد الناصر) أخرى. رغم أنهم لم يحقّقوا هذه الأهداف، إلا أنّ القانون نفسه لم يكن يمنع الوصول إليها. كما لم يُغفل الكتاب تفاصيل تاريخية حول تشكُّل الجهاز القضائي منذ الفترة العثمانية والإستعمارية وصولا إلى دور نوادي القضاة كفضاءات مهنية وقطاعية مهمة، كمعطيات سوسيولوجية (عائلية) لمهنة القضاء.

عمليا أدى خلق هيئة دستورية عليا في مصر، تتمتّع بتاريخ قوي من الهوية القضائية المؤسسيّة المركزية والقطاعية مع وجود “جيوب نضالية”، إلى أن تكون -حسب الفترات- مصدر إزعاج أو دعم للنظام. إذ سعى الأخير بطرق مختلفة، وفي مراحل عدة، إلى محاولة السيطرة عليها وتوجيهها بالطرق الأكثر فظاظة. ما يثبت أن المؤسسات، حتى في ظل الأنظمة الاستبدادية، يمكن لها أن تمتلك مجال استقلاليتها الخاصة بفضل التشبيك والمأسسة، في نمط علاقات أفقية وتفاعل في  المحيط الرسمي وغير الرسمي.

المؤسسات الدينيّة: ملكية الدين بين المؤسسة وخارجها

في العلاقة بين الدين والأنظمة السياسية، اشتغَلَ الكتاب على عنصريْ المؤسساتية والتشبيك. فأشار إلى أنه عندما تكون المؤسسات الدينية ضعيفة الروابط مع الكيانات الاجتماعية أو السياسية الأخرى وضعيفة المأسَسة، فإنّها تصبح أسهل في التشكيل أو التوجيه بما يتناسب مع احتياجات النظام السياسي. وحتى بالنسبة للمؤسسات الدينية المعقّدة والمتجذّرة تاريخيّا ومجتمعيّا، فإن هذه الظروف تكون ضاغطة جدّا. رغم أن مفهوم المؤسّسات السياسيّة غير متبلور وينطبق على حالات مختلفة ومتنوعة (داخل الدولة وخارجها)، كما أنه يختلف عن المحكمة الدستورية أو البرلمانات (الفصل 3)، يبقى التنوّع نفسه عنصرًا مهمًّا[11] في تقصّي درجات الاستقلالية التي يمكن أن تحظى بها هذه المؤسسات وطبيعة الروابط التي يمكن أن تُنشئها مع محيطها. من هنا مَثّل تباين تموضع المؤسسات الدينية عنصرًا إضافيًّا في تحليل كيفية تأثير الروابط والتشبيك على الاستقلالية. ويَرجع ذلك إلى أن المؤسسات الدينية لا تقع دائما داخل الدولة بالكامل، بل تتفاوت في كيفية ترتيبها بين الدولة والمجتمع. ولتحقيق هذا الهدف كان تعامل الكتاب مع المفهوم قد ركَّزَ في البداية على المقصود بالمؤسسات الدينية وأجزائها المرتبطة بالدولة (state-oriented parts)، ثم اتخذ من جرده التجريبي لعدة دول (ألمانيا، مصر، السعودية، تايلند) واسطة التأكيد على مقاربته حول المأسَسَة والتشبيك كمؤثّرين مهمين على الاستقلالية الداخلية وفي أداء المهام.[12]

رغم أن الدراسات حول الاستبداد تَدرس المؤسّسات الدينية كمجال فرعي غالبا، لكن تعامل الأنظمة مع الدين، بالتنوع والاختلاف الذي عليه، يُؤكد أهميته. فمن الضروري الاهتمام بها أكثر كما يؤكد الكتاب. فبينما اختارت الفاشية الإيطالية إبرام اتفاق مع الكنيسة الكاثوليكية، اختار الاتحاد السوفياتي سياسة قمعية صريحة. أما في مصر مثّل استيعاب مؤسسة دينية مستقلة منذ القرن العاشر، مع محاولة استمالة قادتها، رهانا على غاية من الأهمية. وفي ألمانيا، تعاملت الأنظمة مع الكاثوليكية والبروتستانتية، في مراحل مختلفة، بهدف عزل تأثير الدين. أما العائلة المالكة التايلانديّة (Chakri dynasty) فقد أسّست طائفة ملكيّة داخل رجال الدين البوذيّين. والأمثلة تتعدّد وتختلف من تركيا الكمالية إلى سنغافورة والسعودية مع الوهابية.

في كلّ التجارب تَمتلك المؤسسات الدينية أسبقية القدرة على التأثير في المجتمع، بخاصة أن فضاءات تأثيرها تبدأ بالرّوحي والاجتماعي ولا تنتهي عند السياسي. بل يمكن أن يجعل معطى “المهمّة المقدّسة” التي يمارسها رجال الدين من حرصهم على الاستقلالية متغيّرًا أساسيًّا في التحليل. من هنا كان الكتاب بحثا لا في المؤسسات الدينية بـ”براديغم” النظام السياسي، أي بين دعم الاستبداد أو الديمقراطية، بل في اتجاه البحث عن درجات المأسَسَة والتشبيك التي تعكس استقلالية من الداخل في الأداء والمهام، حسب المعطيات التاريخية والممارسة العملية.

استخدام الكتاب لمصطلح “المؤسسة الدينية” هَدفَ إلى السفر إلى ما هو أبعد من الحالات المسيحية والأوروبية، للإشارة إلى أية مجموعة من المؤسسات الدينية في المجتمع بغضّ النظر عما إذا كانت هيئات حكومية، أو هيئات غير تابعة للدولة، أو أيّ شيء آخر بينهما. لذلك كان استعراضا لحالات من الديانات الابراهيمية وغير الابراهيمية.[13] لكن أيضا وجب توضيح مصطلح “المؤسسة”: فمثلا إلحاق الكنيسة الكاثوليكية بنظام فرنكو ودعمها ماليا (دستوريا) لم يفصلها عن الكنيسة في امتدادها التاريخيّ. كما هو الحال في سياقات غير أوروبية. ما يعني أن المؤسسات الدينية يمكن أن تتّخذ ترتيبات هيكليّة وإجرائيّة وقانونيّة مختلفة ومتنوعة. وبالتالي، استقرّ مصطلح “مؤسسة دينية” في الكتاب على شرط أن تكون المؤسسة (أو مجموعة من المؤسّسات المتعدّدة المترابطة) نَشطَة في المجال الديني (كما هو محدد في مصطلحات مجتمع معين) وأن يكون لها بعدٌ هيكليّ رسميّ وبيروقراطيّ وسلطَويّ. أما العلاقة الدقيقة بالدولة أوالنظام فليست جزءًا من التعريف باعتباره الجانب الذي حاول الكتاب استكشافه.

في الحالات المختلفة موضوع الدراسة، استكشف الكتاب مَدى تحقيق المؤسسات الدينية للاستقلالية الداخلية، ضمن أنماط المأسسة خلال فترة بناء الدولة وأيضا خلال فترات إعادة تشكيلها من قبل الأنظمة على فترات طويلة، وبخاصّة الروابط التي تربط المؤسسات الدينية مع الجماهير المتدينة. في هذا المستوى يَستغرق الكتاب في تفاصيل عديدة من الناحية التاريخية والسياسية والقانونية، ما يجعل القراءة صعبة نسبيا. لكن الخلاصات لا تزال ذات أهمية منذ البداية، رغم الحاجة إلى إعادة قراءة الكتاب عدة مرات للوقوف على عمق التفاصيل المتنوعة.

على سبيل المثال، مع حفظ الفارق بين السياقات الأوروبية وغير الأوروبية، في حالات مصر والسعودية، يمكن القول أن الإسلام دينٌ “مُمأسس”. فقد أوجد له ترتيبات هيكليّة وقانونيّة وإجرائيّة بين الدولة والمجتمع، وحافظ على تدخله في مجالات مهمة، لا سيما في مادة الأحوال الشخصية. بل في عدة دول حافظت المحاكم الشرعية على وجودها، أو استندت الأجهزة القضائية إلى الدين صراحة في أحكامها.[14] فمأسَسَة الدين في مصر والسعودية كانت جزءًا من جهاز الدولة، على اختلاف مسارات كل منهما. ولها أثر في مجالات مهمة كالتّعليم والآداب العامّة والاقتصاد والطقوس الدينيّة. كلا الدولتين ليستا علمانيتين لكنهما امتلكتا تاريخيا مسارات مأسسة في بناء الدولة على علاقة جدلية وحساسة مع الدين. بينما أعلنت مصر إسلامها الوَسَطٍي اتجهت السعودية إلى الإسلام الوهابي. سمحت مأسسة الدّولة للدين أن ينال بعده الخاصّ مؤسسيا، لكن استقلاليته ارتبطت بدرجتها الداخلية ومدى التشبيك والربط مع محيطها الرسمي وغير الرسمي. بينما مثّلت المساجد والجامعات، وحتى الأجهزة الأمنية، امتيازا أوليا لضمان نشاطها من داخل الدولة، لكن ذلك جعلها أيضا هشّة وقابلة للتأثر بسياسات النظام وتوجهاته، وذلك على امتداد مراحل طويلة منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. تَقصَّى الكتاب خاصة الأزهر وهيئة كبار العلماء، بين دورها في ضبط ومراقبة الأداب العامة، وبين هيكليتها وإدارتها وأعضائها، من دون إغفال تأثيرات العوامل التاريخية (الفترة العثمانية-الفترة الاستعمارية) في تشكيل نمط المأسَسَة المعتمد في المجال الديني، وجهود بناء الدولة حول جدلية العلاقة والتمييز بين الدين والدولة. على سبيل المثال، مَثلَت الإصلاحات التي أطلقها جمال عبد الناصر مُتغيرًا مهما حول الأزهر الذي تحوّل من جامع إلى جامعة ومُركّبا بحثيّا دينيّا كجزء من الدولة المصرية. ما جعله يخضع لتأثير السياسات الرسمية في المناهج مثلا منذ الستينات. لكن في نفس الوقت سمحت المركزية الأزهريّة الجديدة بتوفير أدوات وأطر تأثير في المجتمع والمؤسسات والنخب.

من مواطن قوة الكتاب أنه فَتحَ الباب نحو أسئلة جدية عن المؤسسات داخل الأنظمة السياسية، سواء ديمقراطية أو استبدادية. هل هي فعلا خاضعة تماما لمنطق البيروقراطية التراتبي والهيكلي والإجرائي أم أن نفس هذا المنطق يخترقه منطق آخر من الاستقلالية والتشبيك الأفقي الرسمي وغير الرسمي؟ وهل أن الأنظمة فعلا تُحقق ما تريد بالقدر الذي تريد كما يريد خطابها الترويج له؟ فحتى في أكثر المسائل حساسية كالمسألة الدينية لم تكن علمَنَة الدولة في ألمانيا على فترات طويلة، في ظل أنظمة استبدادية، كافية لضرب المؤسسة الدينية الكاثوليكية أو البروتستانتية، حتى مع تغير المجتمع نفسه.[15]

من الخُلاصات المهمة لهذا الكتاب، التي تدفع نحو الاطّلاع عليه أكثر من مرة، للاستفادة من تأطيره النظري وتفاصيله التاريخية المتنوعة، هو التأكيد على أن المستبدّين “ليسوا شموسا تُضيئ كل شيء”؛[16] عبارة شهيرة للرئيس السابق بن علي تأخذ معنى آخر مع هذا الكتاب. الاستبداد عمليا عبر هذا الكتاب ليس كل شيء في التجارب، وليس المصير الوحيد في المستقبل. بل إن الديمقراطية نفسها هي في محلّ الممكن فقط، وحتى ممارستها ليست بالضرورة ديمقراطية.[17] وللحفاظ عليها يجب دراسة الصراع بكل أبعاده، بعيدا عن منطق الهيمنة المضاعفة، خاصة بنشر الخوف وخطابه المبالغ فيه.


[1] ص21.

[2] لمزيد الإطلاع على مقاربة لينز، يمكن الإطلاع على مقاله التالي:

[3] ص95.

[4] ص92.

[5] ص109-110.

[6] ص95، ص96، ص .

[7] ثامر مصطفى، الصراع على السلطة الدستورية: دور المحكمة الدستورية العليا في السياسة المصرية. لمزيد الاطلاع يمكن الاطلاع على هذا الرابط: https://shorturl.at/4LkDq

[8] ص102.

[9] ص98، ص108 وما بعدها.

[10] ص105.

[11] ص188.

[12] ص190.

[13] ص195، ص193.

[14] ص209.

[15] ص194، ومابعدها.

[16] عبارة استخدمها الرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل هروبه.

[17] ص257.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني