هواجس الماضي في بناء المستقبل: هل التصاميم التوجيهية لبلدتي الدامور والدبيّة تشجّع على العودة؟


2018-05-14    |   

هواجس الماضي في بناء المستقبل: هل التصاميم التوجيهية لبلدتي الدامور والدبيّة تشجّع على العودة؟

مقدمة

انطلق في العام الفائت نقاش واسع حول فيلم المخرج زياد دويري “قضية رقم 23″، خصوصاً مع ترشيح الفيلم لجائزة أوسكار 2018 عن فئة أفضل فيلم أجنبي، وهي المرة الأولى التي يصل فيها فيلم لبناني للمنافسات النهائية للأوسكار.

يبدأ الفيلم في دقائقه الأولى برغبة زوجة طوني في العودة إلى الدامور، قائلة بأنه تم ترميم الكنيسة هناك، ليردّ عليها زوجها بحزم رافضاً العودة. بعدها، يُبعد دويري المُشاهدَ عن الدامور لفترة، يُدخله في قصة قضية رقمها 23، وتعود بالمُشاهد أخيراً إلى الأساس الذي بدأ عليه الفيلم: مجزرة الدامور.

اعتبر الكثيرون أن أطروحة الفيلم انعزاليّة وتتلاعب بالمجازر وتعزل الأحداث التاريخيّة المؤلمة عن بعضها[1]. مقابل وجهة النظر هذه، تطرح علينا مجريات العرض الخاص الذي أُقيم للفيلم في سينما “أمبير الشويفات” بحضور أهالي بلدة الدامور نواحي أكثر تعقيداً. بحسب تغطية الصحف، فقد تفاعَل جمهور البلدة بتأثر كبير مع مجريات الفيلم، رافقه تصفيق جماعي، وصرّح رئيس بلدية الدامور شارل غفري: “الفيلم يعني الكثير لأهالي الدامور (…) ويعطي الدامور حقها”. أما دويري فقال: “هذا اللقاء مع أهالي الدامور مهم جداً لي وللممثلين، فالقصة في النهاية هي قصة هؤلاء الأهالي وقصة هذه البلدة الصغيرة”.

في واقع الأمر، وجدنا كلتا وجهتي النظر المذكورتين أعلاه ناقصة لأن الفيلم لا يقدم سياقا كافيا للوصول إلى أي منهما، ولكن الفراغ المتمثل في عدم وضع الدامور في سياقها ملأته المخرجة اللبنانية رين متري بفيلمها “لي قبورٌ في هذه الأرض”. فعلى نقيض فيلم دويري، يعمل فيلم رين -الذي منع وزير الداخلية عرضه في لبنان[2]– على تقليص الفجوة بين مآسي الحرب الأهلية من جهة، وكيفية تعامل السلطات (المحلية والوطنية) معها ما بعد الحرب. مثل آخرين كثيرين، تبيع رين بيتها الصيفي الواقع في إحدى القرى المسيحية لمشترٍ مسلم. تتحدث في فيلمها مع لبنانيين عاصروا الحرب وبشاعتها، يروون قصصا عن العمليات المستمرة في بيع الأراضي والخوف من الآخرين. تتقاطع هذه الأحاديث مع مواد أرشيفية معبرة وصور لتحوّلات عمرانية تتعرض لها قرى وبلدات ساحل الشوف وإقليم الخروب.

من خلال التركيز على بلدتي الدامور والدبيّة، نطرح في هذه المقال موضوع التهجير والعودة والخوف في سياق التطوّرات العمرانية التي تعرضت لها هذه القرى منذ تسعينيات القرن الماضي حتى اليوم، والتصاميم التوجيهية التي ساهمت في حالة اللاعودة إليها.

مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، شهدت مناطق ساحل الشوف تحوّلات ديمغرافية وتهجيراً مفاجئاً لسكانها، تحديداً المسيحيين وذلك على موجتين: الأولى في عامي 1975 و1976، بعد مجزرة الدامور، في حين وقعت الموجة الثانية في 1984-1985 خلال ما يسمى حرب الجبل.[3]

بعد انتهاء الحرب وبداية عمليات إعمار العاصمة، أدى ارتفاع أسعار العقارات في بيروت إلى تدفق موجات من السكان الأكثر هشاشة للاستقرار في منطقة الأقليم، مستفيدين من قربها من المدينة ومن المشاريع العقارية في مطلع التسعينيات وثم خلال النصف الثاني من العقد الماضي.[4]

انطلقت هذه العملية السريعة من العمران – في غياب السياسات الإنمائية العادلة – بمعزل عن السياق المحليّ. كانت مساهمة قطاع البناء والتطوير العقاري في التنمية المحلية لبلدات ساحل الشوف والإقليم محدودة جداً. بل على العكس من ذلك، فرضت هذه المساهمة ضغوطاً إضافية على الموارد، مما أدى إلى تغذية التوترات الطائفية والسياسية. واستغل مطورو العقارات من خارج المنطقة فرصة الأراضي المتاحة بأسعار معقولة نسبياً في ساحل الإقليم والشوف.

غالبية السكان الوافدين الذين يشترون المنازل في المنطقة هم من السنة والشيعة. وفي الوقت نفسه، ينتمي جزء كبير من الأراضي التي يجري شراؤها إلى أفراد الطائفة المسيحية الذين لم يكن لديهم أيّ دافع للعودة إلى المنطقة.

وقد أدت هذه التحوّلات السريعة للبيئة الريفية – على الرغم من أن سببها يعود الى قوى السوق – إلى تغذية المخاوف الطائفية من تغيير هوية ونسيج المنطقة الاجتماعي، وهو الخوف الذي زرعه وعززه تاريخ العنف الطائفي والمجازر.

كيف تعاطت السلطات المحلية في الدامور والدبية مع هذا الواقع التاريخي، وكيف وجهت تنظيم الأراضي في البلدتين؟

دامور، من أنتِ؟ [5]

“نحن الآن نتجوّل بين أشجار التوت في سهل الدامور (…) ربيع الساحل الداموري الناعم (…). عجيبة هذه البيوت المنتشرة في كل فسحة ما بين التوت. إنها بيوت من قصب مرتفعة على ركائز خشبية يسمونها “خِصاص” نستكشف في داخلها سرّاً مذهلاً من أسرار الطبيعة (…) عندما يدنو موسم القطاف، يتوافد العمال من القرى المجاورة لمساعدة الداموريين على قطف الشرانق (…) لا أحد في الدامور يسأل العامل عن هويته”.

الامتداد / الانمحاء العمراني في الدامور

استنادا إلى صور جوية تاريخية مصدرها الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني

بهذه الكلمات يصف المؤلف ميشال غريّب بلدته الدامور في كتاب “دامور من أنتِ؟”. قرية ساحلية احتلت في بداية القرن العشرين المرتبة الأولى بين القرى المنتجة لشرانق الحرير في لبنان. وفي سنة 1905، كان في الدامور خمسة معامل لإنتاج الحرير.[6] خلال الانتداب الفرنسي، شهد موسم الحرير في الدامور ركودا غير عادي وزيادة ضرائب، مما أدى الى أزمة كبيرة تمثلت في إفلاس العديد من تجار الشرانق وأصحاب المصانع فيها.[7] خلال سنوات قليلة، تحوّل سهل الدامور إلى زراعة الموز والليمون، وقد تحوّلت تبعا لذلك العادات وأساليب العيش. اجتازت الدامور نكبة الحرير وتضاعف فيها عدد البيوت والمتاجر وأصبح عدد السكان حوالي عشرين ألفاً بحلول العام ١٩٧٥.  تكاثُر عدد السكان وقرب المسافة من العاصمة وسهولة المواصلات معها جعل من الدامور خلال سنوات السبعينيات شبه ضاحية ريفية من بيروت الكبرى.

يعود أول تصميم توجيهي لمنطقة الدامور إلى العام ١٩٦٨. وقد أتى تجسيدًا لواقع البلدة في ذلك الحين من ناحية القوى والأولويات والتوّجهات السائدة. بموجبه، تم تقسيم النطاق البلدي إلى ست مناطق: منطقتين مختلطتين للتجارة والسكن، منطقة سكنية، سهل زراعي، منطقة صناعية ومنطقة سياحية. وكان للبلدة القديمة أعلى معدلات الاستثمار في الأرض، وذلك تشجيعاً للبناء فيها وللحدّ من الانفلاش العمراني على الأراضي الزراعية والمناطق الطبيعية. بموازاة السهل الزراعي وعلى امتداد الشاطئ، وُجدت منطقة مخصصة للسياحة والبيوت الخاصة الفاخرة. على هذا النحو، كانت الدامور لا تزال قرية زراعية بامتياز. إلا أن التصميم التوجيهي أطلق رؤية لجذب النشاطات السياحية على الشاطئ وإقامة فيلات للعائلات المتموّلة. تجدر الإشارة هنا إلى أن الرئيس شمعون بنى قصراً له على ساحل السعديات في الجزء الجنوبي من الدامور.

مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وفي إثر مجزرة مؤلمة، شهدت الدامور تحوّلات سريعة وتهجيراً مفاجئاً لسكانها، حيث هُدم حوالي 620 مبنى، وهُجر السهل الزراعي، وعانى الشاطئ الداموريّ من عمليات شفط الرمال بحيث تقلص حوالي 25 متراً[8].

أحداث الحرب غيّرت ديموغرافية المنطقة بشكل كبير. ولم تعُد سوى نسبة صغيرة من السكان المسيحيين إلى ديارهم عند انتهاء الحرب الأهلية، وذلك بعدما تكيّفت مع الحياة في أماكن أخرى من لبنان. خلال مرحلة إعادة الإعمار، خضعت الدامور لبرنامج محدد يتعلق بعودة المهجرين، كما وصدر في العام 1994 القانون 322 الذي سمح للمهجر بالبناء ضمن عقار لا يستوفي الشروط القانونية للبناء. في العام 1996، تم إحصاء 662 مبنى في الدامور وقُدر عدد السكان الدائمين بألف شخص[9]. بعد سنتين، واستناداً إلى الصور الجوية، تم إحصاء 752 مبنى، أي ما يعادل زيادة بنسبة 13.5٪. بالرغم من هذا الازدياد، بقيت نسبة العودة قليلة، وانحصرت إما عبر إعادة بناء بعض البيوت في البلدة القديمة من قبل أهلها؛ أو عبر مشاريع كبرى خاصة على تلال الدامور، على شكل gated community ، تحديداً مشروع المشرف الذي انطلق بعد العام 1994.

كما يصف غريّب في كتابه، “الدامور الجديدة، حُلم في رؤوس أبنائها وبناتها”، فأهلها يتأرجحون ما بين صورة مشرقة للماضي والحياة الدافقة، وصورة الخراب المفجعة. الصورتان تتناوبان، لكن تقابلهما صورة ثالثة لدامور اليوم، هي من نسج الخيال لأن “عودة المهجرين إلى ديارهم (…) لم تُنتج سوى عدد من المنازل المتفرقة”.[10]

اليوم، عدد الأشخاص المسجلّين رسمياً في الدامور يقارب 30 ألف شخص، فيما يصل عدد القاطنين إلى 5000 عائلة[11]. ويظهر انقسام حادّ بين الدامور المسيحية والسعديات (التي تقع ضمن نطاق الدامور البلدي) المسلمة السنيّة، في ظلّ مطالبات أهالي السعديات (المعروفين بعرب السعديات والذين تواجدوا فيها ما قبل الحرب الأهلية) للانفصال عن الدامور.[12]

كما وانتقل – في موازاة ذلك – سكان من فئات اجتماعية متنوّعة (في غالبيتهم من المسلمين) إلى الدامور والقرى المحيطة، وذلك هرباً من ارتفاع تكاليف السكن في بيروت. في ظل هذه الظروف، تفاقم التوّتر المجتمعي الطائفي وخطاب التخويف. فماذا عملت السلطات المحلية للتعامل مع هواجس الماضي ومتطلبات الحاضر؟

رؤية طبقية ومصالح اقتصادية بغطاء طائفي

بعد انقضاء أربعين عاماً على التصميم التوجيهي الأول، صدر في العام ٢٠٠٨ تصميم جديد لمنطقة الدامور. يشرح أحد أعضاء البلدية: “أوجدنا التصميم الجديد لما فيه من مصلحة الدامور وأبنائها من ناحية تخفيض الاستثمار وتوسيع مساحة الشقق السكنية لتتماشى مع رؤيتنا للبلدة. كان هناك في التصميم القديم منطقة صناعية تمّ إلغاؤها، وأوجدنا منطقة تصنيفها سياحي على طول الخط الساحلي والتي تقع فيها حالياً المنتجعات السياحية. وهكذا أصبحت بلدية الدامور مبنية على نظام توجيهي سياحي- بيئي.”

بالنظر الى خريطة التصميم التوجيهي الجديد وجدول التغيّرات المرافق له، نجد أن المناطق تتميّز إجمالاً بمعدلات استثمار منخفضة بالنسبة إلى معدلات الاستثمار السابقة. وهذا الأمر ملفت مقارنةً مع جميع البلدات المحيطة وبلدات الساحل اللبناني عموماً. عندما سألنا عضو البلدية عن السبب، قال: “نحن نريد أن تكون الدامور مرتبة وتجذب الناس من الخارج. تخيلي لو أننا نسمح ببناء مبان فيها ٢ أو ٣ أو ٤ شقق في الطابق الواحد. تصبح المنطقة عندها شعبية وهذه ليست رؤيتنا. في التصميم التوجيهي خفضنا الإستثمار لهذا السبب، جعلنا مساحات العقارات أكبر والشقق كبيرة بحدود ٢٠٠ متراً مربعاً. وأضفنا الحجر للواجهات والقرميد. تعرفين أن الدامور تدمرت وتهجر أهلها، مع العودة صار هناك إعمار بطريقة عشوائية وصار هناك تلاصق… ولكن حللنا الموضوع في التصميم الجديد.”

بهذه الكلمات، تتضح رؤية البلدية لمستقبل الدامور المبنية على أساس طبقي ذات مصالح إقتصادية. فالسكان غير المرغوب فيهم هم أولئك غير القادرين على تحمّل تكاليف شراء بيت والسكن في الدامور “الجديدة”. لا سيما عندما تكون غالبية السكان الذين ينتقلون إلى الدامور هم من المسلمين الذين تم تهجيرهم من بيروت.

في مقابلة أجريناها مع متعهد بناء يعمل في الدبية والدامور، قال: “المتعهدون (المسلمون) عم بيعمرّوا بالإقليم وساحل الشوف، وبيجيبوا معارفهم يسكنوا. بس الدامور منسميها صحراء الدامور، لأنهم مانعين تسجيل الأشغال والبناء لغير المسيحيين ليمنعوهم من تجارة البناء… باستثناء السعديات”، التي تقع في الجزء الجنوبي من الدامور وهي ذات غالبية سكان مسلمة.

في موازاة هذا “التضييق” على عمليات البناء تحت شعار الحفاظ على أملاك المسيحيين، تبرز المنتجعات الشاطئية (قد وصل عددها اليوم إلى 17 منتجعاً على ساحل الدامور) والمجمعات السكنية الحصرية التي يشجع التصميم التوجيهي الجديد على إنشائها. بالنظر إلى خريطة ملكية الأراضي، نجد أنّ نسبة عالية من ملكية العقارات حيث المنتجعات وأماكن السكن الفاخرة تابعة لمستثمرين أو شركات عقارية، مما يتناقض مع خطاب الحفاظ على الدامور لأهلها. كما وتبرز قضية مشروع “المطل” العقاري الذي اعتُبِر في عدد من المقالات الصحفية أنه الدافع المباشر لإصدار التصميم التوجيهي 2008.

ومن خلال شراكة سياسية ما بين رئيس البلدية شارل غفري والنائب إيلي عون (عضو كتلة النائب وليد جنبلاط)، استطاعت «شركة الاستثمار والتطوير العقاري» لصاحبيها السعودي طارق الرسن والنائب إيلي عون، أن تتملّك أراضي في الدامور، وتبدأ في بناء مجموعة مشاريع سكنية عملاقة تضمّ مباني عديدة تحت اسم مشروع «المطل».[13]  كان تصنيف هذه الأراضي لا يسمح بالبناء عليها، ولكن قام تصميم الـ 2008 بتغيير تصنيف العقارات التابعة للمشروع إلى «MA2» وهو تصنيف للسكن الخاص. المشروع ولّد غضباً لدى أهالي الدامور: لماذا تُباع أراضينا ويقام عليها مشاريع لا نسكن فيها؟ جاء الجواب من أصحاب مشروع المطل، فصدر قرار مفاده أنك إذا كنت «داموريّاً» أصيلاً، تحصل على خصم 30% لشراء شقة في المشروع. تجدر الإشارة هنا، أنّ البلدية أصدرت قراراً مشابهاً فيما يتعلق بالمنتجعات الشاطئية، حيث يستطيع الداموريون “الأصليين” الدخول مجاناً إلى بعض المنتجعات في بعض أيام الأسبوع.

استمر الحديث عن مشروع المطل حتى الانتخابات البلدية في العام 2016 التي كانت أبرز عناوينها “أن أرض الدامور ليست للبيع” و “الدامور للدوامرة” و”سهل الدامور ليس للبيع”. كان خصوم رئيس البلدية شارل غفري يستخدمون “مشروع المطل” ليؤكدوا أنه يضم 300 شقة سكنية مما سيؤدي إلى خلل ديموغرافي في الدامور، في حين يرد الغفري “بأن المشروع عبارة عن 50 فيللا فخمة، تدخل ضمن نطاق مشروع المشرف، وتالياً لا يمكن أن يؤثر في الديموغرافيا في المنطقة نظراً إلى كلفته المرتفعة جداً”.

شعارات ملكية الأرض وأصالتها باتت عناوين لمعارك انتخابية وخطابات تأجيجية، في حين أنّ جوهر الأمر يكمن في المصالح الاقتصادية والرؤية الطبقية لمستقبل الدامور التي تستثني منها من لا يستطيع تحمّل تكلفتها. حماية وتعزيز الموارد المحلية أساسيّ في أيّ عملية تنظيم مُدني، ولا يمكن اختصارها في الحدّ من الاستثمار على أسس طبقية وطائفية. المساحات الخضراء المفتوحة تشكل اليوم 55% من أراضي الدامور، ولكنها في ضوء التصميم التوجيهي الحالي تجسيدٌ لعلاقات الملكية السائدة وتكراراً لأوجه اللامساواة.

كان من الممكن إرساء إنماء عادل لو وُضع تصميم توجيهي يعالج هواجس الماضي ويشرك السكان (أصليين وقاطنين) في أولوياتهم واحتياجاتهم. وربما كان من الممكن أن يطلق ذلك مساراً حقيقياً لعودة من تهجّر ورغب في العودة.

التغيّرات التي رصدناها ما بين تصميم عام 1968 و 2008

خريطة التصميم التوجيهي للدامور (٢٠٠٨) مع ملكية بعض الأراض

تخطيط الدبية: بين مصالح خاصة ومخاوف عامة

تقع الدبية على بعد ٣٠ كم جنوب بيروت، وتشكل المدخل الساحلي لمنطقة إقليم الخروب في الشوف. تتكوّن من القرية القديمة الواقعة عند أعالي البلدة، وعدد من التلال والهضبات الخضراء المحيطة والمطلة على البحر والتي تمّ بناؤها واستثمارها بشكل عشوائي منذ التسعينات. وقد لعب إنشاء حرم جامعة بيروت العربية وأحد فروع الجامعة اللبنانية دوراً أساسياً في إنعاش إقتصاد الدبية وتوسّعها العمراني. وبالرغم من هذا النّمو المعتدل، حافظت البلدة عبر السنوات على ما يميّزها من مساحات خضراء، إلى أن بدأ إنشاء مشروع سكني مغلق على تلالها الغربية في ٢٠١٧، تمتد مساحته على أكثر من مليونين متر مربع.

١٩٩٨: أول محاولة تمدين تلال الدبية الغربية

أول مخطط توجيهي صادر لمنطقة الدبية مصدّق بالمرسوم ١١٨٥٥١٩٩٨ وهو – بحسب المحامي شادي البستاني: “نظّم العمران وشروط البناء والفرز والضمّ ومعدّل الإستثمار السطحي والعام والمناطق الإرتفاقية (ZONING)، بعد دراسة هندسية متخصصة من قبل البلدية في حينه حافظت على الطابع القروي والبيئي والتراثي والعمراني الموجود وهوية البلدة وتاريخها.”[14]

لكن بحسب المهندس والمطوّر المعماري جلال العلي[15]، فإنّ وجود كمية هائلة من مناطق الفرز في هذا التصميم الأول للبلدة يدلّ على نية باستقطاب السكان إلى الدبية وإنعاش اقتصاد البلدة في تلك الفترة. كما يشرح العلي أن “هناك قابلية للبيع وانفتاح أكبر في مناطق مثل الدبية والجية حيث هناك تنوع سكاني أكبر مقارنة بالدامور، وحيث نجد جزءا كبيرا من المسيحيين/ات ممّن تهجّر في أوائل الثمانينات ولم يعد حتّى الآن، كما أنّ هذه الفئة لا تتردّد في بيع أملاكها والمهاجرة.” وبسبب موقع الدبية المطلّ على البحر، شكّل جزؤها الأسفل موقعا مرغوبا به للتطوير العقاري، بخلاف البلدة. لكن، وبالرغم من فرز هذه المساحات الشاسعة، لم تجد الدبية طلبا موازيا لما كانت تطمح إليه، فبقي الجزء الأكبر منها غير مبنيّ حتى اليوم.

مخاوف، سياسة وتلاعبات: عملية شراء تلة الدلهمية

في بداية القرن الحالي، شهدت البلدة موجة شراء أراضٍ من قبل “غرباء”[16]. ويؤكد ذلك المهندس جلال العلي: “منذ التسعينات، الكل اشترى بساحل الدبية. في سياسيين عندهن أراضي، والمغتربين الشيعة القاطنين في أفريقيا اشتروا كمان.”

في تلك الفترة، قامت عائلة البستاني بعرض أرض من أملاكها للبيع، وهي تعرف بـ”تلة الدلهمية”. الأرض كناية عن تلة خضراء مطلّة على البحر تبلغ مساحتها حوالي ٣.٥ مليون متر مربع[17]، ورد جزء منها (حوالي مليون متر مربع) في تصميم الدبية التوجيهي الأول (١٩٩٨) تحت تصنيف “مساحة للحماية”، أي البناء فيها محدود جداً، وكان يضمّ نادي الغولف.

فاهتم بشرائها علي تاج الدين، وهو تاجر من المذهب الشيعي يقال أنه مقرب من حزب الله. بحسب الصحافي بيار عطالله، عند علمهم بذلك، توجه سكان الدبية إلى إحدى سلطات الكنيسة المارونية في محاولة للتصدي لعملية الشراء. بالتالي، قام رجل الأعمال الماروني المتموّل روبير معوض بشراء الأرض بدلاً عن تاج الدين، بهدف تطوير مشروع سياحي ضمن شروط البناء القائمة. لكن تدخّل بهيج أبو حمزة، مستشار وليد جنبلاط في تلك الفترة، في المشروع، ما أدّى إلى تنازل معوّض عن حصصه في “شركة إنماء الدلهمية” لصالح علي تاج الدين في العام ٢٠١١[18]. عبر هذه العملية، انتقلت  ملكية الأرض الفعلية دون علم البلدية، إذ تمّت عبر السجل التجاري[19] دون تسجيل انتقال ملكية الأرض[20].

أثارت هذه الصفقة ردات أفعال عدة في الإعلام التي تبنّت في أغلبيتها خطابا طائفيا يعكس ويعظّم المخاوف الراهنة في بلدة الدبية والمنطقة المحيطة، لا سيما هواجس التغيير الديموغرافي والمخططات الحزبية المبطنة، إذ تم ربط عملية شراء الدلهمية بعمليات عقارية شبيهة تحصل على نطاق أوسع في المنطقة.

تخطيط بهدف الربح: “شركة إنماء الدلهمية” تعيد رسم ملامح الدبية

في العام ٢٠١٢، انعقدت جلسة تصويت في بلدية الدبية، وكان موضوعها تعديل التصميم التوجيهي الصادر في العام ١٩٩٨، بهدف رفع عامل الاستثمار في منطقتي الدلهمية والهليونة. تمت هذه الجلسة بطلب من “شركة إنماء الدلهمية” بعد أن تملكها علي تاج الدين، لكن تمّ رفض طلب التعديل من قبل أغلبية المجلس البلدي (٦ ضد ٥). ثم في العام ٢٠١٢، انعقدت جلسة ثانية لإعادة النظر بطلب التعديل، فقبله المجلس بعدما تمّ إقناع أحد المعارضين سابقاً، ما أدى إلى حلّ البلدية باستقالة نصف أعضائها، وتقديمهم طعنا بالقرار البلدي أمام مجلس شورى الدولة بوكالة المحامي شادي سالم البستاني (١٨٠٤٠٢٠١٢).

على هذه الخلفية، انقسم المجلس البلدي في الأسابيع التالية إلى لائحتين متنافستين خلال المعركة الإنتخابية. وقد فازت لائحة “الكرامة والقرار الحر” (مع التعديل). بتاريخ ٦٧٢٠١٣ صدر قرار بلدي يطلب زيادة عامل الاستثمار في منطقتي الدلهمية والهليونة. ثم صدر قرار عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني، بالمصادقة على زيادة عامل الاستثمار في سائر منطقة الدبية. فأصدر المجلس البلدي قرارا بوقف العمل بقرار المجلس الأعلى. وقد ادّعى المحامي شادي سالم البستاني (وهو المحامي الذي قدّم الطعن ١٨٠٤٠٢٠١٢) أن المخطط المعدّل يؤدي إلى “تمرير صفقات مشبوهة وتشريع مخالفات جسيمة لمرسوم التصنيف النافذ، تأميناً لمصالح ومنافع خاصة على حساب المنفعة العامة لأهالي بلدة الدبية”[21].

في ٢٠١٦، طلب المجلس البلدي الجديد مهلة ستة أشهر لإعداد دراسة موضوعية للمخطط الجديد الناتج عن طلب الشركة العقارية[22]. وتمّ إستغلال هذا الوضع لتأجيج الخطاب الطائفي، دون الإكتراث بمسألة المصلحة العامة أو بأثر المشروع البيئي على البلدة وبنيتها التحتية المحدودة أو بمدى إلزامية التصاميم التوجيهية والأسباب الموجبة لتعديلها. في أواخر العام ٢٠١٦، تترجمت التحالفات الحزبية المتغيّرة على النطاق الوطني بتصديق التصميم التوجيهي العام والتفصيلي الجديد للدبية بالمرسوم ٤٥٤٨ في ٢٧١٠٢٠١٦، بعد أن رشّح الحريري الرئيس ميشال عون للانتخابات الجمهورية، وقبل الإنتقال إلى حكومة تصريف أعمال. اليوم، ما تبقى من محمية “تلة الدلهمية” محاط بألواح ورشة مشروع “مديار، شروق مدينة”.

نشر هذا المقال في العدد الخاص بالانتخابات، للاطلاع على العدد انقر/ي هنا https://bit.ly/2pInvRS


[1] حازم الأمين، المسيحيون أحبوا فيلم دويري، جريدة الحياة، 15 تشرين الأول 2017
سليم البيك، قضية رقم 23 أو كيف تُكرّه بالفلسطينيين، جريدة القدس العربي، 3 شباط 2018

 [2] لي قبور في هذه الأرض ممنوع!، جريدة المدن، 17 حزيران 2015

[3] بطرس لبكي وخليل أبو رجيلي، جردة حساب الحروب من أجل الآخرين على أرض لبنان، بيروت، 2005

[4] UNDP, An urban suburb with the capacities of a village: The social stability

context in the coastal Chouf area, Beirut, 2017

[5] ميشال فريد غريّب، دامور من أنت؟ أو مأساة الدامور، طبع على نفقة روز غريّب، 2000

[6] مصدر الأرقام عن كتاب “دامور من أنتِ” و “دليل لبنان” لمؤلفه ابراهيم الأسود، الطبعة الثانية بعبدا سنة 1906.

[7] لم تتدخل الدولة المنتدبة لحماية الصناعة الوطنية ولإنشاء مصرف لتسليف الصناعيين

[8] UN Environment Programme, Mediterranean Action Plan, Ministry of Environment,

“Coastal Area Management Program” report, July 2004

[9] الاحصاء المركزي

[10] ميشال فريد غريّب، دامور من أنت؟ أو مأساة الدامور، طبع على نفقة روز غريّب، 2000

[11] UN Environment Programme, Mediterranean Action Plan, Ministry of Environment,

“Coastal Area Management Program” report, July 2004

[12] UNDP, An urban suburb with the capacities of a village: The social stability

context in the coastal Chouf area, Beirut, 2017

[13] فراس الشوفي، سوليدير صغيرة في الدامور، جريدة الأخبار، 24 تشرين الثاني

[14]  شادي سالم البستاني، لا أسباب موجبة لتعديل تصنيف الدبيّة، جريدة النهار، ٣١ آب ٢٠١٦  (goo.gl/A7eQV9)

[15]  يعمل ويسكن في المنطقة منذ ٣٦ سنة، أجرينا معه مقابلة خلال البحث الميداني

[16  بيار عطالله، الدبيّة ضحية للسماسرة والتجار، جريدة النهار، ٩ أيار ٢٠١٤

[17]   أحمد منصور، الدبية :” بيع الاراضي وتعديل المخطط التوجيهي محور معركة البلدية “، الإقليم، ٣ آذار ٢٠١٣ (goo.gl/7abrt5)

[18]   فيفيان عقيقي، مشروع «الدلهمية»: اجترار نظريّة «الوجود المسيحي المهدّد»، جريدة الأخبار، ٢٣ آب ٢٠١٦

            http://www.al-akhbar.com/node/263548

[19]  جنوبية، بلدية الدبية لم تتبلغ بيع أراض في خراجها، ٢٧ كانون الأول ٢٠١١

[20]   فيفيان عقيقي، مشروع «الدلهمية»: اجترار نظريّة «الوجود المسيحي المهدّد»، جريدة الأخبار، ٢٣ آب ٢٠١٦

            http://www.al-akhbar.com/node/263548

 [21]    شادي سالم البستاني، لا أسباب موجبة لتعديل تصنيف الدبيّة، جريدة النهار، ٣١ آب ٢٠١٦ (goo.gl/A7eQV9)

[22]   وزارة العمل، اقتراح الوزير قزي في مجلس الوزراء حول التصميم التوجيهي لمنطقة الدبية، ١٨ آب ٢٠١٦

(goo.gl/irqeFx)

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني