بخلاف دساتير عدة تم تعديلها حديثاً، وفي مقدمتها دستورا مصر وتونس، يبقى الدستور اللبناني خلواً من أي عبارات تكرّس صراحة الحق بالبيئية. ولكن، هل من شأن ذلك أن يؤدي الى نسف أي ادعاء بدستورية هذا الحق في لبنان؟ ما نريده هنا هو أن نلجم استعجال البعض في نفي دستورية هذا الحق من خلال فرض تساؤل جديد في الخطاب العام، مفاده: “ماذا يعني أن تتوسط شجرة العلم اللبناني؟ أفلا يستشف من ذلك إرادة دستورية في إبراز مدى اهتمام الدولة بتأمين بيئة مؤاتية للغابات؟ وألا يصبح المشرّع مع جعل هذه الشجرة رمزاً للبنان ملزماً بفعل كل ما بإمكانه لحمايتها، وفي الآن نفسه، بالامتناع عن كل ما من شأنه الإضرار بها؟ أسئلة وفرضيات كثيرة تود المفكرة اليوم طرحها في سياق سعيها الى تعزيز مشروعية المطالبة بحماية البيئة وتطوير الخطاب العام بهذا الشأن.
بالطبع، سيرد على ذلك بأن الاعتبارات البيئية ليست الاعتبارات التي قادت المشرّع الدستوري الى اختيار الأرزة، ما يجرّد ادعاءنا من أي معطى واقعي، فيكون أقرب الى الفنتازيا القانونية. وهذا ما نقرؤه مثلا فالأسباب الثلاثة التي تعطى عموما لاختيار هذا الشعار هي الآتية:حيث ورد أن اختيار الأرزة تم لأسباب ثلاثة لا يتصل أي منها بالبيئة: الأول، القدسية حيث ورد ذكر هذه الشجرة في كتب الديانات التوحيدية الثلاث. والثاني، أنها خالدة، في إشارة الى أنها أشجار معمرة، يبلغ عمر بعضها ثلاثة آلاف سنة. ويضاف الى هذين الاعتبارين اعتبار آخر مبهم بعض الشيء في دلالاته من خلال عدها رمزاً للسلام.
ولكن، أبعد من ظاهر العبارات المعلنة، هل تنفي حقيقة هذه الأسباب القول بأن الشجرة ترمز الى وجوب احترام البيئة وحمايتها؟ وألا نستعجل الحكم عند رد الفرضية التي نطرحها هنا على أساسها؟ أفلا يمتلئ التاريخ بالأمثلة التي يشكل فيها “المقدس” التعبير الأكثر دلالة على تمسك الشعوب (الطوطامية) بهذا الجانب البيئي أو ذاك، فيكون تقديسه الأداة المثلى والتجسيد الأمثل لفرض حمايته؟ وألا يصبح تقديس الأرزة من هذه الزاوية مرادفاً لإعلان فرض حمايتها بما تمثله وبما يستتبعه ذلك من واجب حماية البيئة ككل؟ وما يعزز هذه التساؤلات هي أناشيد الشاعر الفرنسي، ألفونس لامارتين، لشجر الأرز قبل عقود من إعلان دولة لبنان. فقد عدّ الشاعر شجر الأرز بمثابة “النصوب الطبيعية الأكثر اشتهاراً في العالم”، بمعزل عن أي اعتبارات دينية أو وطنية، وهي “….شواهد القرون والطبيعة” و”تعرف تاريخ الأرض أكثر من التاريخ نفسه[5]“. وبذلك، نلحظ أن الإنشاد قارب شجر الأرز ليس بذاتها، بل قبل كل شيء كرمز للطبيعة ككل. وأهمية لامارتين أنه المرجع الأكثر ذكراً عند الحديث عن شجر الأرز وأن إنشاده لها شكل ربما أحد العوامل الرئيسة في اشتهارها واعتمادها رمزاً وطنياً. وفي الاتجاه نفسه، تذهب العبارة الواردة في إعلان لبنان الكبير، حيث جاء: “أرزة دائماً خضراء، تعني شعباً دائم الشباب رغم ماضيه المرير”. فبمعزل عن المنحى السياسي للإعلان الذي سعى الى مجاملة مشاعر مواطني لبنان الكبير آنذاك، فإنه تناول الأرزة ليس من ناحية قدسيتها ولا من ناحية شموخها وما الى ذلك من عناصر تفاخر، بل من ناحية خضارها الدائم بما يفترضه من بيئة سليمة، والذي قدمه كمرادف لشعب دائم الشباب.
واللافت أنه جعل الأرزة رمزاً للوحدة الوطنية التي تتجاوز شرورالماضي وتكسر مجمل الاعتداءات ضده[1]. وبذلك، تصبح شجرات الأرز ليس فقط عامل تفاخر (شموخ ..)، بل بالدرجة الأولى عامل توحيد رغم شرور الماضي وانقساماته. فلا يكون اعتماده مؤشراً على تمسك لبنان بالبيئة والتزامه بحمايتها وحسب، بل أيضاً على اعتبار هذا التمسك عامل التوحد الرئيس بين اللبنانيين مهما عصفت بهم حروب وشرور. وبهذا المعنى، تكون حماية البيئة ليس فقط هدفاً وخريطة عمل للدولة بل ضمانة لوجودها واستمرارها.
بالطبع، من شأن الأخذ بقراءة مماثلة أن يفرض قراءة تجديدية لشجرة الأرز فيتحول من مجرد شيء جامد ذي مدلولات معينة féticheالى منارة تذكّر بالواجب، بالمشروع الوطني مع ما يستتبعه من أبعاد إنسانية.
نشر في العدد الواحد و العشرين من مجلة المفكرة القانونية
رسم رائد شرف
[1]Un cèdre toujours vert, c’est un peuple toujours jeune en dépit d’un passé cruel. Quoique opprimé, jamais conquis, le cèdre est son signe de ralliement. Par l’union, il brisera toutes les attaques ».
متوفر من خلال: