انطلقت يوم السبت 13 مارس الجاري، عملية تلقيح التونسيين ضد فيروس كورونا. وبصرف النظر عن اللغط الذي رافق عملية جلب اللقاحات وتأخر البلاد كثيرا في تأمينها واقتنائها، فمن البدهي التساؤل عن نصيب من هم على الهامش المنسي من حسابات البلاد منذ انطلاق الأزمة، سيما وأن الشحنات التي اقتنتها تونس لا تكفي مواطنيها ولا الأجانب الموجودين على أرضها. وإذ كان من المفروض أن تكون مسألة تلقيح المهاجرين غير النظاميين المقيمين بتونس خارج دائرة الجدل أصلا، فإنه لا ضمانات أيضا بأن لا تتعلل تونس بضيق الامكانيات وصعوبة الحصول على جرعات كافية من اللقاحات وتستثني هذه الفئة، تماما كما تعللت بذلك دول غنية صُنع اللقاح على أرضها وحصلت على حق الأولوية في اقتناءه.
كورونا كشفت الوجه القبيح للإنسانية
لا يختلف عاقلان على أن الحق في الحياة والحق في الصحة حقوق إنسانية مقدسة، وأن ضمانها لجميع البشر زمن الجوائح والأوبئة خاصة لا يمكن أبدا أن يخضع لأي تدابير تمييزية، فالحق في البقاء وحفظ صحة الفرد لا يقبل الانتقائية ولا المفاضلة في أي حال من الأحوال. بيد أن أزمة كورونا، أنعشت الذاكرة الإنسانية وأخرجتها من طوباويتها، فالبون شاسع بين المبادئ الكونية لحقوق الإنسان والقيم الإنسانية من تضامن وتآزر زمن الأزمات وبين الوجه الحقيقي للبشرية حينما تكون غريزة البقاء سيدة الموقف.
وفي بداية أزمة كورونا العام الماضي، سقطت ورقة التوت التي كانت تغطي هذا الوجه البشع، وبعيدا عن شعارات التضامن الدولي سارعت الدول الغنية لاقتناء كل ما توفر في السوق العالمية من تجهيزات طبية ووسائل وقاية ضد الفيروس ولم تترك للدول النامية والفقيرة سبيلا للحصول عليها متجاهلة كل نداءات الاستغاثة، وكانت المعادلة واضحة آنذاك، الأرواح في هذه الدول أعلى قيمة من تلك في نظيراتها الفقيرة والنامية. وبلغ الأمر حد القيام بعمليات قرصنة طلبيات وشحنات الكمامات وتجهيزات الإنعاش التي كانت تونس إحدى ضحاياها حينما تم الاستيلاء في الرابع والعشرين من مارس 2020 على باخرة تحمل كحولا طبية متجهة إلى تونس من قبل “مجهولين إيطاليين” على حد تعبير وزير التجارة التونسي آنذاك محمد المسليني.
وبتفشي الفيروس في العالم، سارعت هذه الدول أيضا للاستثمار في اكتشاف اللقاحات لا من أجل إنقاذ الانسانية من وباء فتاك، بل من أجل انقاذ مواطنيها أولا ويؤول ما يبقى من فتات للدول النامية والفقيرة. وخلال هذه الفترات الصعبة، سحقت فئات هشة وحرمت من أبسط حقوقها وكانت معادلتها أفظع بكثير من مواطني الدول الغنية المختزلة في تقييد الحرية زمن الحجر الصحي لقاء الحماية والتغطية الصحية، فبالنسبة لهؤلاء الحجر الصحي أي الموت جوعا جراء البطالة، أو الخروج إلى الشارع بحثا عن عمل والموت بالفيروس.
على هامش الحسابات الرسمية
وفق المعادلة المحزنة ذاتها، كانت حياة المهاجرين غير النظاميين في تونس، العاملين في مناخ من الاستغلال الاقتصادي كثيرا ما يصنف تحت خانة الإتجار بالبشر، صعبة خلال فترة الحجر الصحي. وأضحى الحصول على كفاف العيش صعبا أيضا مع إغلاق المحلات والمقاهي التي تعدّ الوجهة الأولى التي تشغل المهاجرين غير النظاميين، وأقدمت العائلات المشغلة لهذه الفئة على طرد الكثيرين منهم. وقد نتج عن ذلك عجزهم عن توفير الحاجيات الأساسية ومن بينها سداد معاليم الإيجار. وإثر مطالبات متكررة من المنظمات والجمعيات المحلية، خصصت الحكومة التونسية آنذاك مساعدات اجتماعية لهذه الفئة الهشّة خلال فترة الحجر الصحي على غرار تلك المقدمة للطبقات الفقيرة من التونسيين، لكن المهاجرين رفضوا استلامها حتى لا يتم تحديد هوياتهم. ولو لم يبادر المجتمع المدني بالتنسيق مع المنظمة الدولية للهجرة في بعض الحالات بتوفير بعض المعونات والأغذية والتكفل بالحالات الحرجة لما تمكن كثير منهم من تجاوز الأزمة بسلام.
وتغيب الأرقام الرسمية من الجانب التونسي المتعلقة بعدد إصابات هذه الفئة بفيروس كورونا. ويعود ذلك لإحجام المهاجرين غير النظاميين عن الإعلام بحالات الإصابة في صفوفهم تخوّفا من أن يتمّ كشف هوياتهم وأماكن إقامتهم وترحيلهم قسرا إلى بلدانهم بعد قضاء فترة العزل الصحي، وفق ما أكده رئيس لجنة الحجر الصحي بوزارة الصحة محمد الرابحي لـ”المفكرة القانونية”. وحسب ذات المتحدث، فإن الوزارة كانت قد قررت سابقا تخصيص مركز مخصص لاستقبال حالات الإصابة من الأجانب المقيمين في تونس على اختلاف وضعياتهم القانونية لكن الفكرة لم تنفذ، وتقتصر الحالات المعلومة لدى الوزارة على من تتولى وزارتي الداخلية والخارجية الإعلام بحالاتهم من أجل التكفل بهم. وأكد الرابحي في السياق ذاته، على تمتع من ثبتت إصابته وقام بالإعلام عن ذلك بالخدمات الصحية التي يتمتع بها التونسيون دون تمييز ويتواجد حاليا بضعة أنفار منهم في نزل خاص بإيواء المصابين.
منظمات تستبق حرب توزيع اللقاحات
وحتى لا ترسم السياسة الصحية العامة خطا إضافيا في مسار انتهاك حقوق المهاجرين غير النظاميين عبر اقصائهم من عملية توزيع اللقاحات، وقعت خمس عشرة منظمة وجمعية تونسية في الثالث من شهر مارس الحالي بيانا مشتركا موجها للسلطات التونسية تدعو فيه هذه الأخيرة إلى إدماج المهاجرين، على اختلاف وضعياتهم، في المخطط الوطني لتوزيع لقاحات كوفيد 19، وشددت في بيانها المشترك، على وجوب إزالة كل العوائق القانونية والتقنية التي تعيق وصول اللقاحات لهذه الفئة، مشيرة إلى أن وجوب توفر وثيقة هوية أو إقامة معترف بها من الدولة التونسية كشرط للتسجيل يعيق الكثيرين من المهاجرين غير النظاميين والذين لا يملكون هذه الوثائق عن القيام بعملية التسجيل من أجل الحصول على اللقاح.
وبين المكلف بالإعلام بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر لـ”المفكرة القانونية” أن الوضع بالنسبة لطالبي اللجوء أو اللاجئين يبدو أقل تعقيدا إذ تتولى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تسجيلهم وادراجهم بقائمة الانتظار للتطعيم، في حين لا يمكن إدماج المهاجرين غير النظاميين بمنظومة التسجيل للتطعيم لفقدانهم أي بيانات هوية معترف بها محليا. وأضاف بن عمر أن هؤلاء لا يتعاملون مع السلطات التونسية ويتفادون ترك بياناتهم لديها، نظرا لغياب الثقة في سياساتها الخاصة بالهجرة، وبالنسبة إليهم فإن أي تعامل مع سلطة محلية أو مركزية يؤدي للترحيل القسري.
ويرى بن عمر، في حديثه لـ”المفكرة القانونية” أن الحلّ لا يكون إلا بناء على قرار سياسي من الحكومة يقضي بإدراج هؤلاء في قائمة المنتفعين بالتلقيح. ويتمّ ذلك عبر ترغيبهم في التسجيل بمنحهم بطاقات إقامة مؤقتة إلى حين تسوية وضعيتهم القانونية. وأشار إلى أن وزارة الصحة، إثر نقاشات عديدة جمعتها مع منظمات المجتمع المدني ومن بينها المنتدى، ترفض تطعيم أشخاص لا تعرفهم وغير مسجلين في قاعدة بياناتها. ولم تؤدّ هذه النقاشات إلى خروج الوزارة برؤية أو مقاربة واضحة بشأن المهاجرين غير الشرعيين. وقد نبّه المتحدث ذاته، إلى أن انخراط تونس في مبادرة كوفاكس التابعة لمنظمة الصحة العالمية التي وفرت منظومة التطعيم الوطنية يقتضي أن تتبع توصياتها المتعلقة بعدم استثناء أي فئة من التلقيح وقد تواجه تونس عقوبات في حال إخلالها بهذه الالتزامات.
خبراء أمميون: حياة الجميع بنفس قدر الأهمية والدول ملزمة بتوزيع عادل للتطعيم
وبالتوازي مع توصيات المنظمة، أصدر مجموعة خبراء الأمم المتحدة لكل من قارات أوروبا وافريقيا والأمريكيتين تحت إشراف المقرر الاممي الخاص بحقوق الانسان للمهاجرين في الثامن شهر مارس الحالي، دليل عمل للدول المعنية في القارات المذكورة متعلق بتوجيهات توزيع لقاحات كورونا باحترام كامل لمبادئ حقوق الإنسان. ويعد هذا النص الأول من نوعه الذي ينصص بوضوح على وجوب تمتع المهاجرين مهما كانت وضعيتهم بدول المهجر واللاجئين أيضا بلقاح كورونا احتراما للحق في الحياة والحق في الصحة في هذه الدول. واعتبر الخبراء أن شحّ موارد بعض الدول وعدم حصولها على كميات لقاح كافية يجعل مسألة تقسيم المعنيين بالتطعيم إلى مجموعات حسب مخاطر التعرض للإصابة أمرا لا يمكن تجنبه، وقبل المرور إلى هذه المرحلة لابد من تفضيل الفئات ذات الحاجيات الصحية الاستثنائية دون الأخذ بعين الاعتبار جنسياتهم أو قانونية تواجدهم على تلك الأرض من عدمها.
ونبه دليل العمل من أن يكون التسجيل للتمتع بلقاحات كورونا سلاحا تستخدمه الدول للحصول على معلومات حول المهاجرين غير النظاميين واستعمالها في ما بعد من قبل الحكومات من أجل عمليات الترحيل أو أي إجراءات تعسفية ضدهم. وقدم الدليل الخاص بالمهاجرين فئة المهاجرين غير النظاميين كفئة ذات أولوية باعتبار ظروف عيشها غير الآمنة صحيا التي تجعل امكانية تعرضها للإصابة عالية، وشدد المقرر الأممي الخاص لحقوق المهاجرين في ذات الوثيقة على أن الدول ملزمة بتوفير التطعيم لهذه الفئة وتعليق كل إجراءات الترحيل والايقاف خلال هذه الفترة.
وبينما كان من المتوقع أن تصب السياسة الرسمية التونسية في هذا الإطار، فقد بدا تصريح وزير الصحة التونسي فوزي مهدي المتعلق بإلزامية التسجيل كشرط للحصول على التلقيح محبطا للكثيرين بالنظر لاستحالة العملية بالنسبة للمهاجرين غير النظاميين وامتناعهم عن تقديم بياناتهم للسلطة الرسمية أو غياب أي وثيقة معترف بها محليا.
تونس ستجد الآليات لإدراج المهاجرين غير النظاميين.. لاحقا
لم يغلق الباب نهائيا أمام المهاجرين غير النظاميين من أجل الحصول على حقهم في التطعيم بل ستكون هذه النقطة مدرجة في اجتماعات اللجنة الوطنية للتلقيح المقبلة، حسب ما أفاد به رئيسها هاشمي الوزير في حديث لـ”المفكرة القانونية”. وأوضح الوزير أن اللجنة عند رسم سياسة التطعيم الوطنية وضعت هدفا للوصول في المراحل النهائية لتطعيم جميع المقيمين على الأرض التونسية. ومن بين نقاط سياستها أيضا، وضع قائمة للفئات الهشة والمعزولة ومن ضمنها فئة المهاجرين في وضعية مخالفة للقانون. وأضاف أن اللجنة تعتزم التنسيق مع منظمات المجتمع المدني من أجل تسجيلهم في قائمات خاصة أو ايجاد صيغة تسمح بتمتيعهم بحقهم في اللقاح دون تعريضهم لخطر الترحيل.
وذكَر رئيس اللجنة الوطنية للتلقيح بأن التطعيم سيقدم وفق معيار الأولوية وخطر الإصابة. لذلك سيتم تقديم الطاقم الصحي ثم المسنين والحاملين لأمراض مزمنة، وهو ما يعني أن فئة المهاجرين غير النظاميين لا تنطبق عليهم معايير الأولوية، مستدركا بأنه في حال تقدم أشخاص منهم من حاملي الأمراض المزمنة طالبين التطعيم فإنه لن يتم رفض طلبهم.
ومن المرتقب، أن تحصل تونس على 4.8 ملايين جرعة من اللقاحات في إطار برنامج كوفاكس، إضافة إلى كميات أخرى متأتية من مزودين آخرين. وكانت قد قررت تقسيم الجرعات وفق معيار الأولوية ونسبة خطر الاصابة بالفيروس. وإذا كانت البلاد قد واجهت صعوبات وتأخيرا في جلب هذه اللقاحات ولم تتضح بعد كيفية توزيعها تنظيميا واجرائيا، فإن تواجد المهاجرين غير النظاميين في قائمة الانتظار قد يطول.