في الأنظمة السياسية البرلمانية ثلاث سلطات، تشريعية وتنفيذية وقضائية، تقوم كل منها بدور يحدده لها الدستور، بحيث تضع الأولى القوانين التي تنفّذها الثانية وتستخدمها الثالثة لإحقاق الحقوق والبت بالنزاعات.
هذه هي الصورة التقليدية والاعتيادية لسير عمل السلطات في دولة القانون. أما عن العلاقة فيما بينها، فهي ليست عمودية أو أفقية، بل تتداخل ببعضها البعض. فالتشريع يتبع ويعالج الإشكاليات التي تواجه السلطة التنفيذية في عملها ويضع لها أنظمة تسدّ الفراغات التي تواجهها، ويتنبّه لما يثيره القضاء في أحكامه من إشكاليات تتعلق بغموض القوانين أو ثغراتها. كما أنه يتماشى مع التوجّهات الاجتهادية في تفسير القوانين الموضوعة كما في استنباط مبادئ وأسس لمعالجة التطورات الاجتماعية والاقتصادىة والقضايا المستجدة والطارئة، بينما يتبع كلّ من الادارة والقضاء القوانين التي يسنّها المشرّع.
هذا هو الوضع العادي في دولة يتحرّك مشرّعوها لمناقشة وتطوير قوانينها مع تطور توجهات إدارتها وقضائها وتطور المجتمع وحاجاته.
أما في لبنان، فالصورة مغايرة للأسف، حيث أن التشريع جامد بشكل عام. وإذا كتب له أن يتحرك في مسألة ما، فلا نسمع نقاشا عاماً يطرح وتوجهات وطروحات تجادل، بحيث يجوز القول أن المشرّع في واد والبلد ومجتمعه وقضاءه في واد. وتصبح الهوة أكبر بالنسبة لموضوع الجنسية وإنعدامها وكل ما يتعلق بها، حيث الجمود الكلّي مستمر منذ ما يزيد على نصف قرن والجمود العام يقارب المئة عاماً.
والقضاء اللبناني بدوره ليس نشطاً إلى درجة عالية في قضايا الجنسية. فعدد الدعاوى يبقى قليلاً لأسباب عدة، منها عدم معرفة المعنيين بالإمكانيات القانونية المتاحة أمامهم أو كلفة اللجوء إلى القضاء، أو منظومة العلاقة بين المواطن والقضاء بشكل عام في لبنان. لكن، بالرغم من قلّة الأحكام القضائية في موضوع الجنسية، إلا أن بعضها يصلح بما من يعتمده من مبادئ، لأن يوجّه المشرّع في تطويره للقانون. ومن أبرز هذه القرارات، اعتباره المولود من والدين معروفين لم يعترف أيّ منهما به بمثابة مجهول الوالدين وصولا إلى الإقرار بحقه باكتساب الجنسية اللبنانية[1] (وهو ما كان ينص عليه قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية لعام 1924 إلا أن قانون 1951 حذف هذه الفقرة)، ومنها أيضاً اعتباره الوالد غير المعروفة جنسيته ومكان تواجده والذي كان يحمل بطاقة قيد الدرس على أنه من جنسية غير محددة ومجهول الجنسية،[2] أو اعتماده مبدأ وجوب “الاستقرار القانوني” للجنسية وضرورة الحد من انعدام الجنسية.[3]
وفي هذا الإطار، يتم اللجوء الى القضاء في قضايا استراتيجية، من أجل دفعه إلى اتّخاذ مواقف بشأنها، سواء عبر إرساء سوابق اجتهادية أو ترسيخ توجهات اجتهادية لم تستقر بعد، خاصة في إطار الضمانات القانونية ضد انعدام الجنسية. ويؤمل أن تشكل قراراته موضوع نقاش قضائيّ وتشريعيّ ومحرّكا لتغيير القانون والسياسة والممارسة. ويهدف التقاضي الاستراتيجي مثلاً إلى اعتماد حلول تستند إلى المعايير الدولية والمبادئ الحديثة في قضايا الاحوال الشخصية، كما في الحالات الآتية:
– الإعتراف برابط الأرض بمحلّ الولادة والإقامة وترتيب مفاعيل قانونية عليها،
– أو اعتبار الروابط العائلية تعلو على الروابط البيولوجيةفي بعض الحالات حيث الرابط البيولوجي غير موجود بين المطلوب حصوله على الجنسية وبين من ربّاه طيلة حياته حاسباً إياه ولداً له،
– أو أيضاً اعتماد الاعتراف العلني والواقعي بالولد الطبيعي من قبل من اعتنى به وربّاه لترتيب رابط الجنسية بالدم من الوالد الذي يربي وإن في غياب الاعتراف القانوني،
وغيرها من المسائل التي تطرح أمام المحاكم عالميا وتجد لها حلولا تصلح كمبادئ عامة يقتدى بها.
ويكتسب هذا التقاضي الاستراتيجي أهمية خاصة على ضوء النتائج التي توصلت إليها الدراسة الميدانية التي قامت بها جمعية روّاد (غير منشورة). فقد بيّنت هذه الدراسة أن الغالبية الساحقة من حالات عديمي الجنسية في لبنان قابلة للحلّ في ظل القانون النافذ حاليّا، لا سيما إذا تم تطبيقه وتفسيره وفق روحية تسعى إلى القضاء على انعدام الجنسيةوعلى نحو ينسجم مع المعايير الدولية ذات العلاقة والمفاهيم الاجتهادية الحديثة والمبادئ التي توصل اليها القضاء في بعض الدول الأخرى في هذا الإطار. وقد تم تقديم دعاوى في مناطق عدة لمضاعفة حظوظ النجاح أو أيضا لتثبيت الاجتهاد من قبل عدد من القضاة.
وفي هذا الإطار، قامت جمعية روّاد ابتداء من العام 2014 بتنفيذ نشاط تقاض استراتيجيّ عبر عدد من الحالات التجريبية (13 حالة)، تنوّعت ملامحها ونواحيها الاستراتيجية . ومن أبرز هذه الملامح الآتية:
1- العمل على إقناع السلطات بوجوب إيجاد حل دائم لفئة “قيد الدرس”، التي مضى عليها أكثر من 60 سنة. ويتمّ ذلك من خلال وضع القضاء أمام استحقاق البتّ بمطلب يؤول إلى اعتبار وضع “قيد الدرس” بمثابة وضع انعدام أو مجهولية جنسية. وبذلك يكون القضاء قد رتب المفاعيل الصحيحة على ما تقر به الإدارة لجهة أن الشخص في وضع قيد الدرس هو أجنبي من جنسية غير معينة، أي ما يعني في القانون الدولي عديم الجنسية (المادة الأولى من اتفاقية 1954 الخاصة بوضع عديمي الجنسية). وما يدفع في هذا الإتجاه هو أنّ توجه المحاكم الحالي،[4] باستثناء بعض قضاة الدرجة الأولى،[5] هو لعدم اعتبار حاملي بطاقات “قيد الدرس” مجهولي الجنسية لترتيب مفاعيل قانونية لجهة اكتساب أولادهم المولودين في لبنان الجنسية اللبنانية برابطة الأرض، معتبرة أن وضع “قيد الدرس” لا يفيد بالضرورة أن حامله هو من جنسية غير معروفة.
ولهذه الغاية، تسعى الجمعية من خلال التوكل عن أشخاص يدخل أصولهم ضمن فئة “قيد الدرس”إلى الدفاع عن التوجه السابق باعتبارهم مولودين من أهل مجهولي الجنسية، أو أقله غير قادرين على اكتساب جنسية أجنبية بالولادة عن طريق الأب. وبالطبع، تهدف هذه الدعاوى في الوقت نفسه إلى إنهاء هذا الوضع الذي نشأ ليكون مؤقتاً فاستمر بنتيجة التراخي لعقود (أكثر من خمسين سنة). وهو أمر يترك هؤلاء الأشخاص في وضع قانوني غير مستقر وإلى ما لا نهاية.
2- السعي الى إرساء مفهوم “الاعتراف الواقعي والعلني” (الضمني) بالولد المولود خارج الزواج. وينطبق هذا المفهوم على الوالد الذي شارك في تربيته وعاش معه وان لم يحصل إعتراف رضائي (صريح) في فترة القصر. وقد تطور هذا المفهوم في الإجتهاد الفرنسي، وتسعى جمعية روّاد إلى إرسائه في الإجتهاد اللبناني بهدف تمكين الولد من الحصول على جنسية والده (اللبنانية) بموجب المادة 2 من قانون الجنسية (القرار 15/1925). وكان الاجتهاد استقر لغاية الآن على رفض الأخذ بالاعتراف برابطة الأبوة الحاصل بعد بلوغ سن الرشد.
وفي هذه الدعاوى، تقدم الجمعية طلبا استطراديا في حال عدم القبول بمفهوم الإعتراف الواقعي (الضمني) مآله إكسابه الجنسية على أساس أنه مولود في لبنان ولم يكتسب أي جنسية – لبنانية أو أجنبية – بالولادة، لعدم اعتراف والده، سواء كان لبنانياً أم غير لبناني، به.
3- السعي إلى اعتماد القرارات القضائية التي تبيّن انعدام جنسية الأب كدليل على مجهولية جنسيته وعدم تمتعه بجنسية أجنبية يستطيع نقلها لأولاده المولودين في لبنان وبالتالي اعتبارهم يستحقون اكتساب الجنسية اللبنانية برابطة الأرض بموجب الفقرة 2 من المادة 1 من القرار 15/1925. وقد تم استخدام هذه الحجة في حالات أكّد فيها الحكم القضائي عدم أحقية أحد الأفراد للجنسية اللبنانية على أساس رابطة الدم أو الأرض أو الأصل العثماني، وتبين في الوقت نفسه بمعرض حيثياتها عدم تمتع هذا الشخص بجنسية أجنبية ما.
4- السعي الى إثبات وجود الأصل في لبنان في 1924 انطلاقا من واقعة ولادته فيه قبل هذا التاريخ وعدم اكتسابه جنسية أخرى بالولادة أو أيضا من واقعة استقرار عائلة من العشائر البدوية في لبنان منذ مئات السنوات. والمطالبة إنطلاقاً من ذلك باعتبار أبنائهم وأحفادهم مولودين لأصول لبنانية.
5- السعي إلى تحميل الدولة عبء إثبات إمكانية إكتساب طالب الجنسية المولود في لبنان لجنسية أجنبية من عدمه، من أجل تطبيق رابطة الأرض لاكتساب الجنسية اللبنانية.
6- التأكيد على قابلية المولود في لبنان على اكتساب الجنسية في لبنان في حال توفر شروطها بتاريخ ولادته. وهذا ما ينطبق على مولود من أب أجنبي كانت جنسيته الأجنبية مسحوبة منه بتاريخ ولادة الطفل، وإن كان من الممكن استعادتها مبدئيا في ما بعد.
7- السعي الى تأكيد عدم جواز إسقاط الدعاوى المستأخرة من قبل المحاكم بانتظار البت بملفات التجنس من قبل الإدارة المختصة عملا بالتكليف الصادر عن مجلس شورى الدولة بموجب قراره رقم 484 المؤرخ في 7/5/2003، وإن طال عدم تحريك الدعوى لمدة تتجاوز مدة مرور الزمن. فالتأخر هنا لا ينجم عن إهمال الافراد المعنيين، بل عن تقاعس الادارة في انهاء دراسة الملفات.
8- السعي الى اعتبار الأب غير المعروفة جنسيته والذي يتوارى عن الأنظار وتنقطع أخباره تاركاً طفله بعمر صغير من دون تسجيله أو تزويده بأي مستندات بما فيها شهادة أو وثيقة ولادة، بمثابة الأب المجهول أو مجهول الجنسية واعتبار الطفل مولوداً في لبنان من أب مجهول أو مجهول الجنسية.
9- إرساء مفهوم اكتساب الجنسية بشكل آلي من قبل القاصر الذي يتجنس أبوه بالجنسية اللبنانية، وان لم يكن قد أعلن عنه بتاريخ التجنس أو حتى لو تم التجنّس على أساس أن الأب عازب. ويشكل هذا التوجه موضع خلاف بين المحاكم: فمنها من يعتبر أن نصّ المادة 4 من القرار 15/1925 لم يشترط أن يتم التصريح بالقاصر في طلب التجنّس ليكتسب الجنسية،[6] ومنها من يعتبر أن الأب لم يكن لبنانيا بتاريخ الولادة فيكون الولد بحاجة الى دعوى لإكسابه الجنسية اللبنانية.[7] والتوجه الذي نسعى إلى ارسائه يستند على الحدّ من انعدام الجنسية عبر الأخذ بمبدأ وجوب وحدة العائلة من جهة وحماية القاصر، إضافة الى اعتبار أن التجنس كعازب أو عدم التصريح بالمولود عند التجنس يستدعي مجرد تصحيح قيود الأب ولا يفقد المولود القاصر عند التجنس حقه بالجنسية بحكم القانون.
10- السعي الى التأكيد على أن أولاد المرأة اللبنانية المتزوجة من رجل عديم الجنسية/ مكتوم القيد المولودين في لبنان هم بحكم “المولودين في لبنان ولم يكتسبوا بالبنوة عند الولادة أي جنسية أجنبية” مما يسمح لهم بالإستفادة من أحكام الفقرة 2 من المادة 1 من القرار 15/1925 لاكتساب الجنسية اللبنانية الحكمية.
بالطبع لا تشمل هذه الحالات كل النواحي الاستراتيجية في قضايا الجنسية. إلا أنها محاولة بداية للتقاضي الاستراتيجي في بعض النقاط الهامة التي نعتقد أنه قد يكون لها أثر هام في تطوير نظام الجنسية في لبنان.
ولا تزال هذه الدعاوى في مراحل التحقيقات والردود من قبل الدولة والمدعين. ولا يمكن استشراف الاتجاهات التي ستسلكها المحاكم بهذا الشأن. أملنا طبعا منها أن ينجح القضاء في إرساء اجتهادات من شأنها الحدّ من ظاهرة انعدام الجنسية في لبنان، تتحوّل إلى محرك لوضع سياسة تشريعية بهذا الاتجاه.
باحثة في جمعية روّاد فرونتيرز
نشر في الملحق الخاص بقضية عديمو الجنسية:
عديمو الجنسية في المنطقة العربية، أي قضية؟
[1] الحاكم المنفرد في بيروت، قرار بتاريخ 01/06/1954، النشرةالقضائية
1954 ص
. 440-442
[2] محكمة الدرجة الأولى في المتن، قرار أساس 400/2006، تاريخ 24/2/2006 (غير منشور)
[3] مجلس شورى الدولة، قرار رقم 488/2013-2014 تاريخ 20/3/2014
[5] المحكمة الابتدائية الثالثة في المتن، قرار في الدعوى اساس رقم 400/2006 تاريخ 23/2/2006
[6] على سبيل المثال محكمة التمييز المدنية، الغرفة الخامسة، قرار 176/2004، تاريخ 16/12/2004
[7] على سبيل المثال، محكمة التمييز المدنية، الغرفة الرابعة، قرار رقم15/2010، تاريخ 2/2/2010