ذكر موقع " حقائق أون لاين " يوم 25 جانفي 2016 أنّ المجلس العلمي للمعهد التحضيري للدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية بتونس قد أقرّ فرض رقابة على كتاب نشر مؤخراً وهو يمثل عصارة أشغال ندوة دولية نظمها المعهد خلال يومي 12 و13 أفريل 2013 بعنوان:"الثقافة والالتزام" والتي أعدّ ونسّق لها وتابع جمع أوراقها الجامعية خميّس العرفاوي، أستاذ التاريخ المعاصر.
وقد أكّد العرفاوي في تصريح "لحقائق أون لاين" في 26 جانفي، أنّ قرار المجلس العلمي القاضي بوقف توزيع الكتاب الجديد يعزى إلى الدراسة التاريخية المنشورة في متنه والتي أنجزها الجامعي المختص في التاريخ المعاصر والراهن عادل بن يوسف وقدمت في الملتقى بعنوان:"المثقفون والسلطة زمن حكم بن علي: الجامعيّون نموذجا (1987-2011)".
وقد نشر الموقع المذكور إفادة د. بن يوسف وفقا للآتي:
"تحوّلت يوم الثلاثاء 12 جانفي 2016 إلى العاصمة واتصلت بالمسؤول عن المخزن الذي أعلمني أنّ المديرة أمرته بعدم تمكين المشاركين في الندوة من نسخهم وتلكّأ في مدّي بنسخة منه بحجّة "وجود خطأ فادح في الطبع" ولم يمكنني من نسخة إلا بعد عناء كبير. وبعد التثبت من الكتاب وخلوّه من الأخطاء اللغوية أو المطبعية، اتصلت بالزميل خميّس العرفاوي الذي أكد لي عدم وجود أيّ خطأ مطبعي وإنما هي مجرّد رقابة على الكتاب وأنّه قام يوم الجمعة 22 جانفي بتوجيه 03 مراسلات: واحدة إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وأخرى إلى الحكومة وثالثة إلى النقابة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي لمجرّد الإعلام ولا للتشهير.وبالأمس (الاثنين 25 جانفي 2016) اتصل بي الزميل خميّس العرفاوي ليعلمني أنّ المديرة عقدت مجلسا علميا للنظر في المسألة وكانت المفاجأة الكبرى بتحوّل المجلس المذكور من اختصاصات مختلفة: لغات وفلسفة وجغرافيا… إلى قضاة تولوا محاكمة المؤرخين والمختصين في الزمن الراهن وأنه بإمكانهم تقييم مقال أو دراسة تاريخية…وللإعلام فإنّ المديرة حضرت المداخلة يوم إلقائي لها وألقى بعدي الزميل خميّس العرفاوي مداخلة بعنوان: "محاكمات نشطاء أحداث الحوض المنجمي (2008- 2009 )"… ولم تعترض على محتوى المداخلتين بالمرّة. وقد ترأس الجلسة آنذاك الزميل الحبيب القزدغلي الذي أشاد بالمداخلة ونوّه بمحتواها ومنهجية تناولها (زاوية المثقف الملتزم بقضايا البلاد..) كما هو الحال بالنسبة للزميل الطاهر قيزة… (أستاذ الفلسفة بكلية 9 أفريل)… والكثير من الحضور من زملاء وطلبة. وقد تولت وسائل الاعلام السمعية والمكتوبة تغطيتها وفي مقدمتها إذاعة المنستير…".
هذا وقد تساءل د. بن يوسف بالقول: "هل يعقل بعد 14 جانفي أن تتمّ مصادرة الأفكار وحرية التعبير علما وأنّي قد نبهت في السطر الأول من الدراسة الى أنّ غايتي هي القيام برصد حالة المنظومة الجامعية في تاريخ تونس وليس محاكمة لأشخاص بذاتهم والمسّ بهم والقدح فيهم… كما حرصت على ذكر جميع هؤلاء بمختصرات أو بصفاتهم دون ذكر أسمائهم كاملة".
كما دعا د. بن يوسف المؤرخين والباحثين في التاريخ لا سيما تاريخ الزمن الراهن، إلى التحرّك في الغرض للتنديد بمثل هذه الممارسات التي كان من المفترض أن تكون قد ولّت إلى الأبد بعد 14 جانفي 2011، لكنها للأسف عادت بانتصاب "محاكم تفتيش" ضد الحريات الأكاديمية تقوم بحجب كتابات لأصحاب الأقلام الحرّة التي لا تتماهى مع أذواق وميول المتصدرين على شأن الجامعة ببلادنا، وفق تعبيره.
من جهة أخرى، أفاد أ.العرفاوي المنسق العام للملتقى أنّ مديرة المعهد قد طلبت منه انتظار قرار من السلطة بشأن إمكانية إعادة توزيع الكتاب من عدمها (وزعت منه 22 نسخة فقط قبل مصادرته) وهو ما من شأنه أن يفرض وصاية على الحريات الأكاديمية.
وفي اتصال بالصحافة قالت «سعاد شاهرلي حرار» مديرة معهد الدراسات التحضيرية للآداب والإنسانيات بتونس: «هل من المنطقي صنصرة (أي منع) كتاب وقع طبعه وحصل على التأشيرة الرسمية في الإيداع القانوني؟ إن أصل الحكاية يتمثل في توقف توزيع كتاب الندوة الدولية التي جاءت بعنوان "الثقافة والالتزام" بعد توزيع 22 نسخة منه بسبب إشكال مالي لا علاقة له بالرقابة على الحريات أو الوصاية على حريّة التعبير …وقد كان أ. بن يوسف من أول الحاصلين على الكتاب، كما تحصل منسق الندوة العرفاوي على 10 نسخ من الكتاب منذ بداية طبعه بتاريخ 18 ديسمبر 2015. أما بخصوص الادعاء بأني بصفتي مديرة للمعهد قمت بصنصرة الكتاب وإجبار الناشر على عدم توزيعه واتخاذي أثناء مداولات المجلس العلمي المنعقد بتاريخ 25 جانفي 2015 قرارا بحجب الكتاب ومنعه من النشر، فهذا كلام عار من الصحة ومجانب للصواب وخارج عن نطاق صلاحياتي بل على العكس تم خلال هذه الجلسة للمجلس العلمي النظر في إيجاد حلّ لاستئناف توزيع الكتاب المذكور وهو حاليا متوفر وعلى ذمة من يطلبه.
كاد المريب أن يقول خذوني
بعثت جامعة تونس يوم 27 جانفي الجاري أي بعد 5 أيام من الضجة التي أثارها خبر منع كتاب في صلة بعلاقة الجامعيين بنظام بن علي مراسلة إلى المجلس العلمي للمعهد التحضيري للدراسات الأدبية والعلوم الإنسانية بتونس جاء فيها:
"بعد الاطلاع على محضر جلسة المجلس العلمي بمؤسستكم المشار إليه بالمرجع أعلاه (25 جانفي) وجوابا على توصيته حول توزيع المؤلف المنشور من قبلكم …اسمحوا لي أولا أن أتقدم بالشكر إلى كافة أعضاء المجلس العلمي على مجهوداته المتواصلة قصد الرفع من مستوى التكوين والبحث بالمعهد وأثمن العودة إلى المجلس العلمي لتدارس المسألة المطروحة، كما أدعوكم مستقبلاً إلى تفعيل أطر تقييم المنشورات مثل لجنة القراءة وهذا معمول به في كل مصالح النشر بالمؤسسات الجامعية".
وإن هذا التوضيح في توقيته وبعض مضمونه يحتاج إلى بعض التوقف لدراسة العناصر الواردة فيه. فهو يدل على أن المجلس العلمي للجامعة اجتمع بشكل طارئ في 25 جانفي في إثر الإعلام الذي أرسله أ. العرفاوي والذي ذكر فيه أن المؤلف الذي يحتوى أعمال الندوة هو بصدد التعرض للمنع. ومن الواضح أن هذا المجلس اجتمع للتداول في شأن الكتاب وصدرت عنه مراسلة تستشير الجامعة على نحو جدّ مستغرب.
فإذا كان الكتاب قد حاز على التأشيرة بناء على موافقة المعهد واللجنة المكلفة بإعداد الندوة، فما الحاجة إلى استشارة الهياكل الإدارية في توزيعه وهي التي لا دخل لها في الواقع بالنشاط العلمي للمؤسسات الجامعية؟
وإذا افترضنا جدلا وجود ضرورة لهذه الاستشارة، فإنها منطقيا لا يمكن أن تكون بعد نشر الكتاب وتسليم نسخ منه إلى صاحب الدراسة المذكورة والمشرف على الندوة، لأن عملية التوزيع قد وقعت وإن بشكل جزئي.
ثم، ماذا يعني التزامن بين تاريخ إصدار التوضيح واشتعال موجة الاحتجاجات حول نبأ منع الكتاب؟
وهل تدخّل متنفذون من الجامعيين من أجل عرقلة توزيع الكتاب منعاً لفتح ملفات الماضي التي يحرص البعض على إخفائها وفرض الصمت بشأنها؟
إلا أن مراسلة الجامعة تتضمّن معطًى آخر يعرفه أهل الاختصاص من الجامعيين وهو أن أعمال الندوات العلمية التي تشرف عليها لجنة من الأساتذة تناقش أثناء الندوات نفسها وفي إثر كل جلسة علمية من قبل الحاضرين وهم عادة من المتخصصين. وهي في كل الحالات لا تعبّر إلا عن رأي أصحابها ولا تلزم المؤسسة في شيء. وعلاوةً على ذلك، فإن القائمين على الندوة هم المخولون بمراجعة كل الأعمال وإعدادها للنشر ثم التنسيق مع المجلس العلمي من أجل نشرها. ولا شك أن كل هذه العمليات قد وقع احترامها وإلا لما جاز أن يحصل الكتاب على الموافقة بالنشر أولا ثم على التأشيرة ثم عملية النشر ذاتها من ميزانية المؤسسة المخصصة للغرض وفي الأخير عملية التوزيع الجزئية. أما الحديث عن لجنة للقراءة فلا يمكن أن يستقيم حسب الأعراف الجاري بها العمل في المؤسسات الجامعية إلا في حالة الأعمال الفردية التي يقترحها الأساتذة سواء من داخل المؤسسة ذاتها أو من خارجها قصد طلب النشر وهي أعمال تخضع بالضرورة إلى تقييم لجنة علمية تتولى قراءتها وتقديم تقرير في ذلك مع توصية بالنشر أو العكس.
وعلى هذا الأساس، لا شك أن إعلام الجامعة يكاد تنطبق عليه مقولة "كاد المريب أن يقول خذوني". فالدعوة إلى تكوين لجنة قراءة يكاد يخفي لوماً مبطّناً للمؤسسة العلمية، إذ أنه يكاد يتهمها بشكل خفي بالتسرع في نشر الكتاب لما فيه من حرج لكثير من الجامعيين الذين لا يزال الكثير منهم يضطلعون بمسؤوليات على رأس مؤسسات جامعية كبرى. ولئن اكتفى المؤلف كما ذكر هو نفسه بالإشارة إلى الجامعيين المورطين في علاقة مريبة مع نظام الاستبداد مقابل منافع ذكرها صاحب الدراسة من دون ذكر أسمائهم، إلا أن ذكر المسؤوليات التي اضطلعوا بها سواء داخل هياكل الإدارة أو على رأس كليات أو معاهد عليا في تواريخ محددة ومضبوطة يجعل أمر التعرف عليهم مسألة ميسورة جداً للمتابعين للشأن الجامعي وللمتخصصين مما قد يقطع الطريق أمامهم لاحقا في تحمل مسؤوليات سياسية أو غيرها.
وسواء حاول المجلس العلمي أو حتى الهيكل الإداري منع الكتاب من عدمه، فان الشهادة التي قدمها د. بن يوسف حول موقف المجلس العلمي للمعهد التحضيري والمشار إليها أعلاه تحتاج إلى تحقيق في صحتها. فإذا صحت أقواله بأن هذا المجلس تحوّل إلى رقيب على أبحاث الجامعيين وأنه يستنجد بالإدارة لتشريع ذلك المنع أو حتى لمجرد الاستشارة، في حين أنه مطالب بتشجيع البحث العلمي بكل الطرق من خلال نشر الأعمال الفردية والحث على عقد الندوات التي دأبت عليها الجامعات العريقة في العالم مع نشر النقاشات التي صاحبتها والتي تتجاوز أحيانا في مستواها المحاضرات نفسها إذا ما صدرت من خبراء ومتخصصين فيالمواضيع المطروحة للنقاش في آخر الجلسات العلمية تعميما للإفادة.
ونحن وإن نبارك وقوف المجتمع المدني في تونس صفا واحدا لمواجهة موجات العودة إلى الوراء التي تتهدد المؤسسة البحثية الجامعية، فإننا نرى أيضاً أنه من الضروري أن تنكب الهياكل الجامعية من مجلس علمي ومجلس جامعة ومجلس جامعات على تحديد شكل العلاقة الإدارية والقانونية بين الأطر العلمية والأطر الإدارية سواء التابعة للوزارة أو المستقلة عنها. فبقطع النظر عن توزيع الكتاب مستقبلا من عدمه، فان مجرد الإستشارة في شأن بحثي لا يهم غير المجلس العلمي ينذر بكل المخاطر. هل هو زمن الحنين الى الوصاية تمارسه الهياكل العلمية على نفسها؟ هل هو إنذار أول بعودة هيمنة الإدارة على البحث العلمي في تونس ومستلزماته؟