في السادس من أيلول 2020 صعد محمد خلدون محمد وعبد اللطيف حياني ومصطفى ضنّاوي وهشام صوفان إضافة إلى 44 شخصاً من شواطئ طرابلس على متن قارب معتقدين أنّهم يسلكون طريق الخلاص من بلد فقدوا فيه كلّ فرص الحياة الكريمة. ضلّ القارب طريقه، ومات على متنه طفلان من العطش وغرق أربعة شبّان، ولم يعثر حتّى اليوم على أي أثر للشبّان الأربعة فيما “نجا” الـ36 الآخرون من الموت على متنه ولكن ليس أكيداً أنّهم سينجون من أسباب الموت الأخرى المتعدّدة في لبنان الذي عادوا إليهم رغماً عنهم بعد أن باعوا ما لديهم أو استدانوا ليؤمّنوا تكاليف الرحلة.
وفي الأسبوع الماضي، تمكّن رجال الدفاع المدني من انتشال جثة الضحية شادي رمضان أمام شاطئ الجيّة وقبل ذلك عُثر على جثث محمد الحصني ومحمد نظير محمد والطفلان سفيان محمد ومحمّد عسّاف، بالإضافة إلى شاب بنغلادشي. تحاول “المفكرة القانونية” في هذا التحقيق إلقاء بعض الضوء على حياة المفقودين قبل أن يخطفهم البحر من بين أهلهم وتنقل عن هؤلاء عتبهم الكبير على السلطات واتهامهم لها بالتقاعس في البحث عن أبنائهم كما تستعيد قصة الرحلة – الفاجعة من خلال تفاصيل إضافية يرويها النّاجون.
مصطفى وعبد اللطيف رفيقان حتّى التّيه
تعيش الشقيقتان منى وسميرة الشامي مزيجاً من الخوف والأمل، فمن ناحية هما خائفتان على مصير ابنيهما مصطفى الضنّاوي (28 عاماً)، وعبد اللطيف الحيّاني (23 عاماً)، ولكن لديهما أمل كبير بعودتهما رغم مرور شهر على قفزهما من القارب “لأنهما لبسا سترات النجاة”.
في منزل منى والدة مصطفى ضنّاوي تستقبلك صورة الشاب المفقود في وسط الصالون المتواضع، قام الوالد بتكبيرها وتعليقها لمواساته على فراق ابنه. يحمل الوالد الصورة بين الفينة والأخرى وتغرورق عيناه بالدّمع، فيما تحبس الوالدة وأبناؤها دموعهم لعدم نشر المشاعر السلبية فيما بينهم، على ما يقولون.
تقول الوالدة إنّ ابنها لا يعمل منذ سنوات بعدما غادر عمله في مرفأ طرابلس. و”كان مصطفى يأخذ خرجية ثلاثة آلاف ليرة ليشتري علبة الدخان”، وهو على غرار أبناء السويقة، حاول العثور على فرصة تخرجه من حالة الفقر والحاجة إلّا أنّه لم يفلح. وكان بين الحين والآخر يخبرها بنيّته الهروب في البحر إلى أوروبا على غرار هجرة السوريين.
وحين عقد العزم، أخبر مصطفى والدته أنّه ينوي السّفر خارجاً، واتفق مع ابن خالته عبد اللطيف الحيّاني على ذلك. كما أمّن مبلغ خمسة ملايين ليرة من رفاقه، وأرسلت له شقيقته مبلغاً من السويد. وفي حين استطاعت والدة مصطفى توديع ابنها قبل أن يرحل لم يتسنّ لوالدة عبد اللطيف توديعه لأنّه ارتأى عدم إخبارها بقراره.
باركت منى خطوة مصطفى، فيما حاول ابنها البكر أحمد ثني شقيقه عن السفر، إلّا أنّ الأخير رفض. وتكشف العائلة أن أفراداً آخرين منها كانوا ينوون الهرب في البحر أيضاً إلّا أنّ الكارثة كبحت مسعاهم.
يكشف طه ضناوي الشقيق الأصغر لمصطفى أنّ الأخير وابن خالته، دفعا نصف المبلغ للمهرّب، وتركا النّصف الثاني على سبيل التأمين مع أحد معارفهما في القبّة، وطلبا منه عدم دفع باقي المبلغ للمهرّب إلّا بعد تلقّي اتصال منهما يبلغانه بوصولهم إلى قبرص. وبالطبع لم يأت الاتّصال، ولم تمض أيّام حتى عاد النّاجي إبراهيم لاشين ليعلن فشل القارب في بلوغ وجهته.
تأمل العائلة بأن يعود الشابان إلى لبنان في القريب العاجل، لأنّ أعصابهم لم تعد تحتمل. وتطالب الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي بالسعي لكشف مصيرهما لأنّ لا ثقة لديها في السّلطات اللبنانية التي اتّهمتها بالتقاعس وعدم الجدّية في السّعي للعثور على المفقودين.
ببنين قلقة على هشام صوفان
ورغم مرور شهر على الحادثة، لم تنطفئ شعلة الأمل لدى أهل المفقود هشام صوفان (27 عاماً)، فهي ما زالت تنتظر عودته. إلّا أنّ ما يُعكّر المزاج في أوساط ببنين اتهام عمّ الشاب المفقود بالضّلوع في عملية التّهريب.
يروي جمال صوفان لـ”المفكرة” أنّ شقيقه هشام اتّصل به يوم الإثنين 7 أيلول عقب انطلاق القارب، ليخبره أنّه في عرض البحر ويتّجه نحو قبرص اليونانية. كان هذا آخر اتصال لهشام، مؤكّداً أنّ الأخبار عن تلقّي العائلة اتّصالاً منه بعد غرق مجموعة من الرّكاب كانت محض إشاعات.
يأمل جمال في عودة شقيقه إلى حضن عائلته، فهو متزوّج ولديه طفلين يحتاجان إلى دعم أبيهما وعنايته.
المفارقة أنّ هذه ليست حرقة الفقدان الأولى لأهل هشام فقد قتل شقيقه الجندي فراس في معركة مخيم نهر البارد، والآن غاب عنهم ابن آخر في عرض البحر.
أثار اتّهام عمّ هشام بالتهريب حساسية في البلدة، ولكن أوساط العائلة تنفي علمها بطبيعة عمله أو ضلوعه في ذلك الأمر، وأنّ معلوماتها تشير إلى أنّه باع اللانش لشخص من القبّة، وفي مطلق الأحوال تؤكّد أنّ الأهمية الآن هي عودة هشام.
يقول سكّان البلدة إنّ أ. ص. متوارٍ عن الأنظار ولم يظهر في البلدة منذ وقوع مأساة القارب، ولا يعلمون ما إذا كان السبّب أنّه متزوّج من سيدتين إحداهما خارج البلدة. من جهته، يرفض مختار ببنين كفاح كسّار الخوض في الاتهامات، لأنّ كلّ أبناء البلدة يعملون في البحر، ويستغرب ضلوع بعضهم في عمليات تهريب البشر. ويدعو كسار إلى انتظار التحقيقات وعدم إدانة أو تبرئة أحد قبل ظهور النتائج.
الضحية محمد الحصني والرّحلة “العبرة”
يعتقد سمير الحصني شقيق الضحية محمد أنّ وراء هذه الرحلة عبرة كبيرة، فمحمد ابن الـ23 عاماً ضاقت بوجهه الدنيا، وتحديداً خلال العام الماضي. فقد كان يعمل في الفريق الأمني لأحد محلات الملابس الشهيرة في الكسليك. وبعد صرفه من العمل حاول العثور على فرصة عمل في قطر، وما لبس أن عاد إلى لبنان بسبب الإقفال الذي فرضته كورونا. وبعد أنّ سدّت السّبل في وجهه قرّر مع رفيقيه المقرّبين مصطفى الضنّاوي، وعبد اللطيف الحيّاني العمل على تأسيس حياة جديدة خارج لبنان فكان قرار الهرب في البحر.
خرج محمد الحصني مع رفيقيه من دون معرفة أهله حسب تأكيدات شقيقه سمير الذي يقول إنّه بعد ثلاثة أيام من خروجه وصل العائلة خبر من المهرّب بواسطة أحد الأهالي – تبيّن أنّه كاذب – يفيد بأنّ الشبّان الثلاثة وصلوا إلى قبرص، ويتواجدون في الحجر لذلك لا يمكن التواصل معهم.
يقول سمير الحصني (شقيق الضحية محمد) إنّ تقرير الطبيب الشرعي أفاد بأنّ شقيقه الذي عُثر عليه نهار الخميس (17 أيلول) توفّي قبل ذلك بيوم ونصف، أي أنّه سبح لخمسة أيام.
تتحسّر العائلة على مصير ابنها، وتعتبر أنّه كان بإمكانه العمل في مجال “فبركة الموبيليا” في المحل الذي تملكه العائلة، إلّا أنّه كان يريد الخروج من لبنان نهائياً من أجل تأسيس حياة وعائلة في بيئة ملائمة. وقد نقل أحد النّاجين وصية محمد إلى عائلته طلب فيها من والده ووالدته السّماح والرّضا لأنه خرج بدون علمهما.
أهالي المفقودين يشككون في إجراءات الدّولة ويدّعون قضائياً
يؤكّد خلدون محمد والد المفقود محمد لـ”المفكرة” أنّ حالة الأهالي صعبة جداً فهم يعيشون حالة قلق دائمة، ويزدادون اضطراباً كلّما أعلن العثور على جثة. وهو عن نفسه يقول إنّه يخشى من اللحظة التي يرنّ فيها هاتفه للطلب منه إجراء كشف التحقّق من جثة عثر عليها وقد تكون لابنه. ولكنّه يستدرك قائلاً إنّ الجهات الرسمية لم تستدعِ أهالي الضحايا لإجراء فحص الحمض النووي DNA، من أجل مقارنتها مع عيّنات من جثث الضحايا لدى العثور على أي منها. ويتّهم السلطات بالتقصير والتمييز تجاه أبناء الأحياء الفقيرة في طرابلس، ويؤكد أنّ الدولة غائبة، ولا يُعوّل عليها لأنّه لم يتلقَ أي اتصال أو سؤال من أيّ جهة رسمية حتى الساعة. ويقول الوالد خلدون محمد إنّ بعض الأهالي يعترفون بأنّ أملهم بات ضئيلاً ولكنّهم يصرّون على ضرورة استرداد جثث أبنائهم على الأقلّ لتكريمها ودفنها.
وقضائياً، يشير محمد إلى أنّه تقدّم مع مجموعة من الأهالي بشكوى لدى النيابة العامّة ضد أ. ص. وب. ق. فيما يكشف الناجي إبراهيم لاشين لـ”المفكرة” أنّه وأثناء التحقيق معه لدى شعبة المعلومات في بيروت أطلعهم على أسماء الشبكة التي نظّمت عملية التهريب. وتتضمن الأقرباء من منطقة ببنين “أ. ص.” و”ع. ص.” و”س. ص.” و”ر. ص.” بالإضافة إلى “ب. ق.” الذي توسّط لشباب القبّة، و”ب. خ.” من المنية.
وحتى الآن أوقفت شعبة المعلومات المدعو “ب. ق.” في محلّة القبّة بشبهة امتلاك القارب الذي حمل الهاربين، وأحيل إلى النيابة العامّة في الشمال، تمهيداً لملاحقته أمام القضاء الجزائي.
ويوم الثلاثاء الماضي، استدعت النائبة العامّة في الشمال سمرندا نصّار مجموعة من الناجين، وأهالي الضحايا والمفقودين الذين تقدموا بالشكوى. وتحقّقت القاضية من قيود المتقدمين بالشكوى وإقاماتهم، على أن تبدأ الاستجوابات اليوم الثلاثاء بسبب استمهال الموقوف “ب. ق.” لتوكيل محامٍ للدفاع عنه.
والخميس الماضي تحرّكت مجموعة من الناشطين أمام سرايا طرابلس، وقطعوا الطريق لبعض الوقت. وهذا التحرّك هو الأوّل لإدانة تقاعس السلطة في هذا الملف. ويؤكّد الناشط الشيخ سيف الدين الحسامي عبر “المفكرة” أنّ تحرّكات تصعيدية ستجري في الشّارع بالتنسيق مع الأهالي لدفع الدّولة إلى اتخاذ إجراءات جذرية لكشف مصير المفقودين وتوقيف المسؤولين عن الفاجعة.
“قبضوا على شخصين ولم يقبضوا على صاحب العلاقة الأساسي”، يقول الحسامي الذي يشير إلى أنّ “الجهات الرسمية لم ترسل أيّة مراكب بحثاً عن المفقودين، وأكبر دليل على ذلك أنّ العثور على الجثامين يحصل على الشاطئ وليس في عرض البحر”. وهذا ما ينفيه مصدر في قيادة الجيش. ويؤكّد المصدر عبر “المفكرة” أنّ “قوّات الجيش كثفت دوريّاتها داخل المياه الإقليمية وخارجها للبحث عنهم وهي ستواصل البحث عن مفقودين كانوا في عداد الأشخاص الذين حاولوا الهجرة على متن أحد المراكب إلى قبرص”.
رواية النّجاة
بالعودة إلى تفاصيل الرّحلة نحاول في ما يلي سردها من خلال المعلومات التي جمعناها من النّاجين الذين التقتهم “المفكرة”:
ما إن انتصف ليل السادس من أيلول 2020 حتى بدأت الرحلة من أمام شاطئ المنية، وعلى متنها 46 راكباً من دون أيّة أمتعة أو طعام أو شراب بعد أن تعرّضوا لخديعة من قبل المهرّب الذي أخذها منهم لتخفيف الحمولة على وعد باللحاق بهم في عرض البحر لتسليمهم إيّاها.
تولّى هشام صوفان قيادة السفينة مستعيناً ببوصلة تقليدية. بعد 18 ساعة نضبت مادة المازوت في القارب، وتوقّف المحرّك في عرض البحر، ليجد الرّكاب أنفسهم محاطين بالماء من كلّ جانب.
أدّى شح الطعام والماء إلى تدهور صحّة الأطفال، واستغنى بعض الركاب من بينهم الضحيّة محمد الحصني عن تمرات وجرعات ماء يملكونها لإنقاذ الأطفال، إلا أنّها لم تكن كافية للصمود لفترات طويلة كما يقول شقيقه سمير لـ”المفكرة”.
مع فقدان ما في حوزتهم من زاد، بدأ الركاب شرب ماء البحر وهو ما سبّب على الفور الغثيان والإسهال للطفلين محمد وسفيان اللذين ما لبسا أن فارقا الحياة. يروي النّاجي نظير محمد، والد محمد، أنّه “بعد مرور ثلاثة أيام، تعرّض الطفلان للنشاف، وتوفي بداية نهار الأربعاء سفيان محمد (ابن خاله الذي عثر على جثته في 23 أيلول عند شاطئ عمشيت)، وفي النهار التالي أي الخميس توفّي صغيري محمد”. ويفتخر سمير الحصني بشهامة أخيه الذي تنازل عن ملابسه وحوّلها إلى كفن للطفلين كما أخبره الناجون.
صمد أكثرية الرّكاب لمدة ثمانية أيام. فيما قرر آخرون السباحة بحثاً عن شاطئ الأمان. بدايةً قفز محمد خلدون محمد (27 عاماً) الذي ما زال مفقوداً، تبعه إلى الماء الشاب السوري محمد عساف الذي قفز بعد مرور خمسة أيام (نهار الجمعة 11 أيلول)، وفي اليوم التالي، قبل أن تكرّ سبحة “الفدائيين” أي السبت، قفز 5 أشخاص دفعة واحدة من بينهم الرفاق الثلاثة محمد الحصني (23 عاماً من منطقة محرم) الذي دُفن في طرابلس بتاريخ 18 أيلول بعد العثور على جثّته عند شاطئ السعديات، ورفيقاه عبد اللطيف الحيّاني (القبة) ومصطفى ضنّاوي (السويقة) اللذين كانا يرتديان سترات نجاة، بالإضافة إلى هشام صوفان، والشاب شادي رمضان (عُثر على جثته الخميس 1 تشرين الأول). ويوم الأحد قفز الشاب إبراهيم لاشين (23 عاماً) عند الثالثة عصراً وانضمّ إليه ثلاثة شباب هنود وشاب بنغلادشي.
وطالت ساعات الانتظار كثيراً وما زاد من يأسهم أنّ أيّاً من سفن الشّحن المارّة، لم تقدّم لهم المساعدة وأنّ أيّاً من الشباب السبعة الذين رموا أنفسهم في الماء لم يعد.
وأخيراً الخلاص جاء على يدي إبراهيم لاشين الذي سبح لساعات طويلة إلى أن ضعفت قواه إلّا أنّه أصرّ على الاستمرار إلى أن اهتدت إليه قوات اليونيفيل في المياه الإقليمية، فأرشدها إلى رفاقه التائهين في البحر وقامت بإنقاذهم ونقلهم إلى بيروت حيث أتمّوا فترة الحجر.