في 27/11/2024، أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانًا أعلنت فيه أنّها سوف تراعي حصانات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو والوزراء الآخرين المعنيين إذا ما طلبت منها المحكمة الجنائية الدولية توقيفهم وتسليمهم، وذلك على خلفيّة اتّهامهم بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في غزّة. واعتبرت فرنسا أنّ “نظام روما الأساسي يفرض التعاون الكامل مع المحكمة” (المادة 86) و”ينص كذلك على أنّه لا يمكن لدولة التصرّف بصورة متنافية مع التزاماتها بموجب القانون الدولي من حيث حصانات الدول غير الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية” (المادة 98). وأشار البيان إلى أنّ فرنسا تعتزم العمل على نحو وثيق مع نتانياهو والسلطات الإسرائيلية الأخرى “بغية إرساء السلام واستتباب الأمن في منطقة الشرق الأوسط، وذلك تماشيًا مع الصداقة التاريخية التي تربط فرنسا بإسرائيل، البلدين الديمقراطيين الحريصين على سيادة القانون واحترام العدالة المهنية والمستقلة.”
وكانت فرنسا قد امتنعت عن الإعلان صراحة عن التزامها بتنفيذ مذكرتي إلقاء القبض بحقّ نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، حيث اكتفت وزارة الخارجية في بيانها السابق في 22/11/2024 بتأكيد دعمها للعدالة الدولية وحرصها على عمل المحكمة المستقل، تبعها تعليق من المتحدث باسمها بأن المذكرات تطرح مسائل قانونية معقدّة. وقد جاء البيان الثاني الصادر أمس بعد بضعة ساعات عن بدء سريان وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل الذي حصل تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا حيث تشارك الدولتان في آلية مراقبة تنفيذ هذا الإعلان. وكان موقع “أكسيوس” قد نقل أنّ موقف فرنسا بالالتزام المبدئي بقرارات المحكمة قد أثار غضب نتنياهو الذي اشترط تعديل موقفها من أجل الموافقة على إشراكها في الآلية.
وعليه، ترك الموقف الفرنسي الباب مفتوحًا لفرنسا لتقدير ما إذا كانت سوف تنفذ أوامر التوقيف بحق نتنياهو وغالانت، فيما يشكّل تراجعًا عن مواقفها السّابقة تجاه المحكمة، وقد يؤدّي إلى عرقلة مسار المحاسبة الدولية للقادة الإسرائيليين. وفيما تعتزّ فرنسا بأنّها من أكثر الدول تعاونًا مع المحكمة وثالث أكبر دولة مساهمة فيها، يُشكّل الدعم الفرنسي، كما دعم الدول الأطراف الأخرى، لعمل المحكمة في القضية الفلسطينية اختبارًا أساسيًا لالتزام هذه الدول بمؤسسات العدالة الدولية التي شاركت في بنائها، بما أنّ هذه القضية أدّت إلى صدور أوامر التوقيف الأولى بحق مسؤولين عن دولة حليفة لحلف الشمال الأطلسي (إسرائيل).
وخلافًا لما ورد في بيان الخارجية الفرنسية، يأتي تمسّك فرنسا بحصانة نتنياهو في تعارض تامّ مع التزاماتها الدولية ومواقفها السابقة في هذا الخصوص.
التذّرع بحصانات وهمية: مخالفة اجتهادات المحكمة
حاول بيان الخارجية الفرنسية تبرير موقفها بالاستناد إلى نظام روما الأساسي، فاستند إلى المادة 98 التي لا تجيز للدول “أن تتصرف على نحو يتنافى مع التزاماتها بموجب القانون الدولي فيما يتعلق بحصانات الدولة أو الحصانة الدبلوماسية لشخص أو ممتلكات تابعة لدولة ثالثة، ما لم تستطع المحكمة أن تحصل أولاً على تعاون تلك الدولة الثالثة من أجل التنازل عن الحصانة.” وقد حاول من خلال ذلك الإيحاء بأن المادة 98 المتعلّقة بجواز التذرّع بحصانات الدول تشكّل استثناءً لموجب التعاون مع المحكمة. في الواقع، يتذرّع البيان بحصانات وهمية إذ سبق للمحكمة أن أسقطت هذه الحجة في عدد من قراراتها السابقة.
بالفعل، يمنع نظام روما صراحة الاعتداد بالصفة الرسمية من أجل إعفاء أي مسؤول من المسؤولية الجنائية أو من أجل استبعاد ممارسة المحكمة لصلاحيتها. إذ تنصّ المادة 27 منه على أنّه “1- يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها، سبباً لتخفيف العقوبة. 2- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص.”
وقد أكدّت المحكمة صراحة في أكثر من قضية أنّ الصفة الرسميّة للأشخاص لا تحول دون ممارستها لاختصاصها، وذلك بغضّ النظر عما إذا كانوا مواطنين لدولة طرف في نظام روما أو لا. وجاء آخر قرار في هذا الاتجاه في 24 تشرين الأوّل 2024 حين قضت الغرفة التمهيدية الثانية بأنّ منغوليا أخلّت بالتزاماتها الدولية بموجب نظام روما الأساسي بسبب رفضها تنفيذ أمر القبض ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2 أيلول 2024. ففيما تذّرعت منغوليا بصفة بوتين كرئيس دولة لرفض توقيفه، أكّد القرار أنّ الدول الأطراف ملزمة بتوقيف وتسليم أي شخص أصدرت المحكمة بحقه أمر قبض بغض النظر عن صفته الرسمية وجنسيته، وأنّ هذا الموجب يشكّل أحد أوجه تنفيذ موجب التعاون مع المحكمة المنصوص عنه في المادة 86 من نظام روما.
وفي قرارها، تطرقت المحكمة تحديدًا إلى العلاقة ما بين المادة 27 (عدم الاعتداد بالصفة الرسمية) والمادة 98 (حصانات الدول) من نظام روما التي استند إليها بيان الخارجية الفرنسية. فأشارت إلى أنّ المادة 98 لا تتضمّن أيّة إشارة إلى رؤساء الدول، وهي تقتصر عمليًا على الحصانات المتعلّقة بالدول أي الحصانات الدبلوماسية. كما اعتبرت أنّه لا يمكن للمادة 98 أن تخفّف من المبدأ الأساسي المكرّس في المادة 27 الذي يشكّل حجر الأساس لكامل نظام المحكمة، وأنّ المادة 98 لا تشكّل إضافة أو استثناء لهذا المبدأ كون هكذا قراءة تخالف مبدأ فعالية الاتفاقيات الدولية.
وأضافت المحكمة أنّه، وإن كانت هذه الحصانات ترتبط بعلاقات الدول بين بعضها البعض، إلا أنّها لا تسري أمام المحاكم الجنائية الدولية التي تتمتع باستقلالية عن جميع الدول. وذكّرت أن عملها يهدف إلى حماية مصالح المجتمع الدولي من خلال وضع حدّ للإفلات من العقاب عن الجرائم الدولية الأكثر خطورة، وهو ما أجمعت عليه 124 دولة انضمّت إلى نظام روما، ما يشكّل حوالي ثلثي دول العالم.
خروج عن مواقف فرنسية سابقة: ازدواجية المعايير
بالإضافة إلى التعارض مع نظام روما، جاء موقف وزارة الخارجية الفرنسية في تعارض مع مواقف سابقة للوزارة نفسها. ففي 17 آذار 2023، وعلى أثر إصدار المحكمة الجنائية أمرًا باعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانًا تحت عنوان “مكافحة الإفلات من العقاب” أكّدت فيه على تقديم دعمها الكامل لعمل المحكمة من أجل محاسبة مرتكبي الجرائم في أوكرانيا، من دون أيّ ذكر لإشكالية الحصانة التي يتمتّع بها الرئيس الروسي بسبب صفته الرسمية. وفي 2 أيلول 2024، وردًّا على سؤال حول موقف فرنسا من زيارة بوتين إلى منغوليا من دون أن يتم اعتقاله، وحول إمكانية تطبيق مبدأ حصانة الرؤساء أثناء تولّيهم مناصبهم، أكّد المتحدّث باسم الخارجية الفرنسية أنّ “كل دولة طرف في نظام روما الأساسي ملزمة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية وملزمة بتنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة عنها، عملاً بنظام روما”. وهذا ما حمل منظمات حقوقية فرنسية إلى الاعتراض على ازدواجية المعايير في الموقف الفرنسي في تعامله المخالف مع قضية بوتين وقضية نتينياهو، واعتبرت أنّه يضرّ بمصداقية فرنسا تجاه دول الجنوب.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ موقف الخارجية الفرنسية جاء مناقضًا لمواقف صدرت حديثًا عن القضاء الفرنسي، وهي الجهة التي من المفترض أن تقرر مدى جواز تنفيذ أمر القبض على نتنياهو وغالانت وفقًا للمادة 59 من نظام روما. ففي سابقة قضائية في حزيران 2024، صادقت محكمة الاستئناف في باريس على صحّة مذكرات التوقيف الصادرة عن قضاة تحقيق فرنسيين بحق الرئيس السوري بشار الأسد على خلفيّة الهجمات الكيميائية في الغوطة الشرقية. وفيما طلبت النيابة العامّة إبطال المذكرة بحجّة تمتّع الرئيس الأسد بالحصانة من الملاحقة كونه رئيس دولة حالي استنادًا للتوّجه القضائي المعتاد، رفضت المحكمة هذه الحجّة إذ اعتبرت أن حصانة الصفة الرسمية لا يمكن الاعتداد بها لكون الجرائم الدولية التي يتم التحقيق بها ترتبط بانتهاكات للقواعد الآمرة للقانون الدولي، وتاليًا تخرج بطبيعتها عن المهام الرسمية. ولا تزال هذه المسألة عالقة اليوم أمام محكمة التمييز.