بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس حكومة ثم تشكيل الحكومة، التي يُتوقع أن لا يتأخّر حصولها على ثقة المجلس النيابي، يكون قد حان موعد بدء ورشة إصلاحيّة واسعة يضاف إليها ملفّ إعادة إعمار ما دمّره الاحتلال الإسرائيلي. إعادة الإعمار هذه لا تقتصر على المنازل والمؤسّسات بل تطال الخدمات العامة أيضاً. إذ أنّ العودة إلى القرى الجنوبيّة يحتاج إلى مقوّمات الصمود وأولها الكهرباء والمياه، وهما قطاعان يُفترض أن يكونا في أعلى لائحة القطاعات التي تحتاج إلى الإصلاح.
بالنسبة للكهرباء، أشارت كهرباء لبنان إلى أنّه تمّ إصلاح 90% من الأضرار التي لحقت بالمدن والقرى المتضرّرة من العدوان من خارج منطقة الستين يوماً (القرى التي بقيت محتلّة أو منع الاحتلال الدخول إليها بعد وقف إطلاق النار)، علماً أن هذه الأضرار قُدّرت كلفتها بنحو 80 مليون دولار. وبحسب المدير العام للمؤسسة كمال حايك، فإن آخر شباط ستكون أنجزت كل التصليحات في المناطق التي لم يحتلّها العدو (يبقى إعادة بناء الشبكات والمحطات في القرى الأمامية التي تعرّضت لأضرار بنيوية). بدورها أكدت شركة مراد أن الخدمة بدأت تعود في معظم المناطق المتضررة، كما أُعيد تفعيل الجباية. في المقابل، فإنه بعد الانسحاب الكامل للاحتلال من القرى، صار بالإمكان الدخول إليها ومعاينة الأضرار فيها، علماً أن الضرر الهائل الذي طال هذه القرى يؤشر إلى حجم الضرر الذي طال شبكات الكهرباء فيها، والذي يستوجب إعادة بناء الشبكة بالكامل.
خيارات استجرار الغاز والكهرباء
إنجاز التصليحات وإعادة تقديم الخدمات للمواطنين في الجنوب والضاحية، يترافق مع تفاؤل حول إمكان حلّ مشكلة الكهرباء عموماً، بعد تشكيل الحكومة واستقدام الدعم الدولي، عبر تنفيذ عملية إصلاحية شاملة. فما هي الحلول المطروحة؟
يدور الحديث حالياً حول ثلاثة احتمالات يمكن أن تُحسّن التغذية بشكل ملحوظ، وهي استجرار الغاز المصريّ إلى معمل دير عمار، شراء الكهرباء من الأردن، وهما ملفان كانا قيد البحث لفترة طويلة، وشراء الكهرباء من تركيا، الذي بدأ البحث به بعد سقوط نظام بشار الأسد وتولي هيئة تحرير الشام المدعومة من تركيا، الحكم في دمشق.
الاحتمالات الثلاثة مرتبطة، بالدرجة الأولى، بعوامل وظروف خارجية واضحة، أولها الحاجة إلى المرور عبر سوريا، وبالتالي الحاجة إلى توقيع عقود معها لمرور الغاز أو الكهرباء إلى لبنان، الأمر الذي كان يحتاج إلى استثناء أميركي صريح من مفاعيل قانون قيصر، وهو ما لم يحصل. أما الأسباب المحلية، فكانت مرتبطة أساساً بالفراغ في المؤسسات، ورفض الطبقة السياسية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على خطة إصلاحية.
بحسب مصادر كهرباء لبنان، فإنّ المؤسسة لا تُبدي حماسة لاستجرار الكهرباء من الأردن، حيث تتراوح كلفة الكيلو واط ما بين 11.2 و16.2 دولاراً، يضاف إليها 8% تذهب إلى سوريا. لكن في المقابل، تؤكد المصادر نفسها على أهمية استجرار الغاز المصري، والذي يُكلّف 7 سنتات فقط، وإن تستبعد أن يحصل ذلك بسبب النقص الذي تعانيه مصر نفسها من الغاز. أما الخيار الثالث، أي استجرار الكهرباء من تركيا، فإذ ترحب به المؤسسة، إلا أنها تشير إلى عقبات تقنية عديدة تعترضه، مثل الاختلاف بين نظام الشبكة لديها ونظام الشبكة لدينا. مع ذلك، فهي تؤكد أنه في حال وضع المشروع على السكة، فسيكون بالإمكان معالجة كل الإشكالات، كأن يعتمد نظام التبديل، أي تصل الكهرباء التركية إلى حلب، ويحصل لبنان على الكمية نفسها من طرطوس إلى معمل دير نبوح.
لا حلول قريبة تسمح بتحسين التغذية
اليوم وربطاً بانفتاح الغرب على الحكم الجديد في سوريا، وربطاً بإعادة تشكيل الحكم في لبنان، برضى غربي وعربي، عاد التفاؤل بإمكان تحرير المشاريع التي كانت عالقة، ولاسيما في قطاع الكهرباء. والطروحات والاحتمالات تلك تتحضّر لها مؤسسة كهرباء لبنان، لكنها حتى اليوم وربما لفترة ليست قصيرة، ستبقى تتعامل مع واقع مزرٍ، ينذر بضرب أيّ أملٍ بتحسين التغذيّة قريباً، والذي كان وزير الطاقة السابق يغذّيه. إذ كان وليد فياض اعتبر أنه نتيجة تجربة زيادة التغذية في الأعياد (بعد إعادة تشغيل معمل الزوق ورفع التغذية من 400 ميغاواط إلى 600 ميغاواط) والتي كان تقييمها إيجابياً يمكن زيادة التغذية إلى ما بين 10 و12 ساعة يومياً. وهو اعتمد بذلك على تحقيق كهرباء لبنان للتوازن المالي ووجود فائض لديها يزيد عن 100 مليون دولار، بحيث يؤمّن الفيول العراقي تشغيل معمليْ دير عمار والزهراني، وتؤمّن المؤسسة الفيول المخصّص لتشغيل معمل الزوق الجديد، عبر مناقصاتٍ تجريها.
لكن المؤسّسة ظلّت على استراتيجيّة التغذية المتحفّظة، ريثما تتأكّد من انتظام امدادات الفيول العراقي، إذ أن العقد مع العراق، كان مُدّد في أيلول 2024 إلى نهاية كانون الثاني، بسبب عدم الانتظام بالتوريد وعدم الحصول على كل الكميات المتفق عليها سنوياً (مليون ونصف المليون طن من الفيول الأسود). الشحنة الأخيرة كان يُفترض أن تصل إلى لبنان في 19 كانون الثاني، لكن ما حصل أنها حتى اليوم لم تصل، من دون أيّ سبب واضح لذلك. أضِف إلى أنه ليس واضحاً بعد إن كانت هذه الشحنة ستصل أصلاً في ظل اعتبار الجانب العراقي أن العقد انتهى في نهاية كانون الثاني، متجاهلاً أنه كان مقرّراً أن تأتي قبل ذلك التاريخ. يُدرك الجانب اللبناني أن العراق تساهل معه لأكثر من ثلاث سنوات، ولم يحصل على أيّ مبلغ من لبنان، بالرغم من أن الاتفاق يقضي بصرف ثمن الفيول في لبنان، على خدمات وسلع تحصل عليها بغداد. التلكؤ اللبناني لا مبرّر له، وهو ليس مطلوباً منه اليوم سوى أن تطلق إيدال المنصة الخاصة بإجراء عمليات التبادل. علماً أنه ليس واضحاً لماذا تأخرت في إنجاز هذه الخطوة المطلوبة منذ سنوات، بالرغم من حصولها على كلفة المنصة من كهرباء لبنان. كما لم يُعرف لماذا لم يُسارع مجلس الوزراء إلى تمديد الاتّفاقية قبل الدخول في أزمة الفيول.
إزاء هذا الوضع، وجدت المؤسسة نفسها مضطرّة إلى تخفيض التغذية بالتوازي مع شراء الفيول من منشآت النفط، ريثما تصل شحنة الفيول التي اشترتها لتعويض النقص الحاصل في إمدادات الفيول، ومنعاً لتوقّف المعامل عن العمل. وهو أمر كان يمكن أن يحصل منذ مدّة لو التزمت المؤسسة بطلب فياض. وحتى عندما عقد مجلس إدارة كهرباء لبنان اجتماعاً يوم الجمعة في السابع من شباط الماضي، وقرّر إصدار بيان يوضح فيه الوضع الراهن، تمنى فياض على المجلس تأجيل البيان، مكرراً تأكيده أن الأمور تسير في السكة الصحيحة وستحل مسألة الفيول مع العراق. لكن بعد مرور أسبوع، غادر فياض موقعه ولم يأت الفيول.
هل يرتفع سعر الكيلوواط؟
المشكلة الثانية التي تطل برأسها، تتعلق بالجباية، وإن كان مفهوماً أن تتأخر الجباية في المناطق التي تعرضت للعدوان الإسرائيلي، إلا أن المشكلة الأكبر التي تواجهها المؤسسة تتعلق بعدم تسديد الدولة لما يتوجب عليها من أموال، والتي وصلت إلى ما يزيد عن 150 مليون دولار في أيلول الماضي. وهو مبلغ لو دُفع للمؤسسة لكانت تمكّنت من شراء الفيول وتأمين استقرار في التغذية.
لكن هنا، قد تطرأ مشكلة مختلفة تتعلق بسعر الكهرباء، ففي حال استمرار توقف وصول النفط العراقي، سيكون سعر الكيلوواط الذي حدّد ب10 سنتات لأول 100 كيلوواط، وب26 سنتاً على كل صرف إضافي، مهدّداً بالتعديل، بحسب مصادر المؤسسة، ما سيزيد الأعباء على الناس، لأن تركيبة الأسعار بُنيت على أساس وجود النفط العراقي.
قانون قيصر ومفاعيله على قطاع الكهرباء
إذاً كل المؤشرات الواقعية سلبية. أما الوزير الجديد جو صدّي، فهو حكماً لا يمتلك عصا سحرية. وهو لذلك، اكتفى بوعد واحد أثناء تسلّمه منصبه من خلفه، هو “أن أضع خبراتي وطاقاتي وعلاقاتي لخدمة اللبنانيين” وإجراء الدراسات اللازمة للقطاع التي يمكن أن تؤدي إلى 24 على 24 تغذية. صدّي فاته أنّ الدراسات كلها جاهزة وأعدّت بالتعاون مع البنك الدولي، الجهة الأكثر تعبيراً عن رغبات المجتمع الدولي، إلا أن المشكلة التي واجهتها كانت الفيتو الأميركي الواضح على تحقيق أي خطوة إيجابية. ولذلك، فإنّه صار جلياً أن اسم الوزير ليس مهمّاً، بقدر القرار الأميركي، الذي يفترض أن يحرّر القطاع، مع وصول الحكومة الجديدة. وعلى سبيل المثال، عندما طلب لبنان ومصر من الحكومة الأميركية تأكيد مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة الأميركية (أوفاك) على عدم إخضاع أي مؤسسة رسمية أو خاصة من لبنان ومصر والأردن للعقوبات الواردة ضمن “قانون قيصر”، اكتفى المكتب بإرسال رسالة إلى المدير العام لكهرباء لبنان كمال حايك، مع نسخة منها إلى كل من رئيس الحكومة ووزير الطاقة. الرسالة إن أبدت نظرياً الاستعداد لتسهيل الاتفاق بين لبنان ومصر والأردن، مشيرة إلى أنه “بناءً على المعلومات الأولية المقدمة، لن يعتبر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية مفاوضات لبنان وارتباطاته بشأن عرض الكهرباء واقتراح الغاز خاضعاً للعقوبات بموجب لوائح العقوبات السورية أو قانون قيصر لحماية المدنيين لعام 2019”. لكن الرسالة نفسها لم تكتفِ بطلب لائحة بالشركات التي يتوقع مشاركتها في عروض الكهرباء والغاز للتأكّد من أنها لا تتضمن أي أفراد أو كيانات على لائحة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، بل طرحت 9 أسئلة مفصّلة عن كل كيان أو فرد يعمل في الصفقة، بمن فيهم موظفو كهرباء لبنان والمقاولين الفرعيين، إضافة إلى الكيانات السورية التي سيتعامل معها اللبنانيون.
إذاً يبدو جلياً أن ملف الكهرباء ذو شقين شق داخلي محدود التأثير، ويتعلق بإمكان تأمين المؤسسة تغذية محدودة جداً من عائدات الجباية، وشقّ استراتيجي مفاتيحه في الخارج، وتحديداً في أميركا، التي تملك وحدها القدرة على فتح باب المعالجات الجذرية، إن كان سياسياً من خلال الإفراج عن العقود التي يمكن إبرامها لاستجرار الكهرباء أو الغاز، أو مالياً، من خلال فتح الباب أمام البنك الدولي لتمويل الحلول المطروحة.