من أبرز البنود الواردة على جدول أعمال جلسة مجلس النوّاب المقرّرة في 2 تموز 2022، بندان يتصلان بالسريّة المصرفيّة (6) و(7). الأول، اقتراح قديم أنجزته لجنة المال والموازنة في تشرين الأول 2021 بعدما درستْ ملاحظات رئيس الجمهورية عليه، وهو اقتراح ذات صياغة تضليلية تؤدّي مجددا إلى تكريس السرية تحت غطاء رفعها. والثاني، مشروع قانون ورد من الحكومة في إطار تنفيذ الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي في آذار الماضي وأنجزت اللجنة نفسها درسه الأسبوع الماضي. وفي حين كانت المفكرة القانونية محّصت في الاقتراح الأول (بند 6 على جدول الأعمال) وصولًا إلى إثبات خلوّه من أي تعديل هامّ على نظام السرية المصرفيّة، ننشر هنا ملاحظاتنا على مشروع القانون الذي يتضمن موادّ هامّة وإن بقيت غير كافية على هذا الصعيد (المحرر).
أقرّت لجنة المال والموازنة نهار الإثنين 18\7\2022 مشروع القانون المعجل الرامي إلى تعديل السرية المصرفية والمقدم من الحكومة، بدفع من صندوق النقد الدولي، بعدما اصطدمتْ بالعديد من الألغام التي حاولتْ جمعية المصارف بمعيّة مصرف لبنان وضعها لتعطيله. ومن أخطر هذه الألغام، حصر مفعول القانون المقترح بالحسابات والقيود المصرفية المستقبلية بحجة واهية قوامها عدم جواز إعطاء مفعول رجعي للقوانين. وقبل المضي في إبداء الملاحظات على مشروع القانون كما عدلته لجنة المال والموازنة، تجدر الإشارة إلى الأمور الثلاثة الآتية:
- إن لبنان التزم منذ انضمامه إلى اتفاقية مكافحة الفساد بموجب القانون رقم 33/2008 بأن يرسي آليات مناسبة في نظامه القانوني لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرية المصرفية (م. 40). هذا الالتزام تجسّد في وضع القانون 44/2015 حول تبييض الأموال بإنشاء هيئة تحقيق خاصّة داخل مصرف لبنان وبرئاسة حاكمه، تتولّى صلاحية حصريّة في رفع السرية المصرفية. وقد أثبتتْ هذه التجربة قصور هذه الهيئة عن تذليل العقبات المتمثّلة في السرّية المصرفية، أولا لأنه لا تتوفر لديها شروط الاستقلالية، وثانيا لأن عملها ينحصر في جرائم تبييض الأموال،
- أنه منذ بدء الحديث عن مشروع سيدر والإصلاحات التي تسعى الجهات المانحة إلى فرضها، ثارت قضية السرية المصرفية، وقد تسارعت وتيرة إثارتها تبعا ل 17 تشرين ورواج خطاب استرداد الأموال المنهوبة. وانعكس ذلك في عدد من اقتراحات القوانين المقدمة من عدد من الكتل النيابية والتي دمجتْها لاحقا اللجنة الفرعيّة في اللجان المشتركة في اقتراح واحد في بداية 2020. وقد برزت أهمية تجاوز السرية المصرفية بشكل خاصّ بعد بروز قضيتي تحويل الرساميل إلى الخارج والتدقيق الجنائي،
- أن غالبية المجلس النيابي أبدت رغم ذلك في السنتين الأخيرتين ممانعة قوية ضدّ أي مسّ بالسرية المصرفية. وقد تجلّت هذه الممانعة بشكل خاص في التعديلات التي أدخلتها الهيئة العامة لمجلس النواب في أيار 2020 على اقتراح سابق لرفع السريّة المصرفية عن الموظفين العامين على نحو أدى إلى تكريس السرية المصرفية تحت غطاء رفعها. كما تجلّت في التعديلات السطحيّة التي أقرّتها لجنة المال والموازنة في تشرين الأول 2021 تبعا لردّ هذا الاقتراح من رئيس الجمهورية في حزيران 2020. ورغم محدودية هذه التعديلات، لم يضعْ مكتب المجلس الاقتراح المذكور على جدول أعمال الهيئة العامة، إلا بعد انقضاء أشهر عدّة من الانتهاء منه وقد وضعه إلى جانب مشروع القانون الذي انتهتْ منه لجنة المال والموازنة والذي ذهب في اتجاهات معاكسة تماما.
الملاحظة الأولى: إيجابية استبعاد عدم رجعية القانون
أهم مجريات مناقشة مشروع القانون، هو ما أثارته جمعية المصارف وأيّدها فيه عدد من النواب لجهة وجوب حصر رفع السرية المصرفية بالحسابات والقيود الجديدة. وإذ قدمت نقابة المحامين في بيروت حلا وسطا يقضي بربط الرجعية بمرور الزمن، فإن اللجنة انتهتْ إلى ردّ الاقتراحين لتضع أن القانون يكون نافذا فور نشره في الجريدة الرسمية. وهذا التوجه الذي يرجّح أن يكون أصرّ عليه صندوق النقد الدولي هو الأسلم للأسباب الآتية:
- إن إبقاء الحسابات والقيود المصرفية السابقة لإقرار القانون سرية إنما يشكل حائلا أمام المحاسبة، وبمثابة عفو عام عن مجمل الجرائم التي يصعب إثباتها بغياب الكشف عنها. وهذا الأمر إنما يشكل انتهاكا لالتزام لبنان الدولي وبخاصة في اتفاقية مكافحة الفساد (م. 40) لجهة تذليل العقبات الناتجة عن السرية المصرفية كما سبق بيانه. ففي حال اعتماد عدم رجعية القانون، يكون لبنان في صدد تدعيم هذه العقبات بدلا عن تذليلها.
- إن مبدأ عدم رجعية القوانين ينطبق حصْرا على القوانين التي تختلق جرائم جديدة أو تنصّ على عقوبة أكثر قسوة. وهو الأمر غير المتوفر في مشروع القانون المطروح والذي على العكس من ذلك ينتهي إلى تضييق الحالات التي تتوفّر فيها أركان جرم إفشاء السرية المصرفية، بعدما فرض على المصارف إفشاء هذه الأسرار في حالات كثيرة وضمن الآليات المحددة فيه.
الملاحظة الثانية: توسيع إمكانية النفاذ إلى المعلومات المصرفية
كما سبق بيانه، وباستثناء جرائم الإثراء غير المشروع المستثناة من السرية المصرفية، فإن القوانين المعمول بها منحتْ هيئة التحقيق الخاصة صلاحيّة حصريّة في رفع السرية المصرفية في جرائم تبييض الأموال دون سواها، علما أن هذه الهيئة هي جزء من تنظيمات مصرف لبنان ويرأسها حاكم هذا المصرف ولا تتوفر فيها ضمانات ومعايير الاستقلالية. ومن هنا، وأمام تقاعس هذه الهيئة عن الاستجابة لطلبات رفع السرية المصرفية في العديد من القضايا بالغة الأهمية (منها قضية تحويل الرساميل إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2022 وقضيّة سونطراك)، بدا من الضروري تمكين مراجع وهيئات أخرى من رفع السرية المصرفية وبخاصة في سياق مكافحة الفساد والتهرب الضريبي. وإذ رمى مشروع القانون إلى تحقيق هذا الهدف من خلال إلزام المصارف بتقديم المعلومات المطلوبة من مراجع محدّدة فيه فور تلقّيها طلبا منها، إلا أنه عاد وتضمّن عددا من البنود والضوابط التي من شأنها التضييق مجدّدا من صلاحيات هذه المراجع. ومن أهمّ ما نلحظه في هذا الشأن، الأمور الآتية:
- أنه عدّد ضمن هذه المراجع السلطات القضائية، ولكن عاد ليحصر صلاحيتها بطلب معلومات مصرفية ب “دعاوى التحقيق” (وهو تعبير غامض) في جرائم الفساد والجرائم المالية والجرائم المحددة في المادة الأولى من القانون رقم 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب).
ويخشى أن يؤدي هذا الحصر إلى تجريد النيابات العامة من إمكانية رفع السرية المصرفية في سياق الاستقصاء عن الجرائم بمعزل عن أي دعوى مقامة وذلك تمهيدا لإقامة دعوى عند الاقتضاء.
كما يخشى أن يؤدي تعريف “دعاوى التحقيق” إلى تجريد قضاء الحكم من هذه الصلاحية التي تصبح محصورة بقضاء التحقيق.
كما يخشى أخيرا أن تفسر الإحالة إلى المادة الأولى من القانون رقم 44/2015 على أن المشروع يجرّد القضاء من صلاحية رفع السرية في جرائم تبييض الأموال التي تنص عليها المادة الثانية (وليس الأولى) من هذا القانون. وعليه، من المهم هنا إزالة الارتياب وصولًا إلى منح صلاحية رفع السرية المصرفية للمراجع القضائية المختصة لغايات الاستقصاء أو التحقيق أو المحاكمة.
وقد أشار تقرير لجنة المال والموازنة إلى حصول خلاف بين النواب حول صلاحية النيابات العامة في طلب المعلومات، وأنها ابقتها ضمن النص تاركة للهيئة العامة لمجلس النواب القرار النهائي. ويخشى أن يؤدي هذا الأمر إلى إجهاض الإصلاح المتوقع من هذه المادة، فيما أن المطلوب هو إزالة الالتباس لتوسيع صلاحيات النيابة العامة وقضاء الحكم وليس العكس.
- أن مشروع القانون كما عدلته لجنة المال والموازنة نصّ على إضافة الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد ضمن المراجع المخولة وفق ما جاء فيه رفع السرية المصرفية لحاجات الاستقصاء في شكاوى الفساد. لكن التدقيق في النصّ يبين أنه نص مضلل طالما أنه لا يمنح بالواقع هذه الهيئة أي صلاحية جديدة وتحديدا أي صلاحية برفع السرية المصرفية. فبحسب مشروع القانون، يتعين على هذه الهيئة ممارسة هذه الصلاحية بالاستناد إلى قانون إنشائها رقم 175 الصادر في تاريخ 8\5\2020 “قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”، وتاليا ضمن الأصول التي يحددها هذا القانون. وبالعودة إلى هذا القانون، نتبيّن أنّ جلّ ما بوسع الهيئة أن تفعله في حال ارتأتْ في معرض الاستقصاءات التي تقوم بها أنه من الضروري التحقيق في حسابات مصرفية معينة أن توجّه طلبا معلّلا إلى هيئة التحقيق الخاصة لتمارس هذه الأخيرة صلاحياتها في هذا الشأن (19). وعليه، من الضروريّ هنا إعادة الاتساق والانسجام إلى النص وجعله أكثر تلاؤما مع الغاية المعلنة منه من خلال تأكيد أحقية الهيئة في طلب معلومات مصرفية مباشرة من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة.
- إن المشروع يعود ليمنح هيئة التحقيق الخاصة صلاحية محورية وهامة في رفع السرية المصرفية وبخاصة بما يتصل بجرائم تبييض الأموال، من دون أن يلتفت إلى ضرورة تعديل هيكليتها وضمان استقلاليتها عن مصرف لبنان وعن حاكمه. ويجدر التذكير هنا بأن ثمة اقتراح قانون قدّمه النوّاب أمين شرّي، حسن فضل الله وعلي فيّاض في هذا الشأن في 10/2/2021. كما يلحظ أن النائبة حليمة قعقور صرحت بالمطالبة بذلك أيضا، وأنه تم الاتفاق في لجنة المال والموازنة على مناقشة مشروع قانون في هذا الإطار في تغريدة نشرتها في أعقاب الجلسة المذكورة.
يضاف إلى ذلك أن مشروع القانون أضاف إلى هذه المراجع الإدارة الضريبية، وإن عاد وجردها من إمكانية تجميد الأموال المودعة لدى المصارف، وفق ما نبينه أدناه.
الملاحظة الثالثة: في مدى تناسب العقوبة مع خطورة الجرم
أمر آخر يجدر التنبّه له وهو مدى تناسب عقوبة كتمان الأسرار المصرفية مع خطورة هذا الجرم. وفي هذا السياق، يُلحظ أنّ لجنة المال والموازنة أدخلتْ تعديلات هامّة على مشروع القانون. ففي حين نصّ المشروع في صيغته الأساسية على وضع عقوبة موحّدة لجميع مخالفات قانون السرية المصرفية، انتهتْ اللجنة إلى التمييز بين جرمين مختلفين من حيث الخطورة:
الأول هو جرم إفشاء الأسرار المصرفية وتبقى عقوبته دون سنة حبس. والثاني هو جرم الامتناع عن تقديم المعلومات بنتيجة عدم الاستجابة للطلبات الواردة من المراجع التي حددها المشروع، وهو جرم يعادل من حيث خطورته جرم تبييض الأموال انطلاقاً من مبدأ أن من يكتم المعلومات يكون بمثابة متدخّل في هذا الجرم. وهذا ما دفع اللجنة إلى تحديد العقوبة بعقوبة سجنية معادلة للعقوبة المطبقة على جرائم تبييض الأموال، والتي تصل إلى 7 سنوات سجن. وقد زاد مشروع على ذلك تشديد العقوبة في حال استمرت عدم الاستجابة أكثر من 30 يوما. وما يزيد من أهمية هذا التعديل هو أن تحديد عقوبة يتجاوز حدها الأقصى سنة حبس يخوّل القضاء المختص اتّخاذ تدْبير التوقيف الاحتياطي عند الحاجة منعا للإفلات من العقاب أو التأثير على التحقيق وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية. هذا فضلا عن أن النسخة الجديدة أتاحت للمراجع القضائية المختصة تنفيذ الطلبات قسرا وفق أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية.
الملاحظة الرابعة: تجريد الإدارة الضريبية من إمكانية تجميد الأموال
تم حصر صلاحية تجميد الحسابات المصرفية أو إلقاء الحجز عليها بالقضاء المختص وهيئة التحقيق الخاصة. بالمقابل، تم تجريد الإدارة الضريبية من إمكانية القيام بذلك. ومن شأن ذلك أن يبدد حظوظ الخزينة العامة في تحصيل حقوقها.
خلاصة:
مشروع القانون كما تمّ إنجازه ليس مثاليا. لكنه يشكّل حتى اللحظة المسعى الأكثر قابليّة للنّجاح في خرق جدار السريّة المصرفيّة. وما كان هذا الأمر ليتمّ لولا شروط الإصلاح التي فرضها صندوق النقد الدولي. فهل تغلب إرادة الإستجابة لهذه الشروط على الممانعة التقليدية لدى غالبية الكتل النيابية حيال أيّ مسّ بالسرية المصرفية؟ هذا ما ستكشف عنه جلسة الهيئة العامة لمجلس النواب في 26 تموز القادم. فلنراقب.
لتحميل وقراءة البند (6)
لتحميل وقراءة البند (7)