يكاد خطاب المؤامرة أن يصبح الأداة الوحيدة التي يُفسّر بها أنصار السلطة في تونس مختلف الظواهر الاجتماعية، بما في ذلك الانتحار ومحاولات الانتحار. تواترت في الأشهر الأخيرة حالات ومحاولات الانتحار “المشهدية” -إضرام النار في الجسد- في قلب الفضاء العام وأحيانا أمام مقرات تتبع السلطات العمومية مثل الإدارات ومراكز الأمن. ويرى الموالون للسلطة أن تداول فيديوهات وأخبار عمليات الانتحار يهدف إلى تسييس حوادث “معزولة” و”ضرب الاستقرار” و”تأليب الرأي العام”.
ويبدو أن رئيس الجمهورية قيس سعيّد يُشاطرهم الرأي تماما بل يذهب أحيانا أبعد منهم في التحليل والتأويل ، إذ أشار خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، أشرف عليه يوم 20 مارس الجاري، إلى تواتر عمليات الانتحار في عدة مناطق تونسية قبيل حلول شهر رمضان وربط الظاهرة بجهات “ألقى بها الشعب في مزبلة التاريخ” لكنها مازالت تتآمر بكل الوسائل ومنها “أسبوع الانتحارات بإضرام النار في عدد من جهات الجمهورية”، وشكك في دوافع بعض المنتحرين قائلا: “تذكرون صورة أحدهم، ولم يكن مرتبكا على الاطلاق بل أضرم النار في جسده تحت أنظار العدسات”.
على الجهة الأخرى، يتعامل كثيرون مع مختلف حالات الانتحار على أنها مؤشرات واضحة على تأزم الأوضاع في البلاد وعلامات انفجار قريب. في أغلب الأحيان، وعلى اختلاف المواقع والمواقف، ينبني الخطاب على انطباعات ولا يستند إلى معطيات وبيانات موثوقة. وإذا ما استثنينا فرضيات سوء النية والتجيير السياسي الأعمى فإن غلبة الانطباعات على الوقائع تَنتج أساسا من قلة المعطيات الشاملة والدقيقة. سنحاول فيما يلي أن نسوق بعض البيانات والإحصائيات المستقاة من مصادر عدّة لنتعرف أكثر على السمات العامة للسلوك الانتحاري في تونس، ونستعرض الجهود الرسمية في مجال التوقي من الانتحار.
معطيات مقتضبة ومتناثرة
أول ما يلاحظه المشتغل على موضوع الانتحار في تونس هو النقص الهائل في المعطيات والإحصائيات، الرسمية بالأساس. باستثناء تقريرين سنويين يتعلقان بسنتي 2015 و2016 لم نجد أي تقرير شامل -منشور ومُتاح للعموم- عن بقية السنوات والفترات. نجد كذلك بعض الأرقام والمعطيات الرسمية المتناثرة هنا وهناك صرّحَ بها مسؤولون في وزارات مختلفة مثل “الصحة” و”الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن” على هامش ندوات صحفية أو اجتماعات. وهناك أيضا بعض الدراسات والورقات البحثية التي تتعلق بالانتحار لدى فئة عمرية أو في منطقة جغرافية معينة في فترة محددة.
منظمة الصحة العالمية توفر هي الأخرى بعض المعطيات لكنها مقتضبة. ويحاول المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تعويض بعض هذا النقص عبر تقديمه منذ سنة 2014 تقارير دورية عن حالات ومحاولات الانتحار، بالاعتماد على رصد الأخبار المتعلقة بالانتحار في مختلف وسائل الإعلام التونسية. وبالإضافة إلى كل هذا الشح في المعلومات، الذي تتحمل السلطات الرسمية مسؤوليته بما أن لديها الأجهزة والأدوات الضرورية للرصد والإحصاء، لا يمكن تجاهل البعد الثقافي والاجتماعي لمسألة الانتحار في تونس، فالخوف من الوصم والتحريم والتأثيم يجعل كثيرا من الأفراد والأسر يتكتمون حول الموضوع ولا يصرّحون بالأسباب الحقيقية للوفاة ويُخفون محاولات الانتحار عن السلطات الصحية والأمنية وعن محيطهم أيضا.
هناك انطباع عام بأن حالات الانتحار تزايدت في تونس بعد ثورة 2011، وإن كان البعض يرجح أن التناول الإعلامي المتواتر للظاهرة وسرعة تداول المعلومات التي توفرها وسائط التواصل الاجتماعي هي التي خلَقَت هذا الانطباع. المشكلة أنه لا نجد معطيات رسمية منشورة بشكل دوري حتى نتمكن من المقارنة. أكد مسؤولون في وزارة الصحة، ومن بينهم رئيسة اللجنة الفنية لمكافحة الانتحار في وزارة الصحة، في مناسبات متعددة أن الأرقام ارتفعت بشكل ملحوظ بعد الثورة وقدّموا معطيات تفيد بأن معدل حالات الانتحار لكل 100 ألف نسمة ارتفع من 1،8 في السنوات السابقة للثورة إلى أكثر من 3 بعدها. لكن معطيات منظمة الصحة العالمية تقول العكس. إذا ما تتبعنا المعدلات المسجلة خلال ربع القرن الأخير فسنجد أنها كانت في حدود 3،7 حالة لكل 100 ألف نسمة في سنة 2000 وبلغت 3،8 في سنة 2003، ثم تراجعت تدريجيا لتبلغ 3،5 في سنة 2010 و 3،3 في سنة 2013، ووصلت إلى أقل مستوى لها في 2017، حيث كان المعدل في حدود 3،10 قبل أن تتصاعد تدريجيا وبشكل محدود منذ سنة 2018.
مرة أخرى لا يمكننا الجزم بمدى صحة المعطيات المقدمة من هذه الجهة أو تلك في ظل عدم توفر منشورات رسمية دورية ومفصلة، وعموما يبقى معدل 3 حالات لكل 100 ألف نسمة “منخفضا” مقارنة بالمعدل العالمي الذي يبلغ حوالي 9،2 لكل 100 ألف نسمة.
السمات العامة لظاهرة الانتحار في تونس
بمراجعة الأرقام الواردة في التقريرين السنويين (2015 و2016) لوزارة الصحة والتقارير الشهرية والسنوية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (ما بين 2014 و2023) وكذلك بعض الورقات البحثية (الصادرة قبل الثورة وبعدها) يمكن أن نستخلص بعض الملامح العامة لحالات الانتحار ومحاولات الانتحار في تونس خلال السنوات الأخيرة، مع التأكيد مرة أخرى على أن شح المعلومات لا يُمكننا من القيام بتحليل بيانات دقيق وشامل.
على مستوى السن، فإن الفئة العمرية من 20 إلى 29 عامًا هي الأكثر إقداما على الانتحار، إذ تُمثل ما بين 20 و25 في المئة من عدد المنتحرين، وتبلغ معدلات الانتحار لدى هذه الفئة أكثر من 5 حالات لكل 100 ألف نسمة. تليها الفئة العمرية 30 –39 عاما التي تُشكل حوالي 15 إلى 20 في المئة من حالات الانتحار بمعدل 4 أو 4،5 حالات لكل 100 ألف نسمة، وهي نفس النسب تقريبا لدى الفئة العمرية 40– 49 عاما. ويبلغ متوسط أعمار المنتحرين في تونس ما بين 35 و37 عاما. ونُشير هنا إلى الارتفاع في عدد حالات ومحاولات الانتحار لدى الفئة العمرية 10-18 عاما خلال السنوات الأخيرة، وكانت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن السّابقة، آمال بلحاج موسى، قد صرّحت في جويلية 2023 بأن حالات الانتحار لدى الفئة العمرية ما دون 18 عاما بلغت 16 حالة، بالإضافة إلى 176 محاولة انتحار خلال الأشهر الستة الأولى من نفس السنة، و259 محاولة في سنة 2022 و194 محاولة في 2021. وأشارت إلى أن أغلب المحاولات المُسجلة قامت بها إناث، وهو معطى تؤكده تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فالفئة العمرية ما دون 18 عاما هي الوحيدة التي نجد فيها تقاربا بين معدلات الانتحار لدى الذكور والإناث. بالنسبة لبقية الفئات العمرية فإن توزع المنتحرين حسب النوع الاجتماعي واضح وشبه ثابت: الذكور أكثر إقداما على الانتحار من الإناث. في أغلب السنوات التي راجعنا أرقامها وجدنا أن نسبة الذكور من بين المنتحرين تتراوح ما بين 70 و76 %.
يتم تسليط الضوء بشكل متزايد في السنوات الأخيرة على انتحار الأطفال والمراهقين، وهذا مفهوم نظرا لصغر سِنّهم وما يخلفه موتهم أو محاولتهم الانتحار من لوعة وحيرة لدى عائلاتهم والمجتمع عموما، وكذلك لأنها مادة اعلامية تُثير الاهتمام. لكن هناك فئة عمرية أخرى تتسم هي الأخرى بهشاشة أوضاعها وتسجل معدلات انتحار مرتفعة تفوق في عدة سنوات المعدل الوطني، وهم المُسنّون. في سنة 2015 بلغ معدل الانتحار لدى الفئة العمرية 70 -74 سنة قرابة 5،35 حالة لكل 100 ألف نسمة و4،72 حالة لدى فئة 75 – 79 عاما. وفي سنة 2016 سَجّلت الفئة العمرية 80 عاما فما فوق 4،07 حالة لكل 100 ألف نسمة.
أما على المستوى الجغرافي، فيلاحَظ -حسب المعطيات المتوفرة- أن هناك تركّز نِسبي لحالات الانتحار في الجهة الغربية للبلاد (خاصة إقليمي الوسط والجنوب، وبالأخص ولايات القيروان وقفصة وقبلي)، وبشكل أقل في الشمال الشرقي (تونس الكبرى وبنزرت).
وفيما يتعلق بطرق ووسائل الانتحار فإن الشَّنق هو الأكثر حضورا حتى قبل ثورة 2011 ويلجأ إليه أكثر من نصف المنتحرين، يليه الانتحار حرقا الذي يُشكل 20 في المئة من حالات الانتحار، أما أشكال الانتحار الأخرى فهي مختلفة: إلقاء النفس من مكان مرتفع أو أمام وسائل نقل أو تناول أدوية وسموم، مع حضور متزايد للانتحار باستعمال سلاح أبيض أو نَاري، إلخ. بالنسبة للانتحار عبر حرق النفس وإن كان إحدى الوسائل الدارجة قبل الثورة فإنه شهد انتشارا هائلا بعدها كشكل احتجاجي كثيرا ما يتم داخل أو أمام مقرات السلطات والإدارات والمؤسسات العمومية وأحيانا داخل أو أمام مؤسسات اقتصادية خاصة، وفي 2016 أشارت رئيسة “اللجنة التقنية لمكافحة الانتحار” إلى أن حالات الانتحار احتراقا تضاعفت حوالي 20 مرة بعد الثورة. وبالطبع لا يُمكن التغافل عن مدى انغراس صورة جسد محمد البوعزيزي المحترق في 17 ديسمبر 2010 في الذاكرة الجماعية.
مَحلّ السّكنى هو الفضاء الذي تتم فيه أكثر من نصف حالات ومحاولات الانتحار وأحيانا تكون النسبة أعلى بكثير، في حين تتوزع بقية الحالات بين الشارع والفضاءات العمومية المفتوحة والأراضي الفلاحية وأمام مقرات تابعة للدولة، ويُلاحظ أن انفتاح المجال السياسي في 2011 رافقَه أيضا انفتاح المجال العمومي أمام كل التعبيرات بما فيها الانتحار خاصة ذو الطابع الاحتجاجي.
لا يَستثني الانتحار أي شريحة اجتماعية أو مهنية، لكن المعطيات التي يُوفرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك تصريحات بعض المسؤولين في وزارة الصحة، تُفيد بأن الجزء الأكبر من المنتحرين عاطلون عن العمل وعمال يوميّون وعمال مُتدني الأجور.
لا تتيح لنا البيانات المتوفرة إمكانية تِعداد وترتيب الأسباب المؤدية للانتحار، فإن كانت حالات ومحاولات الانتحار الاحتجاجي أو تلك التي تتم في الفضاء العام عموما تحظى بتغطية إعلامية وتُكشَف في كثير من الأحيان الدوافع ورائها فإن أغلب الحالات تتم بعيدا عن الأعين وتتكتم كثير من العائلات حول الأسباب الحقيقية.
هناك أيضا معطى لا يجب التغافل عنه، وهو أن ثورة 2011 وما تلاها تزامنا مع ثورة تكنولوجية ومتغيرات ثقافية كبيرة يعيشها العالم في ظل “دمقرطة” الانترنت والهواتف الذكية والشعبية الجارفة لمنصات التواصل الاجتماعي. هذه المتغيرات وعلى الرغم من إيجابياتها المتعددة فلها ضريبتها أيضا خاصة لدى المستعملين الأصغر سنا والأكثر هشاشة نفسية، مثل تلقي كم هائل من الأخبار السلبية بشكل متواصل وتزايد الشعور بعدم الرضا عن الذات مقارنة بالصور التي يروّجها الآخرون عن “نجاحاتهم” و”سعادتهم”، أو التعرض إلى ممارسات مثل التحرش والابتزاز والتنمر الإلكترونيين.
هل هناك علاقة بين الظروف الاجتماعية- الاقتصادية والانتحار؟ المعطيات الشحيحة والمنقوصة تقول أن الذكور في العقد الثالث والرابع والخامس الذين ينتمون إلى الشرائح الاجتماعية الأفقر أو الذين يسكنون في الأقاليم الأقل تنمية وثروة هم -نسبيا- الأكثر عرضة للميول الانتحارية. طبعا تبقى المسألة أعقد بكثير وأحيانا تتظافر عدة عوامل لتَدفع شخصا ما إلى إنهاء حياته. لا يمكن اعتبار كل حالة أو محاولة انتحار فعلا احتجاجيا، لكن عندما يتواتر الانتحار حرقا أو بأشكال أخرى لا تقل عنفا و”مشهدية” أمام مقرات رسمية كمراكز الشرطة ومقار السلطات الجهوية والإدارات العمومية والمستشفيات وحتى مؤسسات تربوية فبكل تأكيد هناك أزمة يمر بها المجتمع وتتطلب تفاعلا إيجابيا وحلولاً واقعية لا خطابات تأثيمية أو سرديات مؤامراتية.
ماذا عن الرعاية النفسية؟
استنادًا إلى تقديراتها بارتفاع معدّلات الانتحار إلى قرابة الضعف بعد ثورة 2011، اعتبرَت وزارة الصحة أن هذه الظاهرة تستوجب إعداد استراتيجية وطنية للحد منها، وشرعت منذ سنة 2015 في خطوات عملية نحو هذا الهدف. تم إحداث “لجنة تقنية لمكافحة الانتحار” صلب وزارة الصحة، كما أُعلِن في نفس الفترة عن نية السلطات إرساء “سجل وطني للإنتحار ومحاولات الانتحار”. ونُظّمَت برامج تأهيل ما بين 2015 و2017 شملت 448 عاملا في قطاع الصحة لتدريبهم على آليات رصد وتسجيل حالات الانتحار ومحاولات الانتحار بشكل مفصل ودقيق، بالإضافة إلى ورشات تدريبية موجهة للصحفيين بهدف تحسين التغطية الإعلامية “السليمة” للأخبار ذات العلاقة بالانتحار. ونَشرَت وزارة الصحة إحصائيات مفصلة عن حالات الانتحار في تونس (لم تورد أرقاما عن محاولات الانتحار “الفاشلة”) ضمن تقريرين سنويين متتاليين (2015 و2016)، ثم لا شيء تقريبا.
إلى اليوم لم تَصدر استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة ظاهرة الانتحار ولم يتم إحداث السجل الوطني الذي كان يفترض به أن يوفر للدولة والمهنيين وعموم المواطنين قاعدة بيانات هامة تُمكنهم من التعرف على الفئات والمناطق المستهدفة أكثر، وهكذا تطوير آليات ناجعة ومركزة لتقليص حجم هذه الظاهرة.
الحديث عن موضوع الانتحار يقُودنا بالضرورة لمسألة الصحة النفسية والعقلية وهياكل الرعاية المتوفرة في تونس. تُقدر منظمة الصحة العالمية أن عدد محاولات الانتحار “الفاشلة” يبلغ حوالي 20 ضعفا مقارنة بحالات الانتحار “الناجحة” في العالم. هذا يعني في تونس مثلا حيث تتراوح أعداد المنتحرين ما بين 300 و400 سنويا خلال العشرية الفائتة أن هناك آلاف -أو على أقل تقدير مئات- محاولات الانتحار التي لم تؤدي إلى الموت. يُضاف إلى هذا معطى يتكرر في أغلب الدراسات التي تطرقت إلى الانتحار في تونس: جزء هام من المنتحرين كان يعاني من اضطرابات نفسية أو عصبية قبل إنهاء حياته، ونسبة منهم سبق لها أن قامت بمحاولة أو عدة محاولات للانتحار. ماهي أطر المرافقة والعلاج النفسيين المتوفرة للناجين من محاولات الانتحار؟ هل حظي أغلب المنتحرين بأي شكل من الرعاية النفسية قبل إقدامهم على الخطوة الأخيرة؟ لا أرقام دقيقة ولا إجابات قطعية، لكن يمكن أن نورد بعض الأرقام المستقاة من “الخارطة الصحية لسنة 2023” الصادرة عن وزارة الصحة.
حسب هذه الوثيقة هناك 326 طبيبا نفسيا في تونس، يتوزعون على القطاعين العام والخاص: 159 طبيب في إقليم تونس الكبرى و109 في إقليم الوسط الشرقي (62 في ولاية صفاقس و47 في ولايات “الساحل” الثلاث) و23 في إقليم الشمال الشرقي و13 في إقليم الجنوب الشرقي، والبقية -أي 22 طبيبا- يتوزعون على أقاليم الغرب الثلاثة (شمال-وسط-جنوب). هناك 10 ولايات يعمل فيها ما بين طبيب واحد وخمسة أطباء نفسيين فقط، أما ولاية تطاوين فلم يتواجد فيها أي طبيب نفسي خلال سنة 2023. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عدد سكان تونس في 2023 قدر بحوالي 11،85 مليون نسمة فإن معدل عدد الأطباء النفسيين لكل 100 ألف ساكن يقل عن 3 أطباء وطنيا مع تفاوت هائل بين الولايات وبين شرق البلاد وغربها. وليس الأمر أفضل فيما يتعلق بعدد الأسرّة المخصصة لاستقبال وعلاج المرضى في أقسام الطب النفسي، فهناك 973 سريرا بمعدل 8 أسرةّ لكل 100 ألف نسمة تقريبا، موزعة على 13 ولاية في حين أن هناك 11 ولاية لا يوجد بها أي سرير مخصص للعلاج النفسي. وحتى الولايات التي تتوفر فيها أسرّة فالتفاوت بينها صارخ: 580 سريرا في “تونس الكبرى” -حيث توجد المؤسسة الطبية العمومية الوحيدة المتخصصة في العلاج النفسي، أي مستشفى الرازي للأمراض النفسية والعقلية، و10 أسرّة في ولاية القصرين. وبما أن هناك تركيز على تنامي حالات الانتحار لدى الأطفال والمراهقين خلال السنوات الفائتة، فمن المفيد ربما التذكير بأنه من بين 16 مركزا للصحة المدرسية -دائما حسب الخارطة الصحية لسنة 2023- هناك ثلاثة مراكز فقط يتوفر فيها اختصاص طب نفس الأطفال والمراهقين (ولايات تونس ومنوبة وصفاقس)، وتتواجد اختصاصات الطب النفسي العام وعلم النفس في تسعة مراكز أخرى، في حين أن هناك أربعة مراكز لا تقدم أي خدمات رعاية نفسية. هذا العرض الطبي النفسي الموجود في تونس هل هو كاف للتوقي من الانتحار والاعتناء بالناجين منه أو الذين لديهم ميول انتحارية؟
في جوان 2024 أصدرت وزارة الصحة “الدليل الإرشادي للتناول الإعلامي المهني لمسألة الانتحار”، وهو موجه لـ”مساعدة” الصحفيين والإعلاميين في تناول موضوع الانتحار في وسائل الإعلام الجماهيرية مع احترام أخلاقيات المعالجة الصحفية والإعلامية. بغض النظر عن النبرة الوصائية للدليل وتوجيهه الصحفيين بالتركيز على هذا البعد أو ذاك أو عدم التعمق فيه، فإن بعض “الإرشادات والنصائح” مثل “التوعية بعوامل الخطر” و”تسليط الضوء على استراتيجيات الوقاية من الانتحار” و”تجنب تناول موضوع الانتحار دون تقديم معلومات عن المساعدة المتاحة والخدمات كرقم هاتف أخضر أو عناوين لجمعيات معنية بالموضوع”، لا معنى حقيقي لها في ظل عدم توفر المعطيات والمعلومات واستراتيجيات وطنية للتوقي من الانتحار.. وحتى عدم وجود ” رقم هاتف أخضر” مجاني.