أرسل وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري إلى مجلس النواب ملاحظاته على اقتراح استقلالية القضاء العدلي الذي كانت أقرته لجنة الإدارة والعدل في أواخر 2021، وذلك بتاريخ 15/11/2022. وفي حين تولّى ائتلاف استقلال القضاء التعليق على هذه الملاحظات وفق مدى التزامها بالمعايير الدولية لاستقلال القضاء، نسعى في هذا المقال إلى تحديد التوجّهات الأساسية التي انبنت عليها ملاحظات وزير العدل والتي تعكس قناعاته في مجال تنظيم القضاء. ومن أهم هذه التوجهات: إعلاء شأن الهرمية القضائية، إضعاف الضمانات الشخصية للقضاة، الإبقاء على صلاحيات واسعة للسلطة التنفيذيّة في الشأن القضائي، إبراز المعيار الطائفيّ مع تهميش الضوابط الدستورية عليه، والتوجس من تعزيز الشفافية.
وقبل المضي في تفصيل هذه التوجهات، تجدر الإشارة إلى أن لجنة الإدارة والعدل خصّصت 6 جلسات حتى الآن (آخرها في تاريخ 7/2/2023) لدرْس هذه الملاحظات من دون إحراز أيّ تقدم يذكر. وهذا ما دفع المفكرة إلى عنونة آخر تعليقاتها على هذه الجلسات: “الإدارة والعدل تغرق في ملاحظات وزير العدل”. وما يزيد من قابلية أداء الوزير كما اللجنة للانتقاد أن كلاهما تجاهل الملاحظات التي أبدتْها لجنة البندقية بناء على طلب الدولة اللبنانية علما أن الوزير كان برّر تأخره في درس الاقتراح بالتشاور معها. فإذا به يجافي رأيها بشكل كامل بدليل تغييبها تماما عن مجمل ملاحظاته.
أولاً: إعلاء شأن الهرمية القضائية
منذ إعلان اللجنة عن اقتراحها في 2021، ركّز ائتلاف استقلال القضاء نقده على غلبة الفئات العمرية المتقدّمة عمريًا داخل القضاء وتهميش الفئات الشابّة، فضلا عن التّمييز الحاصل بين رؤساء ومستشاري المحاكم. وقد بيّن الائتلاف مثلا أن 140 من القضاة من الدرجات الشابة أي ما يمثل أكثر من 25% من القضاة يُدعون لانتخاب عضو واحد يمثلهم في المجلس (من أصل 10)، في حين أن كامل أعضاء المجلس الآخرين سواء المعيّنون أو المنتخبون منهم هم من الدرجات المتقدّمة عمريًا. كما بيّن الائتلاف أن تقسيم رؤساء ومستشاري نفس المحاكم إلى هيئتين انتخابيتين مختلفتين إنما يعيد تكريس الهرمية داخل هذه المحاكم، خلافا لمبدأ المساواة بين القضاة. وقد لاقت لجنة البندقية ملاحظات الائتلاف لتُوصي بوجوب تعزيز تمثيل الفئات الشابّة والنساء بهدف زيادة التنوّع في تمثيل القضاة وتعزيز الإحساس بالانتماء بشكل أكبر من قبل جميع القضاة، وصولا إلى تعزيز الثقة في القضاء ككل.
وبالعودة إلى ملاحظات الوزير، نلحظ أنه انتهج نهجا معاكسا تماما. فبدل أن يعزز من تمثيلية القضاة الشباب وأن يلغي التمييز بين رؤساء المحاكم ومستشاريها، حصر التمثيلية في مجلس القضاء الأعلى بشكل تامّ برؤساء غرف محاكم التمييز والاستئناف والبداية بمعدل 2/1/1. ومؤدى ذلك حصر حق الترشح بالقضاة الذين يشغلون هذه المراكز علما أنه ليس للقضاة الذين تقلّ أقدميّتهم عن 16 سنة إشغال أي منها. كما مؤداه حجب حق الترشح عن كل من لا يشغلون هذه المراكز، ومنهم المستشارين والأعضاء في جميع المحاكم والقضاة المنفردين فضلا عن قضاة التحقيق وقضاة النيابة العامة.
وما يعزز من هذا التوجه في ملاحظات الوزير هو اعتراضه على تحديد مدة ولاية الأعضاء الحكميين في المجلس (وهم رئيس محكمة التمييز والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي) بأربع سنوات كما ورد في اقتراح لجنة الإدارة والعدل، بحجّة أن “تحديد ﻣﺪة وﻻﻳﺔ اﻷﻋﻀﺎء الحكميين ﻣﻦ ﺷﺄﻧها ﺧﻠﻖ إﺷﻜﺎﻟﻴﺎت ﺗﺘﻌﻠّﻖ ﺑﺼﻮرة أوﻟﻴﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﻬﺎمهم ﻛﻤﺎ وﻗﺪ ﺗُﺴﺒّﺐ ﻓﺮاﻏﺎ ﻋﻠﻰ ﻣﺴﺘﻮى الخيارات ﰲ ﺿﻮء درﺟﺎت وﻋﺪد اﻟﻘﻀﺎة”. ومن شأن تحرير القضاة الحكميين من أي تحديد لمدة ولايتهم منحهم امتيازاً بالنسبة إلى سائر أعضاء المجلس الأعلى للقضاء الذين حدد الاقتراح ولايتهم بثلاث سنوات، وهو امتياز يُضاف إلى المكانة التي يتمتعون بها بفعل مناصبهم السامية والصلاحيات الملازمة لها. ومؤدى ذلك هو تعزيز قدرتهم على فرض سلطتهم على سائر أعضاء المجلس، بما يعزّز الهرمية على التشاركية والديمقراطية داخله.
وما يؤكدّ أيضاً توجه وزير العدل لتعزيز الهرميّة، هو تمسكه بالتنظيم الهرمي الحالي للنيابة العامة من دون ضوابط. ففيما ضمّنت لجنة الإدارة والعدل اقتراحها ضوابط للحؤول دون تعسفّ النائب العام التمييزي في ممارسة سلطته الهرمية على أعضاء النيابة العامة (حيث أوجبت أن تكون تعليماته خطية وقانونية ومعللة وأن تودع نسخة عنها في ملف القضية)، طالب وزير العدل بإلغاء هذه الضوابط وتاليا بإبقاء صلاحيات النائب العام التمييزي كما هي عليه في أصول المحاكمات الجزائية. وهي صلاحيات تكاد تختزل النيابة العامة وما تمثله من حقوق المجتمع، في شخص واحد.
ثانياً: هيمنة السلطة التنفيذية
اقترن سعي وزير العدل إلى إعلاء شأن الهرمية بسعيه للحفاظ على هامش كبير لتدخّل السلطة التنفيذية في الشؤون القضائية. ويتبدّى ذلك في عناوين عدة:
فهو من جهة، أصرّ على أحقية وزير العدل بإضافة أسماء على القوائم التي تضمّ 3 مرشحين لكلّ مركز يضعها المجلس الأعلى للقضاء لتعيين الأعضاء الحكميين في هذا المجلس، وذلك خلافا لما أوصت به لجنة البندقية. وكانت اللجنة بررت ضرورة الاكتفاء بالقوائم المعدّة من مجلس القضاء الأعلى بأهمية اصطفاء الأسماء وفق إجراءات شفافة تراعي الكفاءة.
ومن جهة ثانية، عزّز وزير العدل إمكانية تدخّل السلطة التنفيذية للتأثير على التشكيلات القضائية في مختلف مراحل إعدادها. فهو من جهة، استبقى شرط التباحث بين مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل في سياق وضع مشروعها. وإذ وافق على تمكين هذا المجلس من حسم الخلاف مع هذا الأخير على غرار ما فعلته لجنة الإدارة والعدل، فإنه تمسّك مثلها في اشتراط توفر أكثرية 7 من أعضاء المجلس. وهو تجاهل بذلك توصيات لجنة البندقية والتي كانت أعربت عن تخوفها من اعتماد غالبية 7 أعضاء لحسم التشكيلات موصية باعتماد الغالبية المطلقة داخل المجلس (أي 6 فقط).
ومن جهة ثالثة، تمسك وزير العدل بضرورة إصدار التشكيلات القضائية بمرسوم رئاسي يوقّعه رئيس الجمهورية والوزراء المعنيّون سندا للمادة 56 من الدستور، وذلك بخلاف ما ذهب إليه ائتلاف استقلالية القضاء الذي شدّد على ضرورة تحرير التشكيلات القضائية من فيتوات السلطة التنفيذية تجنبا لإجهاضها أو تعطيلها. وإذ عاد الوزير ليوافق على إمكانية تجاوز المرسوم، فإنه سارع إلى وضع شروط شبه تعجيزية، قوامها إصرار مجلس القضاء الأعلى بأكثرية 8 من 10 من أعضائه على مشروع التشكيلات بعد انقضاء 3 أشهر من وضعها. وهو شرط شبه تعجيزي طالما أنه قد يكون ثمة استحالة في توفير غالبية كهذه من دون موافقة السلطة التنفيذية، وبخاصة في ظلّ وجود 3 أعضاء حكميين تعيّنهم السلطة التنفيذية وحصر تمثيلية القضاء بالدرجات المتقدمة عمريا.
فضلا عن ذلك، أثنى وزير العدل على اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة تفرّد السلطة السياسية في تعيين أعضاء هيئة التفتيش القضائي، مما يبقيها سلاحا في يد السلطة التنفيذية.
بالمقابل، وإذ تمايز وزير العدل عن لجنة الإدارة والعدل لجهة إناطة عملية تقييم القضاة بهيئة تقييم تعمل بإشراف المجلس الأعلى للقضاء، فإنه تمسك بصورة مريبة وغريبة بحفظ وزارة العدل ملفات القضاة “منعاً لازدواجية الملفات”.
ثالثاً: إضعاف الضمانات الشخصية للقضاة
بالإضافة إلى تعزيز الهرمية القضائية والحفاظ على مكانة السلطة التنفيذية في التنظيم القضائي، ذهب وزير العدل إلى إنكار الضمانات الشخصية للقضاة وحرياتهم الفردية والجماعية.
فمن جهة أولى، طالب الوزير بنسف المادة المقترحة بضمان حرية القضاة حقهم في إنشاء جمعيات، بحجة أن الدستور يكفي لضمان هذه الحرية، هذا فضلاً عن أنه طالب بحذف إمكانية تقديم مطالب وشكاوى جماعية أمام المجلس الأعلى للقضاء. وعدا عن أن هذا المطلب يخالف مبادئ استقلالية القضاء التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1983، فإنه يخالف أيضا توصيات لجنة البندقية التي شددت على أهمية تمتع القضاة بحرية تأسيس جمعيات وعلى أن تكون جمعياتهم قادرة على العمل في مجمل المجالات التي يشملها اقتراح القانون بشرط مراعاة ضرورات عملهم والحفاظ على الثقة العامة واحترام المؤسسات القضائية.
ومن جهة ثانية، طالب الوزير بنسف أغلب الضمانات التي منحها اقتراح لجنة الإدارة والعدل للقضاة بصورة كاملة. إذ إنه طالب بإلغاء مبدأ عدم جواز نقل القاضي إلا برضاه وإلغاء حق القضاة بالطعن في قرارات المجلس الأعلى بحجة أن “دور وصلاحيات المجلس الأعلى للقضاء في إطاره التنظيمي للسلطة القضائية لا يقبل مراجعةً ومراقبة من قبل هيئة قضائية كالهيئة العامة لمحكمة التمييز مهما علت درجتها لا سيما وأنه هو من يقوم بتعيينها في إطار التشكيلات التي يضعها”.
كما أنه أثنى على اقتراح لجنة الإدارة والعدل لجهة تمكين المجلس الأعلى للقضاء من عزل قاض تبعا لإعلان عدم أهليته من دون تعريف ذلك ومن دون تمكين القاضي من الدفاع عن نفسه، فضلا عن أنه أعطى صلاحية إضافية لوزير العدل بتوقيف القاضي عن العمل لحين صدور قرار المجلس. هذا فضلا عن إبقاء الباب مشرّعا لكل أشكال التمييز بين القضاة في التعيين في لجان مدفوعة الأجر أو في التدريس من دون أي تقييم مسبق.
رابعاً: إبراز المعيار الطائفيّ مع تهميش الضوابط الدستورية عليه
التوجّه الرابع الذي نستشفّه من ملاحظات وزارة العدل هو تمسّكه بالممارسات الطائفيّة المعمول بها في التنظيم القضائي ورفضُه وضع أيّ ضوابط عليها وذلك على نحو يخالف ليس فقط توصيات لجنة البندقية ومعايير استقلالية القضاء ولكن قبل كل شيء المادة 95 من الدستور.
وقبل المضي في إبراز الشواهد على ذلك، تجدر الإشارة إلى أن لجنة البندقية كانت نقلت في متن رأيها عن وزير العدل قوله: “كانت إدارة القضاء على أساس المبدأ الطائفي قبل الحرب الأهلية فعّالة نسبياً. وأي تغيير جذري في هذا الصدد سيكون محفوفاً بالمخاطر”.
وقد سعت لجنة البندقية بعد تدوين ذلك إلى التذكير بالطموح الدستوري الذي ترشح عنه المادة 95 من الدستور بتجاوز الطائفية السياسية كما بنصها الذي يسهّل تحقيق ذلك. ومن أهم ما شددت عليه اللجنة في هذا الإطار أن “المناصفة” الطائفية المعتمدة في هذه المادة لموظّفي الفئة الأولى أو ما يعادلها تبقى مقيّدة وفق نص المادة نفسها بمعايير التخصص والكفاءة وبعدم جواز تخصيص أيّ مركز لأيّ طائفة. وقد أبرزت “المفكرة القانونية” أهمية التذكير بهذه الضوابط والتي من شأنها أن تُجرّد زعماء الطوائف من إمكانية تقاسم المركز القضائية وادّعاء أحقيّة كل منهم في تسمية قضاة في المراكز العائدة لطائفته، وأن تخفّف بصورة جدية من احتمال تحوّل هذه المراكز إلى مراكز نفوذ لهؤلاء.
إلا أن وزير العدل تجاهل رأي اللجنة بصورة تامّة كما نستشف من ملاحظاته، مطالبا بحذف مجمل المواد المقترحة والتي من شأنها الحدّ من أيّ من الممارسات المعمول بها في هذا المجال. وقد تجلى ذلك بشكل خاص في أمور ثلاثة:
الأول، المطالبة بإلغاء بند عدم جواز التمييز:
من أهم المواد الواردة في اقتراح لجنة الإدارة والعدل وجوب حصول التشكيلات القضائية من دون أي تمييز بين القضاة “على أساس العنصر أو الجنس أو الدين أو المذهب”. وقد هدفت هذه المادة المأخوذة من الاقتراح الأساسي الذي أعدته المفكرة القانونية إلى الحدّ من تطييف المراكز القضائية وتاليا من تسييسها، عملا بالمادة 95 التي تمنع تخصيص أي مركز إداري أو قضائي لأي طائفة بعينها.
ورغم أهمية المادة المقترحة، فإنّ وزير العدل لم يجدْ حرجا في المطالبة بحذفها بحجّةٍ أن: “لا داعي لهذا النص”. وقد بدا الوزير خوري بذلك وكأنه يقفز فوق كلّ المخاطر الناجمة عن تطييف المراكز القضائية، معتبرا إياها أمورا لا تستحق أي معالجة ولا حتى أي نقاش.
الثاني: المطالبة بنسف الآليات المقترحة لقياس الكفاءة:
كرّس اقتراح لجنة الإدارة والعدل مبدأ ترشّح القضاة للمراكز القضائية وقد أوصت لجنة البندقيّة استنادا إلى المادة 95 بضرورة إرساء آليات شفافة لقياس الكفاءة وتغليبها في التعيينات القضائية، مطالبة بفتح باب الترشّح للمراكز السامية لعدد أكبر من القضاة، فإن وزير العدل ذهب في اتجاه معاكس تماما.
فهو من جهة، ألغى حق الترشح للقضاة في إطار إعداد التشكيلات القضائية، بحجة أنّ “مسألة ربط التشكيلات بالترشح للمركز من شأنه تعقيدها أكثر وربط حرية المجلس الأعلى للقضاء وفق المعايير التي يضعها”. وبذلك، بدا الوزير وكأنه يترك لمجلس القضاء الأعلى مهمة إجراء التشكيلات وفق ما يراه مناسبا من دون الالتزام بأيّ معايير أو ضوابط، ومن ضمنها معيار الكفاءة. وهذا ما أكده وزير العدل في مكان آخر من ملاحظاته حيث جاء حرفيا: “أنّ عدد القضاة القليل نسبيًا ومعرفة المجلس الأعلى للقضاء يكفي ويُغني عن تعقيد أي إجراءات”.
الثالث: التمسك بإصدار التشكيلات بمرسوم صونا لصلاحيات رئيس الجمهورية:
في هذا المجال، أصرّ الوزير كما ذكرنا سابقا على أنّ الدستور (المادة 56) يفرض إصدار التشكيلات بمرسوم بحجة أنّ أي تجاوز لضرورة صدور مرسوم يؤول إلى تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المكرسة في هذه المادة وأن أيّ تجاوز للمرسوم يتطلّب تعديلا دستوريا. وّقد بدا الوزير من خلال ذلك وكأنه يبرّر رفض تحرير التشكيلات القضائية من السلطة السياسية بصلاحيات رئيس الجمهورية، أي من خلال تحويلها من مسألة استقلالية قضاء إلى مسألة ميثاقية ترتبط بصلاحيات هذا الأخير وما تمثله من حقوق للمسيحيّين. إلا أن هذا التبرير غير صحيح بداهة لسببين: الأول، أن اشتراط صدور التشكيلات القضائية بمرسوم إنما يعني اشتراط توقيع ليس فقط رئيس الجمهورية بل رئيس الحكومة وعدد من الوزراء عليه، وهو الأمر الذي تترجم بادّعاء كل من هؤلاء تمتعه بحق فيتو على مشروع التشكيلات القضائية، إلى درجة إجهاض أكثر من 9 مشاريع تشكيلات قضائية بإرادة هذا الوزير أو ذاك خلال العقد الأخير، والثاني، أن الوزير عاد بعد اشتراطه وجوب إصدار مرسوم، عاد ووافق على جواز تجاوزه وفق ما سبق بيانه، بما يدحض كل ما أدلى به في هذا الصدد.
خامساً: التوجّس من تعزيز الشفافية
التوجه الأخير الذي سعى الوزير إلى تعزيزه هو تضيّيق الشفافية الداخلية والخارجيّة، وحذف المواد المقترحة التي من شأنها تعزيزها. وهذا ما نلقاه في عدد كبير من ملاحظاته على اقتراح لجنة الإدارة والعدل، أبرزها الآتية:
- المطالبة بحذف الموجب المفروض على المجلس الأعلى للقضاء بوضع تقرير سنوي عن أعماله وأعمال القضاء ونشر نظامه الداخلي وجدول أعماله وقراراته باعتبار أن نشر القرارات وتدوين الآراء المخالفة يعتبر بمثابة مسّ بسريّة المداولات.
- المطالبة بحذف جميع المواد التي توجب على الهيئات القضائية (هيئة التفتيش والتقييم القضائي) والنيابة العامة التمييزية والمحاكم نشر تقارير سنوية، بحجة أنه “لا مبرر لنشر التقرير”.
- وفيما أن اقتراح الإدارة والعدل سعى إلى زيادة الشفافية فيما يتصل بنشر القرارات التأديبية الصادرة بحق القضاة من خلال “نشرها على الموقع الإلكتروني الخاصّ بالمجلس الأعلى للقضاء، بعد حذف جميع المعلومات المتعلّقة بهوية أصحاب العلاقة”، فإن وزير العدل طالب بحذف التعديل المقترح ليبقي السرية التامة على هذه القرارات. وقد برر موقفه المذكور بأن “مبدأ النشر برمته يتعارض مع موجب الحفاظ على السرية المرتبط بالملاحقات التأديبية القضائية حفاظاً على موقعية الجسم القضائي والسلطة القضائية والدور المناط به.”
- كما أنه أغفل توصية لجنة البندقيّة لجهة وجوب إلزام المجلس الأعلى للقضاء بتعليل قرارات النقل والترقيات.
خلاصة:
بالخلاصة، يتبين أن وزير العدل رفس من دون أي مبالغة معايير استقلالية القضاء ومعها أهم ما تضمنه الاقتراح من إصلاحات وضمانات قضائية، من دون أن يعير توصيات لجنة البندقية أو ملاحظات ائتلاف استقلال القضاء أي أهتمام. إلا أنه ورغم بداهة تنكر الوزير لاستقلالية القضاء، فإن لجنة الإدارة والعدل اختارت أن تأخذ ملاحظاته على محمل الجدّ وأن تناقشها بندا بندا وكأنها في معرض مناقشة اقتراح القانون من جديد، من دون أن تولي هي الأخرى لتوصيات لجنة البندقية أي اهتمام. وما يزيد من قابلية تصرف لجنة الإدارة والعدل للانتقاد هو بطء عملها وسوء إدارة النقاشات فيها وقلة اجتماعاتها، وكلها عوامل ترجّح أن تغرق بفعلها اللجنة في ملاحظات وزير جل ما أراده هو تحطيم القليل الذي أنجزته ومعه تقويض أي فرصة لإصلاح القضاء.