بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على اطلاق سراحه بكفالة، أسدل الستار نهار الجمعة 8/4/2016 عن قضية الوزير السابق ميشال سماحة، بعد أن أصدرت محكمة التمييز العسكرية برئاسة القاضي طاني لطوف حكمها عليه بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدة ثلاث عشرة سنة مع تجريده من حقوقه المدنية.
هذه القضية التي اتخذت منذ بداياتها طابعاً سياسياً بحتاً، وشغلت الرأي العام اللبناني حتى كادت أن تشعل فتنة (طائفية) في البلد، أدت في وقت ما الى إعادة فتح باب النقاش حول دور المحكمة العسكرية وجدواها وذلك على ضوء الحكم الأولي الذي صدر بحق سماحة وقضى بعقوبة مخففة. وقد تعهد وزير العدل أشرف ريفي بإيجاد صيغة لإلغائها أو في أحسن الأحوال بالحد من صلاحياتها، وانتهى إلى وضع مسودة مشروع قانون لإنشاء محاكم متخصصة بقضايا الإرهاب. وفي موازاة ذلك، عادت لجنة الإدارة والعدل لتدرس اقتراحات القوانين المتصلة بالمحكمة العسكرية.
وتبعاً للحكم الصادر عن محكمة التمييز في إثر الضغوط الإعلامية والسياسية، صدرت مواقف عدة تهدف إلى إعادة المشروعية للمحكمة. ولعل أبرز المؤشرات وأصدقها التصريح المباشر لرئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان الذي قال فور الإعلان عن الحكم بأنه"بعد صدور حكم محكمة التمييز العسكرية على ميشال سماحة، ينبغي اعادة النظر بالمواقف الحادة التي تنادي بإلغاء هذه المحكمة". ناهيك عن الأحاديث التي تواردت عن إمكانية عودة وزير العدل أشرف ريفي عن استقالته مع صدور هذا الحكم وفق ما أوحى به تصريحه الأخير:"إذا ارتأيتُ أن أُكمل واجبي الوطني ونضالي فسأُكمله فملف سماحة كان أحد الملفات المتعثرة التي دعتني للإستقالة".
علامات فاضحة
اذاً بالعودة الى قضية سماحة، فقد رفعت جلسة 7/4/2016 التي كانت مخصصة للمرافعة الى حين صدور الحكم الذي قال حينها القاضي "لطوف" أنه سيصدر خلال يومين دون أن يذكر أنه سيتم لفظ الحكم في جلسة علنية، بل خيل للحاضرين أنه سيتم إعلام محاميه وعائلته بالأمر. وقد تم توقيف سماحة عندها في نظارة المحكمة إلى حين صدور الحكم فقام بتوديع أفراد عائلته وأصدقائه في أجواء خيم عليها الحزن. وفي صبيحة نهار الجمعة 8/4/2016، أعلنت وسائل الإعلام عن النطق بالحكم بحق سماحة في جلسة علنية. في باحة المحكمة العسكرية كان يقف وكلاء سماحة المحامي صخر الهاشم وإبنه المحامي شهيد والمحامية رنا عازوري. منذ البداية كانت سيماء صخر تشي بأن الحكم لن يكون في صالح سماحة لكنه حاول عبثاً إخفاء قلقه وتردده، قائلاً انه يتوقع أن يصل الحكم إلى نحو السنتين. وما زاد الإعتقاد بأن الحكم سيكون قاسيا هو غياب أفراد عائلة الذين عُرف لاحقاً أنهم منعوا من حضور الجلسة الأخيرة. كما لوحظ الانتشار الكثيف لعناصر الجيش ووقوفهم الى جانب سماحة داخل القفص. ناهيك عن حضور طبيب الشرطة العسكرية الذي سبق له أن كشف على سماحة يوم غاب عن الوعيوقد جلس في الصف الأول في المكان الذي كان خصص على مدى الجلسات السابقة لعائلة سماحة وأقاربه. وقبيل بدء جلسة النطق بالحكم، لملم المحامي صخر الهاشم نفسه وانسحب الى خارج القاعة، الأمر الذي زاد من علامات الإضطراب والقلق على وجه سماحة.
قرابة الساعة الحادية عشرة بدأت الجلسة برئاسة القاضي طاني لطوف الذي تلا على نحو 40 دقيقة مضمون الحكم مفنداً المواد والأسباب التي أدت الى الوصول الى الحكم على سماحة. كانت هي المرة الأولى التي يكون الكلام فيها للطوف حصراً دون سواه. وانطلق في تلاوة الحكم بقضية سماحة من التهم المسندة إليه بأنه "في الاراضي البنانية وخارجها وبتاريخ لم يمر عليه الزمن أقدم على تأليف عصابة ترمي الى ارتكاب الجنايات على الناس والأموال والنيل من سلطة الدولة وهيبتها وعلى محاولة قتل سياسيين ورجال دين ونواب وعلى الحض على التقتيل في منطقة عكار وعلى حيازة ونقل متفجرات بقصد ارتكاب أعمال القتل، والقيام بأعمال إرهابية. وهذه الافعال لم تتم بسبب ظرف خارج عن إرادته وعلى حيازة أسلحة حربية غير مرخصة وتوابعها وطلقات نارية عائدة لها". وقام بتفنيد المواد التي تدينه.
وفي البداية، عرض لطوف نبذة عن مرافعة وكلاء سماحة في جلسة المرافعة نهار الخميس، ثم ذكر مجموعة من الأسئلة التي طرحتها هيئة المحكمة والأجوبة المناسبة لكل سؤال. ثم انتقل الى تعليل الأحكام طبعاً للمواد التي اتهم بها.
انقلاب السحر على الساحر
ويتضح من خلال قراءة التعليل للأحكام، الإدراك الكامل لهيئة المحكمة بشخص رئيسها طاني لطوف، للدور الذي حاول أن يلعبه سماحة منذ بداية إعادة محاكمته أمام محكمة التمييز العسكرية، وهو دور "الضحية المغرر به". ذلك أن كافة الأسباب التي انطلق سماحة منها خلال الجلسات ليبرر لنفسه "حرصه" دون سواه على الأمن في لبنان مما أوقعه في فخ ميلاد الكفوري، كانت هي المبرر للأحكام الصادرة بحقه والتي أدت إلى إعادته الى السجن.
فطوال فترة الجلسات السابقة، وفي كل الأسئلة التي وجهت إليه، لم يخرج سماحة عن "السيناريو" الذي حمله بين يده والمتمثل بمحاضر الإستجواب. وعلى الرغم من أنه قد أعطي المجال مراراً لإضافة المزيد من المعلومات التي قد تخدم قضيته وربما تمنحه "أوسع الأسباب التخفيفة" الا أنه اكتفى بتكرار أجوبة حفظها عن ظهر قلب قائمة على النكران حيناً وإدعاء السذاجة حيناً آخر الاّ أنها لم تقنع المحكمة يوماً.
ومما عجز سماحة عن إثباته أن"ميلاد الكفوري هو الذي خلق لديه فكرة القيام بعمل أمني على الحدود الشمالية لمنع تسلل المسلحين بل إنها كانت تراود سماحة بحيث بات مقتنعاً بضرورة تنفيذ عمل أمني على هذا الصعيد بعد أن أحل نفسه مسؤولاً عن أمن الحدود الشمالية على ضوء تلكؤ الحكومة من وجهة نظره عن المبادرة لإتخاذ موقف". مما ينفي واقعة الاستدراج بالمعنى القانوني القائم على قيام أحدهم بتحريض شخص على إرتكاب جرم معين من خلال الإيحاء له بالفكرة الجرمية وحضه على إرتكابها بغية الايقاع به وهذا لا ينطبق على وضعية المتهم.
من ناحية أخرى فإن السيرة الذاتية للوزير المتهم والتي حرص وكيله صخر الهاشم على الإضاءة عليها وبإسهاب خلال مرافعته، والتي لطالما تغنى بها سماحة خلال جلسات الإستجواب، شكلت سببا إضافيا لرد فرضية الاستدراج. فقد ورد في الحكم "أن ما يدحض منطقياً واقعة الاستدراج الفوارق الشخصية والعلمية والثقافية والفكرية والإجتماعية بين المتهم الذي عمل لسنوات في السياسة وشغل مناصب وزارية أساسية ودأب على نشر التحاليل الصحفية وتنظيم ندوات فكرية الخ..وبين ميلاد الكفوري الذي مارس معظم الاوقات مهامّ أمنية لدى بعض الجهات والأجهزة أو تأمين الحماية والاتصالات لدى بعض السياسيين… فيكف له أن يستدرج المتهم بهذه السهولة دون أن تراوده ولو لحظة أية شكوك حول نواياه مع إنتفاء أي سلطة أو إكراه مادي لهذا الأخير عليه مما يسهل على المتهم إمكانية الرفض والتوقف عن مجاراته".
كما لم يخلُ تعليل الحكم من الغمز الى القسم الآخر من ملف سماحة المتعلق باللواء علي المملوك حيث تمت الإشارة خلال الحكم انه "تبين من أقوال المتهم أثناء التحقيقات الأولية والاستنطاقية وأمام هذه المحكمة إجراؤه إتفاق شفهي مع آخرين أحدهم المخبر ميلاد الكفوري بقصد إرتكاب الجنايات على الناس من خلال القيام بأعمال تفجير على المعابر الحدودية غير الشرعية في منطقة عكار لعرقلة التسلل في الاتجاهين إضافة الى تجمعات السوريين المسلحين ومخازن الأسلحة والذخيرة وتلغيم الطرقات التي يمرون عليها".
الحكم
بعد الانتهاء من تفنيد المواد وتعليل الأحكام المبنية على الوقائع والاثباتات أعلن لطوف الحكم على ميشال سماحة "لجهة المادة 335 عقوبات بالأشغال الشاقة لمدة عشر سنوات وتجريده من الحقوق المدنية. وإدانته بجرم المادة 5 من قانون 11/1/1958/201 وإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة به لهذه الجهة وإنزالها سنداً للمادة 201ع. الى الأشغال الشاقة لمدة سبع سنوات وتجريده وإدانته بجرم محاولة المادة 6 من قانون 11/1/1958 وإنزال عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة به لهذه الجهة وانزالها للمحاولة الى الأشغال الشاقة لمدة سبع سنوات وتجريده. وإدانته بجرم محاولة المادة 549/200ع. الفقرة السابعة وإنزال عقوبة الإعدام به لهذه الجهة وإنزالها للمحاولة الى الأشغال الشاقة المؤقتة لمدة ثلاث عشرة سنة وتجريده. وإبطال التعقبات بحقه لجهة المادة 72 أسلحة لعدم توافر عناصرها. وإدانته بمقتضى المادة 24/78 أسلحة وحبسه لهذه الجهة لمدة ثلاثة أشهر. ومصادرة المضبوطات وإدغام هذه العقوبات معاً، بحيث تنفذ بحقه العقوبة الأشد أي الأشغال الشاقة لمدة ثلاثة عشرة سنة وتجريده من الحقوق المدنية ومصادرة المضبوط ومصادرة المبلغ المضبوط لصالح خزينة الجيش. وعدم تطبيق المادتين 308/200 و312/200ع. لتعليق العمل بهما مؤقتاً بمقتضى المادة الأولى من قانون 11/1/1958.
خارج قاعة المحكمة، كان وكيله صخر الهاشم يقف وعلامات الخيبة بادية على وجهه. فقد عرف بنتيجة الحكم مسبقاً ولكنه لم يكن قادراً على أن يتحمل مشقة الاستماع إليه جل ما قاله "كنت أتوقع ذلك… إنه حكم معلّب". مصادر مقربة من سماحة قالت انه تم تقديم النصيحة إليه بالهروب الى خارج لبنان الى حين الوصول الى تسوية سياسية ما الا انه رفض هذا الأمر وأصر على حضور الجلسات ومعرفة الحكم الصادر بحقه.
اذاً هي ثلاثة عشر عاماً قُضي منها أربعة ونيّف وبقي بحسب السنة الجرمية المحددة بتسعة أشهرٍ نحو الست سنوات والأربعة أشهر تقريباً سيقضيها ميشال سماحة في سجن الريحانية. ولكن هل انتهت قضية سماحة حقاً؟ لا شيء محسوم اذ أن مصادر مقربة أخرى تقول أن هذه القضية قابلة لأن تفتح من جديد، في حال فتح القسم المنفصل عنها والمتصل بمسؤولية علي مملوك.