مع بداية سبعينات القرن الفائت، طوّحَت الحياة بشاب عشريني قادِم من جنوب شرق البلاد في مَسالك الشّوك. وجَعلته يكتشف ذاته مجدّدا، في العتَمة، في أكثر الأماكن “انزياحًا عن العالم”. هناكَ وقف “سارق الطماطم” عاريا أمام آلة الاقتلاع الباردة. تبادَلت الكلاب المسعورة التغوّط على جسده، وألقت به في أكثر الزوايا عُفونَة واختناقًا. جَرّته الآلة الباردة بقوّة إلى الهلاك، ولكنه نجَا، وأفلت من سيناريو تحطيم “الإنسان المقهور”، فهناك في العتمَة لم يسرق الفتى الصادق بن مهنّي الطّماطم فقط وإنما سرقَ الحبّ أيضا.
اكتشف تضاريس بلاده في سيارات السجن، واعترفَ بأفضال سجّانيه عليه رغم الأذى العريض الذي ألحقوه به. في ملامِحهم الإسفلتية اكتشف أن السّجن الأكثر فتكا يَقبع داخل الإنسان وليس خارجه. سَخِرَ في سرّه من باتالوجيا النظام البورقيبي وفزَعه المفرط من جماعة يسارية صغيرة صاخبة تُريد حقها في الكلام والمستقبل، فأراد “زعيم الأمة” إبادتها مثل “الجراثيم”، ولكنّها حفرَت في الإسفلت والخشب كسربٍ من “النمل الأبيض”، واستعادَت حريتها وفوضاها وحقّها في الوجود.
قبل سنة من الآن، في 28 جويلية 2023، رحَل الصادق بن مهنّي عن الحياة، تاركا وراءه حكاياته وملاحِمه الصغيرة، ووعودا باحتمالاتٍ أجمل ممّا مضى، وذاكرة مفتوحة على الحب والأمل والمستقبل.
“التصِق بالتّراب، لتَنجو”
حَزَّ في نفسه أن لاَ يُلبّي شهوة سجين حق عام محكوم بعقوبة مدى الحياة؛ اشتهَى حبّات طماطم طازجة، فسرقَها له من مؤونة رفاقه القليلة، وأطلَق على نفسه “سارق الطماطم”، وستُصبح هذه الصفة فيما بعد عنوانًا لمذكّراته، التي نُشرَت طبعتها الثانية عام 2017. وستغدو هذه المذكرات واحدة من السِّيَر السّجنية، التي تروي سيرة تجربة يسارية أعادت تشكيل كفاحيّتها وخلاَفاتها وأحلامها الثورية داخل سجون دولة ما بعد الاستعمار (برسبكتيف- العامل التونسي).
عايشَ الصادق بن مهني، مع بنات وأبناء جيله، مِحنة محاكمات مجموعتي برسبكتيف والعامل التونسي التي انطلقت منذ سبتمبر 1968، ونال نصيبه منها في صيف 1974.[1] ولم يُفلت الفتى الصادق من المرور بمسالك التصفية النظامية: التعذيب في كهوف وزارة الداخلية وغيرها، السجن الانفرادي، الحرمان من الطعام والشراب، الضغط على العائلة والأقارب، النقل إلى أكثر من سجن، إلخ.
عندما عذّبه جلادوه، ولم يتكلم، ظنوا أن “الولد أبكم” أو “معتوه”، ومن طول ساعات الضرب أدركه النُّعَاس.[2] يصف بن مهني طيلة مذكراته اندهاشه من قدرة جسد الإنسان على المقاومة، وكأنّه في ذروة التعذيب ينفصل عن صاحبه، ويُصبح كيانا مستقلا بذاته، يَستمد صموده وثباته من قوة غامضة وصلبة؛ “هل كان جسمك يُعاند هو جسمك؟ وهل كُنتَ حينها أنت أنتَ؟ وهل كنت فعلاً بينهم رهن رغبتهم تُلهب جلدك سياطَهم وتدقّ أعضاءك عِصيِّهم وخراطيمهم وقبضاتهم أم كنت قد ارتقيتَ؟ هل صحيح أنّكَ حينها كنتَ حقّا ذاك الفتى الصغير الضامر يتقاذفُوك كالكرة، يَصلُونك بنيران سجائرهم، يُعرّونك عنوة من كل ثيابك، يسلخون سمعك بأقذع السباب، يجرّونَك كالجيفة، يَهزّونك هزًّا يبغون اغتصابك، يضربون كل شبر منك، يستهدفون رأسك، يحقرونك”.[3]
طيلة محكوميته التي لم يكن “سارق الطماطم” متأكدا من مدّتِها، ولكنه قدّرَهَا بـ8 سنوات سجن: 6 سنوات في أحكام وتُهم مختلفة وعامان هدية من رئيس المحكمة بتهمة الإساءة للمحكمة، زارَ أكثر من سجن؛ القصرين و9 أفريل وبرج الرومي، وقال بأن لهذه السجون أفضال عليه لأنها جعلته يتعرّف على ربوع بلاده من خلال الشبابيك الصغيرة لسيارات السجون، وسمَحت له بإقامة صداقات مع محكومي الحق العام من مختلف الشرائح الاجتماعية، ومع حراس السجن الذين تجمعه بالكثير منهم صداقات. يروي بن مهني تعاطف حارسَي سجن القصرين معه عندما سمحَا له ببعض الحرية والشمس: ” فتَحَا الباب عليَّ مرة أولى لأقضي حاجة في خلاء وتركَاني أخطو خطوات حرَّ اليدين في شمس وهواء كم كنت أشتاقهما، وعند العودة أنزلاني عند نبعٍ اغتسلت برقراقه ونهلت منه ومددت بصري حتى لكأني نظرت وطني كلّه. وإلى ذلك كلّه لمَحت لأول مرة في حياتي آثار مكثر”.[4] كما يروي سيرة الحارس الشاب حديث العهد بالانتداب، الذي بكَى في أحضانه لأنه يخجل من مِهنته، فانقلبت المواقع والأدوار، وواسَى السجين السجان، وسهرَ معه ليال بأكملها، وأهداه شيئا يقرأه.
كان السجن أشبه بـ”مطرقة هائلة تدقّ وتَطحن” وكان منحدرا يغوي بالانصياع إلى الجنون، ولكن الفتى وجماعته أفلتوا من مصيرهم المُعتم، واجترحُوا بتضامنهم وتعلّقهم بحريتهم وحقهم في الوجود أعمارًا جديدة كادت الظلمة والعزلة والحرمان أن تقطفها منهم. بعد عقود من المحنة يُفسّر نجاتهم قائلا: “ولعلّ من أسباب نجاتِنا من الجنون بل من الموت المحقق رغم الضيم ورغم الشدة ورغم الحلكة ورغم الرطوبة والجوع والإيذاء والعزلة أننا ظللنا لا نرى لنا حياة دون حقوقنا وحريتنا القصوى ودون إفصاح عن الاختلاف ودون الجهر بأحلامنا والسّير إليها وإن على الشوك وفي الهجيرة أو البرد القاسي وتحت السّياط”.[5]
إعادة اكتشاف الفرد داخل سِرب الجَماعَة
في خضم الاسترجاع الملحَمي لسيرة الصمود في وجه الجلاّد، يستعيد الصادق بن مهني أيضا بواقعية مدهشة الضجر من روتينية السجن وتأثيرها على حميمية الأفراد، وإعادة اكتشاف شخصيات الرفاق في أكثر المناطق ضيقا. كما يُعيد تشكيل فردانيّتة داخل جماعَة غاضبة ومتراصة تفتحَ جرد حساب مع خلافاتها الفكرية والتنظيمية داخل سجن برج الرومي، وتُحَوِّلَه إلى “آغاورا” لا تَخلو من حماسة العقيدة وعنف العزلة والقبول بالاختلاف أيضا، وستكون هذه الخلافات محدّدة في تعيين وِجهات مختلفة للكثير من أفرادها، بعد الخروج من السجن. لا يُداري سارق الطماطم قلقه اليومي من روتين السجن، قائلا: “أليس الجحيم أن تسمع ذات الشخير دهرا وأن تشمّ رائحة تغوّط رفيقك العسير وأن يسمع هو قرقرة إسهالك وأن يُعاشر طبلتي أذنك عطاس أو سعال أو إخلاء حنجرة أو ضراط، وأن تتابع رغما عنك نقاشا هو النقاش نفسه وتسمع ذات الموقف قبل أن يُعبَّرَ عنه، وأن لا تجدَ سبيلا لأن لا تسمَع الصمت وتنعَمَ بسكون وسكينة؟”.[6]
في لحظة الكتابة، التي تفصلها عقود عن الأحداث، يعُود الصادق بن مهني لقراءة طُوبَى الجماعة التي شوّشت عليهَا الإيديولوجيا رؤيتَها لحركة الواقع والمجتمع، ووَزنَها داخل علاقات القوة؛ “بان لي كيف أن فرارنا من ماكينة القمع وتخفّينا عنها ولّدا فينا نشوة كالسّكر أعمت بصيرتنا وصوّرَت لنا أننا قادرون حتى على المستحيل وتوّا، وكيف أن انقطاعنا عن الحياة الاجتماعية وعن الأشياء والممارسات المعتادة واليومية للناس وانهماكنا في الاشتغال على “مسائل الثورة ومتطلبات التنظيم” في معزل وداخل حلقات مُغلَقَة قد جعلانا نقرأ الأحداث ليس على عِلاّتها بل بما كان يُضخّمها وبما كان يحققّ لنا “انتصارات” ويُقنعنا أكثر بصحّة ما نحن فيه وبقرب اليوم العظيم”. [7]
كانت الجماعة بِنت سياقِها وعصرها أيضا، ولم تترك لها السلطة العقابية مساحات أوسع لاختبار أفكارها وخططها. فمع انطلاق النصف الثاني من القرن العشرين، هيمنت بُنَى الشخصنة والدوغما وإغواء القيادة الكاريزمية على وعي الحركات اليسارية في أكثر من منطقة في العالم وليس في تونس فقط. ومن الملفت أن الاختلافات والنقاشات في تجربة برسيكتيف والعامل التونسي التي تواصلت في السجون، كانت مُحدّدَة في تعيين وِجهة المناضلين وانتماءاتهم المستقبلية، وقد حاول بن مهني استعراض تفرّق الخيارات الفكرية التي سيتواصل صداها إلى ما بعد التجربة السجنية، قائلا: “طفقَ بعضكم يتحدث عن الحقوق والحريات الجماعية وحتى الفردية، وفيكم من شرعَ يناقش مفاهيم التغييرات الاجتماعية والمجتمعية العميقة ويُوكِل للعمل الثقافي أو الفكري دورا محوريا. وفيما ظلَّ البعض منكم يُتابع باهتمام “إبداعات” ألبانيا ويستلهِم من “الرفيق” أنور خوجه ويَتمترَس وراءه حافظا للثورة الحق ومنبرا لدرب بَيّنٍ وفَعّال وإن خرج عنه الصينيون، وفيما ظلَّ آخرون يعَدّلوُن ساعاتهم على بيكين وعوالمها الثلاثة بدأت صفوف “المنشقين عن كل شيء” تتكاثر”. [8]
عندما وقَف “الفتى الوسيم” في مجلس بورقيبة
أواخر 1979 وبداية 1980 بدأت تتدفق أخبار إلى السجن تُفيد بإطلاق سراح مساجين الحركة اليسارية والنقابية. وقد كان نَقلهم من سجن برج الرومي إلى نقطة التجميع بسجن 09 أفريل وسط العاصمة تمهيدا لإطلاق سراحهم، بالنسبة للكثير منهم. ولكن تنفيذ عملية قفصة المسلحة أواخر جانفي 1980، من قبل مجموعة عروبية محسوبة على النظام الليبي، زادت الأوضاع السجنية تعقيدا، إذ أطلق الحزب الحاكم أيادي ميليشياته ومُخبريه، حتى في السجون. لكن مع حلول صيف 1980، فتحَ نظام بورقيبة باب التفاوض مع سجناء برسبكتيف والعامل التونسي، ووقع الاختيار على قائمة تضم ممثلي المساجين، من أجل لقاء الرئيس بورقيبة في قصره بقرطاج. وكان “سارق الطماطم” ضمن القائمة، التي ضَمَّت أيضا فتحي بن الحاج يحيى ونور الدين بعبورة ومحمد الخنيسي.
كانت الجماعة تتوجّس من سطوة بورقيبة ومراوغته ونرجسيته المفرطة، لذلك بحثت عن ضمانات مع الوفد المفاوض من أجل التزام عدم الإهانة، وعدم الدعاية للّقاء بوصفه طلبًا للعفو والصفح من “المجاهد الأكبر”. كان الفتى الصادق يحتفِظ بصورة عن بورقيبة الذي يُجيد مسرحَة خطاباته، ويستخدم قوّته الكاريزمية في السيطرة على الآخرين، فقد رآه عن قرب عندما كان تلميذا في المعهد الثانوي، وهو يشق جزيرة جربة في سيارته المكشوفة ويُلقي التحية على الجماهير. ولكن عندما أدخلوه إلى مكتبه وجَده “عجوزا تفشل المساحيق رغم كثافتها في التخفيف من تجاعيد وجهه وحدتها”[9] ثم لمحَ إجهاده لنفسه من أجل المكوث واقفا طوال اللقاء.
لم يُخفِ بورقيبة إعجابه بجمالهم وشبابهم، وعندما سألهم عن مُدَد أحكامهم طفَق يَعُدّ السنوات التي قضاها بحُصن مرسيليا وغيره أيام الاستعمار، فاستنتج أنه قضّى مدة أكثر منهم في السجون، وراوَغَ بخصوص مسألة التعذيب، وقال بأن شيء منه كان ضروريا من أجل الاعتراف بالتنظيم الذي تَستّرُوا عليه. وكعادته في سنوات حكمه الأخيرة كان بورقيبة يأخذ القرار ونقيضه؛ ففي الوقت نفسه الذي أمر معاونيه بالسّماح للجماعة بتكوين أحزاب، تراجَعَ ليقول بأن هذه الفسيفساء الاجتماعية التي أمضى عُمره في توحيدها لم تنضج بعد لممارسة التعددية السياسية. وعندما طلبوا منه إطلاق بقية المساجين السياسيين، قال لهم بأنه سيطلق سراح البقية في عيد ميلاده. (يوافق 03 أوت).
[1] للوقوف أكثر حول تفاصيل المحاكمات السياسية لمجموعتي برسبكتيف- العامل التونسي، انظر-ي: المحاكمات السياسية في تونس، 1956-2011، مجموعة من المؤلفين، إصدرات المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، 2014.
[2] الصادق بن مهني. سارق الطماطم أو زادني الحبس عمرا، ط2، تونس: دار سراس للنشر، 2017، ص: 25.
[3] المصدر نفسه، ص: 22.
[4] م.ن. ص: 44.
[5] م. ن. ص: 90.
[6] م. ن. ص: 68.
[7] م.ن. ص: 74.
[8] م.ن. ص: 86.
[9] م. ن. ص: 129.