عقار ٩٢٣ من منطقة القليلة والموصد بالأقفال، مصدر الصور: الناشطة فاديا جمعة
بثلاثة تواقيع وزارية، شطب حقّ الناس بملكهم العامّ على شاطئ بحر صور، تحديدا منطقة القليلة، المتاخمة لحمى المنصوري، لصالح إحدى الشركات. واللافت أن هذا المرسوم صدر بناء على كتاب وزارة الزراعة المذيّل بتوقيع وزيرها. وقد اتّضح أن وزارة الزراعة كانت هي المبادرة إلى إنجاز هذا المرسوم، وذلك بناء على طلب الشركة المستفيدة والي للديكور والاستثمارات العقاريّة ش.م.م والتي أعلنت رغبتها بإنشاء مزرعة سمك. إلا أنّه يسجّل رغم هذه المعطيات، أن المرسوم أغفل تماما تحديد وجهة الترخيص والغاية منه، والتي يفترض بأن تكون استثنائية وذات صفة عامة، مبقيا بذلك الغموض بشأنها قائما والمجال مفتوحا أمام احتمال تغييرها وفق إرادة الجهة المستفيدة من الترخيص. وعليه، قضمتْ حكومة ميقاتي، في جلستها الأخيرة المنعقدة في تاريخ 7 كانون الثاني 2025، مساحة 14560 متراً مربعاً من بحر القليلة- صور، بعدما منحتْ حقّ استثمارها وإشغالها لشركة بموجب المرسوم رقم 14620.
ومنذ صدوره في الجريدة الرسمية بتاريخ 16 كانون الثاني 2025، لقيَ هذا المرسوم اهتماما واسعا من أهالي البلدة ومحيطها والرأي العام البيئيّ الحريص على ما تبقّى من ثروات لبنان الطبيعية وأملاكه العامة البحرية وأبرزها شاطئ صور الأكثر صمودا، حتى الآن، بوجه هجمات تسليع الأملاك العامة البحرية. وما فاقم الانتقادات، هو أن هذا المرسوم شكل المرسوم الثالث الذي اتّخذته الحكومة في أسابيعها الأخيرة، بعد مرسومين سابقين رخّصا بإشغال مساحاتٍ شاسعة من الأملاك البحرية وهما مرسوميْ بالما في رأسمسقا البحصاص، وذوق بحنين في عكّار، واللّذين سبق أن أشارت المفكّرة إلى ما تضمّناه من مخالفاتٍ جسيمة وطعنت جمعية الخطّ الأخضر بهما (البالما وذوق بحنين) أمام مجلس شورى الدولة.
ولجلاء الغموض في هذا الشأن، وللتحرّي عن حقيقة هذا المرسوم، سعتْ المفكّرة القانونية إلى التقصّي عن الإجراءات التي سبقت صدوره لدى وزارة الأشغال العامة أو المديرية العامة للتنظيم المدني ووزارة الزراعة وبلدية القليلة، فضلا عن الاستماع إلى مجموعة من الفاعلين والناشطين/ات البيئيين في المنطقة. ورغم أنه لم يكن ممكنًا إكمال الصورة بفعل تعتيم وزارة الأشغال العامة على مجمل الوثائق والملفات المتّصلة بإشغال الأملاك البحرية خلافا لقانون حقّ الوصول إلى المعلومات، فإنّ المستندات التي حصلنا عليها تؤكد وجود مخالفات قانونية في إصدار المرسوم المذكور، فضلا أن العقار المستأجر من الجهة المستفيدة من المرسوم غير متاخم للأملاك العامة البحرية بما يتعارض مع نظام إشغال الأملاك العامة البحرية.
هذا ما حملنا إلى التساؤل: هل نحن حقّا أمام صدور أول مرسوم لأجل الصيد المائيّ واستزراع الأسْماك في إطار استراتيجية تحقيق الاكتفاء الذاتي في حاجات السوق اللبناني من الأسماك، أم نحن أمام مرسوم يفتح المجال لاستخدامات غير محدّدة على مساحات شاسعة وقد شكّل “استزراع الأسماك” مجرد ذريعة لتمريره؟ هذا ما سنحاول جلاءه في هذا المقال قبلما نوضح المخالفات القانونيّة التي شابت المرسوم.
ماذا نعرف عن مرسوم القليلة؟
هذا هو السؤال الذي طرحناه على رئيس بلدية القليلة محمد الشمالي الذي سارع إلى استنكار أن يصدر مرسوم بإشغال 15 ألف متر مربع من الأملاك البحرية وأن تكون البلدية آخر من يعلم، قبلما يعبّر عن شديد قلقه من أن يفتح هذا المرسوم شهيّة كبار المُستثمرين على شاطئ هذه البلدة، والذي يشمل مساحة 90 ألف متر مربع. وحين نسأله إذا كان على علم بالغاية من الحصول على المرسوم، يجيب: “حتى اليوم ما حدا معو خبر عن طبيعة الإشغال المنويّ تنفيذه وغايته. جلّ ما تحققنا منه إنو في مشروع قائم بهيدا العقار لزراعة السمك والقريدس منذ سنوات، قبل صدور المرسوم، وقد أنتج لمرتين أو ثلاثة القريدس”. ويؤكّد الشمالي للمفكّرة أنّ كل ما يوثّقه أرشيف البلدية لناحية العقار رقم 923 هو حصول مالكه على: “رخصة تصوينة ورخصة بغرفة زراعية للتبريد، ورخصة حفرة لتجميع المياه أسوة بمعظم البساتين يلي عنا.. بس المشروع ما في أي رخصة من عنا، وما قدّملنا حدا أي دراسة للأثر البيئي”. قبلما يردف: “بدي روح أنا شخصيا أكشف، شرطي بلدية ما عنا، البلديات متهالكة مع كل الأزمات ومن أول وصولنا منعونا نوظّف..”. وعليه، يتساءل الشمالي عن ماهية هذا المرسوم وفيما إذا كان ترخيصا بالقيام بأعمال مستقبلية أم تسوية لمشروع سبق تنفيذه من دون ترخيص.
وأخيرا، يدعو الشمالي القيّمين على الشركة المستفيدة بالتوجّه الى البلدية، ومناقشة مشروعهم أمام المجتمع المحلي والفعاليات: “بلكي بيقنعونا بجدوى المشروع”، ويؤكد عدم معارضته مشروع استزراع الأسماك بالمطلق بل يحرص على احترام الشروط القانونية والبيئية: “يعملوا دراسة الأثر البيئي، بشكل أن لا تؤثر سلبا على حمى المنصوري والأعشاب البحرية أو الثروة السمكية”.
صورة جوية للعقار ٩٢٣ غير المتاخم للأملاك البحرية، والمحاذي لحمى المنصوري
وعند اتّصالنا بوزارة الزراعة لاستيضاحها عن مضمون كتابها الذي انبنى عليه المرسوم، أكّد لنا مرجع رسمي مطّلع طلب عدم ذكر اسمه، أنّ الوزارة قد سئلتْ عن إمكانية الاستثمار بموضوع الثروة السمكيّة وأنها لم تمانع بل أتى جوابها مشجّعا، خاصّة وأنها تعمل على حملة للحثّ على الاستزراع السمكي وأن لجنة الزراعة النيابية التي يرأسها النائب أيوب حميّد قد وضعت اقتراح قانون لهذه الغاية (اقتراح قانون يتعلّق بالصيد المائي وتربية الأحياء المائية في لبنان) بالتنسيق مع وزارة الزراعة ومنظمة الفاو. (يشار إلى أن اللجنة الفرعية لدى اللجان المشتركة أقرت الاقتراح المذكور في 9 آب 2023، وفق ما يوثّقه المرصد البرلماني للمفكرة القانونية).
إلا أن المرجع المذكور أكّد في الآن نفسه أن كتاب وزارة الزراعة الذي بني عليه المرسوم في مرتكزاته، والذي حصلت عليه المفكّرة القانونية، لا يمنح ترخيصًا بإنشاء مزرعة أسماك والتي يتطلب أن يصار إلى كشف الموقع والقيام بالدراسات اللازمة من قبل فريق تقني ووفق الأصول، بل أن وزارة الزراعة “بالعموم ومن حيث المبدأ” وكما جاء في حرفية نص كتابها الموقّع من الوزير عباس الحاج حسن أبدت أنها: “لا ترى مانعا في إنشاء مزرعة تربية أسماك بحرية بعد الاستحصال على كامل الموافقات من الوزارات المعنية، إلى حين إقرار مشروع قانون الصيد البحري وتربية الأحياء المائية والنصوص التشريعية له”. وعليه يؤكّد المرجع للمفكّرة أنّ الموافقة المبدئيّة المشروطة على إنشاء مزرعة أسماك لا يعني الترخيص لها. بل ويتمسّك المصدر بعبارة “بعد الاستحصال على الموافقات من الوزارات المعنية”، ومن ضمنها طبعا صدور مرسُوم إشغال الأملاك البحرية المعنية ووضع دراسة أثر بيئي وموافقة وزارة البيئة عليها.
ولدى سؤال المرجع عينه عن أثر إغفال المرسوم لوجهة الاستعمال، يشير إلى ضرورة تفعيل الرقابة القانونية في مرحلة ما بعد منح التراخيص ويوضح: “وقت طلب الترخيص بالعادة الوزارة بتعمل كشف وترسل خبراء ويتّضح استيفاء الشروط ولكن عند التنفيذ قد يتغير كل شيء فننتقل من عملية استصلاح أرض إلى استثمار كسارة”. ويتباع المرجع: “متل شخص أخذ رخصة سلاح لحماية نفسه.. ورايح يرتكب فيه جريمة قتل”. ويختتم المصدر الوزاري حديثه: “بدكن تشوفوا مجلس الوزراء لشو مرخّص يمكن يطلع الاستثمار ما خصّو باستزراع السمك نهائيا.”
وكان وزير الزراعة السابق عباس الحاج حسن، أعلن في إطلالته الإعلامية على قناة NBN في تاريخ 6 كانون الأول 2024، عن تصوّر الوزارة بالنهوض بقطاع الاستزراع السمكي البحري والنهري، وأنه تم العمل على تأمين الشركاء ووضع الآلية والخطة الممتدة من الناقورة إلى النهر الكبير عند الحدود السورية وفي المقلب الآخر عند الليطاني والعاصي والأنهار الساحلية والبحرية. لا بل ذهب إلى حدّ الإعلان عن توجه لوضع ثلاثة أقفاص مهولة في صور وصيدا وفي منطقة ما بعد جونيه وذلك بهدف تأمين حاجة السوق من الأسماك. وفيما لم يؤكد المرجع الوزاري أن يكون مرسوم القليلة مشمولا في هذه الخطة، فإنّ السؤال الذي يطرح هنا، إن صحّت التكهنات، يتّصل بالطريقة التي ستحدّد فيها الجهات الشريكة في تنفيذ هذه الخطة والمستفيدة تاليا من إشغال مسطحات مائية ضخمة؟ هل ستحدد بالتراضي بين الإدارة والشركات الراغبة بذلك أم بعد اتباع إجراءات ضمان المنافسة وفق الشروط التي يفرضها قانون الشراء العام (المادة 3 بند 4)؟
الأمر الثالث الذي أردنا الاستعلام عنه لفهم المرسوم هو الكتاب الصادر عن المديرية العامة للتنظيم المدني والذي تمّ ذكره ضمن بناءاته. فعلام نصّ هذا الكتاب؟ وهل تضمن إفادة من المجلس الأعلى للتنظيم المدني بشأن أهميّة المشروع واستثنائيّته وأنّه ذو صفة عامّة كما يُوجب مرسوم 4810/1966؟ وإذ حصلنا على الكتاب المذكور، يتبيّن أنه اكتفى بإعلان عدم صلاحيّة المجلس الأعلى في النظر في المعاملة، “مع الموافقة على ما جاء في احالة مصلحة الدروس في دائرة التصاميم تاريخ 16/3/2022″، وفق حرفية ما جاء في الكتاب. وعند الاطلاع على مضمون الإحالة الصادرة عن مصلحة الدروس في دائرة التصاميم المُشار إليها، والتي تمكّنت المفكّرة القانونية من الاستحصال عليها، اتّضح لنا سبب اعتبار أن الطلب يخرج عن اختصاص المجلس الأعلى للتنظيم المدني وهو أنه يتعارض مع أحد أهم شروط تطبيق نظام إشغال الأملاك العامة البحرية المنظم في المرسوم 4810/1966، وهو أن يكون العقار متاخما للأملاك البحرية موضوع الترخيص إذ جاء فيها أن ثمة عقارا يفصل بين هذا العقار والأملاك البحرية المذكورة.
ومن هنا، نسجّل باستغراب كلّي أن يتم إسناد مرسوم إلى كتاب مرجع يعلن عدم اختصاصه من دون أن يبدي أي رأي بشأن أهمية المشروع وفق الصلاحية التي أناطها به المرسوم. فإما المجلس مختصّ بأمر أو بآخر (وهو مختصّ بداهة ليس باقتراح منح ترخيص ولكن بتقييم المشروع المزمع القيام به على الأملاك البحريّة)، وإما هو غير مختص ولا يصحّ إصدار المرسوم بناء على كتابه. وقد أكد لنا مرجع مطلع أن المجلس الأعلى للتنظيم المدني إنما دأب بصورة منتظمة على حجب موافقته عن أيّ مشروع مزمع القيام به على الأملاك العامة البحرية، نظرا الى الثغرات العديدة في النظام القانوني لإشغال الأملاك البحرية والذي يستلزم إجراء تعديلات ووضع ضوابط لصون ما تبقى من أملاك بحرية عمومية قبل الترخيص بأي إشغال لمساحات إضافية .
من جهتها، نقلت الناشطة البيئية فاديا جمعة للمفكّرة القانونيّة، ما عاينته على أرض الواقع بزيارتها الميدانية للعقار: “إنشاءات المشروع موجودة، والأنابيب ممدودة من البحر وإليه منذ سنوات.. وتتساءل كيف أنتجوا مواسم؟” وتحسم بحديثها للمفكّرة أن التعدّي حاصل وأننا اليوم أمام محاولة تشريعه وتلفت إلى أن “العقار قد سيّج بالكامل وقطع أيّ منفذ لوصول المواطنين إلى الشاطئ”. وقد تحققت المفكّرة القانونية من وجود قساطل دفنت تحت الأرض، على نحو يؤكّد أنّ الشركة قد سبق واعتدت على الأملاك العامة البحرية، لجرّ المياه من البحر إلى برك زراعة السمك، من دون أي مسوّغ شرعي، ومن دون مراعاة آثار هذا النشاط ومخاطره على البيئة والشاطئ ومن دون أيّة تراخيص تكفل شروط سلامة الغذاء. بمعنى أنه بوشر العمل بهذا المشروع بصورة غير نظامية، داخل عقار مصوّن وموصَد بأقفال، واستمرّ لسنوات بلا حسيب ولا رقيب، ودون مراعاة لأي تراخيص أو شروط تكفل الحفاظ على البيئة كما السلامة العامة. ويستفاد من بناءات المرسوم أن الشركة قدّمت طلباتها للجهات المعنية منذ العام 2022، إلا أنها باشرت العمل والتنفيذ من دون انتظار التراخيص والأهم من دون إعداد دراسة الأثر البيئيّ.
أخيرًا، يستفاد من الإفادة العقارية التي استحصلْنا عليها للعقار 923 القليلة أنّ العقار يدخل ضمن فئة العقارات الأميرية، مما يطرح أسئلة فيما إذا كان بمقدور مالكه أو شاغله أن يستفيد من ترخيص باستعمال أملاك عامّة محاذية له، طالما أن وجهة استعمال الأراضي الأميرية محدّد بالقيام بأعمال زراعية للأرض وخصوصا في منطقة مصنفة زراعية كما هي حال شاطئ القليلة.
كما نجد أن المرسوم صدر لمصلحة شركة والي للديكور والاستثمارات العقاريّة ش.م.م. وفيما يطرح اسم الشركة تساؤلات بشأن مدى اشتمال موضوعها القيام باستزراع السمك. وهنا تفيد جمعة أن أبحاثها أشارت إلى أن الشركة قد عدلت اسمها ليصبح MARINE PRO FARM COMPANY من دون أن ننجح حتى الآن على الاستحصال على إفادة بماهية الشركة واسمها.
أنابيب المشروع القائم على العقار ٩٢٣ بإتجاه البحر
خطر يهدد شاطئ المنصوري – القليلة
“لا يمكن السكوت عن هذه المراسيم المهرّبة، وكيف يمكن صدورها خلافا للقوانين المرعية الإجراء، دون تحديد وجهة الإستعمال ودون إعداد دراسة الأثر البيئي؟ “، بهذه العبارة يستنكر الدكتور هشام يونس رئيس جمعية الجنوبيون الخضر صدور المرسوم 14620، ويتساءل عن دور وزارة البيئة “صاحبة الصلاحية”. ويحذّر يونس من خطورة صدور هذا المرسوم: ” دون تحديد وجهة الاستعمال ودون إعداد دراسة الأثر البيئي الملزم قانونا، والذي يجب أن يسبق أي نشاط أو مشروع على مقربة من شاطئ المنصوري- القليلة المصنفين، كلاهما في الحقيقة، حمى طبيعية.”
ويلفت يونس إلى أهمية شاطئ المنصوري وامتداده في القليلة. ويستشهد بتقرير رصد الموارد البيئية في لبنان الصادر عن جامعة البلمند في 2012 بالتعاون مع وزارة البيئة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبتمويل من الحكومة اليونانية، والذي صنّف شاطئ المنصوري ضمن أربعة عشر موقعاً بيئياً حساساً ذات أولوية عالية وتتطلب الحماية على الساحل اللبناني. وجاء التقييم بناء على دراسة الأداء البيئي للموقع مرتفعاً في إشارة إلى ثرائه البيولوجي والوظائف التي يؤدّيها ليس محلّياً وحسب بل على الحوض المتوسطي، بخاصة أنّه يوفر ملاذاً لأنواع السلاحف البحريّة المهدّدة والمدرجة ضمن القائمة الحمراء للاتّحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) وهي تباعا السلاحف الخضراء المهدّدة بالإنقراض (Chelonia mydas) والسلاحف ذات الرأس الضخم المعرضة هي الأخرى للانقراض (Caretta caretta)، والتي تؤدي وظائف غاية في الأهمية في حفظ تنوع وتوازن الأنظمة البيئية البحرية والساحلية في جميع محطّات دورة حياتها سواء على الساحل اللبناني أو في عرض البحر.
وفي السياق عينه، يوجز يونس خلاصة المسح الذي أعدّته وزارة البيئة للساحل اللبناني لتقييم مواقع تعشيش السلاحف البحرية على الساحل اللبناني، بدعم من المركز الإقليمي للمناطق المحمية الخاصة (RAC/SPA) والجمعية المتوسطية لإنقاذ السلاحف البحرية، والمنشور عام 2002. والذي أشار الى أهمية عناصر الشاطئ البيئية التي تجعله على امتداد طوله إلى القليلة فصور، موقعاً هاماً لتعشيش السلاحف البحريّة وأبرزها الكثبان الرملية.
كما يلفت يونس إلى النشاط المرتفع والمتميز الذي رصده المسح لهذا الشاطئ عن باقي مواقع التعشيش، علما أن جهود حمايته، كانت ولغاية الآن، تنحصر بالمبادرة الفردية التي أسست لها السيدة منى الخليل ورعت من خلالها الشاطئ بجدية ومثابرة عاليتين طوال الفترة الماضية.
ولم يغفل يونس خطورة الترخيص على الهوية الثقافية والخصوصية للمجتمعات الساحلية والتي يجب النظر إليها أيضا: “هذه الحمى ليست مجرد مواقع طبيعية ذات خصوصيات بيئية وحسب، بل هي جزء من الذاكرة الجماعية وترتبط بالتراث المجتمعي الساحلي، وإن أي ضرر يلحق بها إنما سينسحب على هذه الذاكرة الثقافية ويهددها. إذ أبعد من الأثر البيئي، ثمة آثار اجتماعية يجدر عدم التغاضي عنها وهي تطال بشكل مباشر المجتمعات المحلية الساحلية وحرفها البحرية وتحديداً الصيد الذي تعتاش منه عشرات العائلات من الصرفند حتى الناقورة ويرفد دورتها الاقتصادية بشكل هامّ.”
إحدى أنشطة حماية السلاحف البحرية، شاطئ حمى المنصوري
مخالفات جسيمة تشوب “مرسوم القليلة”
مما تقدم، وبعد التدقيق في مدى قانونية المرسوم، أمكن تسجيل العديد من المخالفات القانونية الجوهرية، والتي تفرض إبطاله.
في مخالفة المرسوم 4810/66:
لئن بني مرسوم القليلة على المرسوم 4810/66، فإنه من البيّن أنه يخالف أحكام هذا الأخير من نواحٍ عدة:
في مخالفة الفقرة الأولى من المادة الأولى لجهة أن يكون المشروع المنوي القيام به ذا صفة عامة وله مبررات سياحية وصناعية
كما سبق بيانه، صدر المرسوم رقم 14620 من دون أن يلحظ وجهة استعماله. إلا أنه البين كما تقدم أنّه انبنى على الطلب الذي قدمته الجهة المستفيدة من الترخيص إلى وزارة الزراعة بإقامة مشروع لاستزراع الأسماك.
وعليه، وبغياب أي مبررات صناعية أو سياحية، يكون المرسوم قد خالف أحكام المادة الأولى، تحديدا الفقرة الأولى من المرسوم 4810 ويكون من غير الجائز منح تراخيص مماثلة لاستزراع الأسماك إلا بعد إقرار قانون يتيح ذلك، وهو ما ينتظر حصوله ربما بعد إقرار اقتراح قانون الصيد المائي وتربية الأحياء المائية في لبنان والذي أشرنا إليه أعلاه.
وما يفاقم هذه المخالفة هو عدم تحديد أي وجهة استعمال في المرسوم.
في مخالفة الفقرة الأولى من المادة الأولى لجهة وجوب الحصول على إفادة من المجلس الأعلى للتنظيم المدني تثبت أهمية المشروع وتمتعه بالصفة العامة:
من البيّن أن المرسوم 4810 يشترط في مادته الأولى، لمنح الترخيص لمشروع أن يصدر المجلس الأعلى للتنظيم المدني إفادة واضحة بكونه ليس فقط مشروعا سياحيا أو صناعيا وذا صفة عامة. وإذ أشار المرسوم ضمن بناءاته إلى كتاب من المديرية العامة للتنظيم المدني، فإن مضمون هذا الكتاب هو إعلان عدم اختصاص المديرية للنظر في الطلب المقدم منه من دون إجراء أي تقييم من أي نوع كان للمشروع.
في مخالفة الفقرة الرابعة من المادة الأولى لجهة وجوب نشوء المشروع وفقا لوجهة استعماله في المناطق المصنفة للسياحة أو للصناعة
فضلا عما تقدّم، يشار إلى أن منطقة ساحل القليلة مصنّفة زراعية وفق المخطط التوجيهي، حسبما أفادنا به كلا من رئيس بلدية القليلة ورئيس جمعية الجنوبيون الخضر. وعليه، فإن منح أي ترخيص بإشغال أملاك عمومية عليها إنما يشكّل مخالفة لأحكام الفقرة الرابعة من المادة الأولى من المرسوم 4810/66 والتي تفرض حصراً أن ينشأ المشروع “وفق وجهة استعماله في المناطق المصنفة للسياحة والفنادق أو للصناعة وذلك حسب تنظيم الشواطئ اللبنانية”، وعليه كما سبق بيانه، لا مجال لإشغال الأملاك البحرية العمومية في مناطق مصنّفة زراعيا.
وبالعودة إلى وثائق التنظيم المدني التي ارتكز عليها المرسوم، تشير الإحالة الصادرة عن مصلحة الدروس في دائرة التصميم بوضوح لا لبس فيه إلى أن “وجهة الإشغال المطلوبة في المنطقة للمشروع المراد إنشاؤه على العقار رقم 923 لا يتوافق مع نظام المنطقة المصدّق”.
مخالفة الفقرة السادسة من المادة الأولى لجهة وجوب أن يكون طالب الترخيص مالكا لعقار متاخم للأملاك البحرية وذلك لوجود عقار يفصل بينه وبين الأملاك البحرية
كما سبق وأشرنا، تكشف الإحالة الصادرة عن مصلحة الدروس في دائرة التصاميم تاريخ 16/3/2022، أن “العقار 923 لا يتاخم الأملاك العامة البحرية” وأن ثمة عقارًا يفصل بينه وبين الأملاك البحرية وهو العقار رقم 805. وهذا الأمر إنما يتعارض بشكل لا لبس فيه مع أحد أبرز شروط تطبيق نظام إشغال الأملاك البحرية ويشكّل بحد ذاته سببًا لإبطال المرسوم، فضلا عما يكشفه من تواطؤ واضح لتمريره خلافا للأنظمة المعمول بها.
مخالفة الفقرة السادسة من المادة الأولى لجهة وجوب أن يكون طالب الترخيص مالكا لعقار متاخم للأملاك البحرية وذلك لكون العقار من نوع العقارات الأميرية
فضلا عن ذلك، يتبدّى من التدقيق في الإفادة العقارية التي استحصلت عليها المفكّرة القانونية، أن العقار 923 هو من العقارات الأميرية كما سبق بيانه. ولئن يرجّح أن يكون هذا المرسوم الأول من نوعه لجهة منح الترخيص بإشغال أملاك بحرية للمنتفع من أرض أميرية، فإنه خلا من أي تعليل يوضح موقف الإدارة من إمكانية تطبيق المرسوم 4810/1966 في هذه الحالة.
والواقع، إن حقّ التصرّف على الأرض الأميرية يخوّل من اكتسبه حق استعمال العقار الأميري والتمتّع والتصرّف به وفق شروط القرار 3339/1930، والانتفاع يجب أن يكون عن طريق زراعة الأرض. وهذا الأمر إنما يشير إلى عدم إمكانية طلب صاحب حق التصرف في عقار أميري الترخيص بإشغال أملاك بحرية طالما أن التراخيص تعطى لمشاريع صناعية وتجارية حصرا، وأنه ليس لهذا الأخير أن يقيم على الأملاك البحرية مشروعا لا يكون امتدادا لمشاريع يجوز له القيام بها على أرضه.
في مخالفة القرار 144/25 الناظم للأملاك العمومية
تجاوز المدّة الأقصى للترخيص
بعدما نصّت المادة الثانية من المرسوم 14620 على أن مدة الترخيص هي سنة، فإنها عادت لتشير إلى تمديد العمل به تلقائيا عند تسديد الرسوم، مما يجعل التمديد آليا ووقفا على إرادة المستفيدة من الترخيص وحدها. ومن هذه الوجهة، يطيح مرسوم الإشغال بمبدأ هشاشة الأملاك العامة البحرية، على نحو يخالف نصّ المادة 17 من القرار 144/s الصادر في 10 حزيران 1925 الناظم للأملاك العمومية، والتي نصّت صراحة على أن تمنح إجازات الإشغال لسنة واحدة، مع إمكانية تجديدها بالرضى الضمني. ومؤدى ذلك نسف لمبدأ هشاشة إشغال الأملاك العمومية.
وما يفاقم ذلك هو تقييد حق الإدارة بإلغاء المرسوم واشتراطه بوجوب إثبات توفّر مصلحة عامة لإلغاء الترخيص، وهو ما يتعارض تماما مع أحكام المادة 18 من القرار 144، التي أجازت للإدارة إلغاء الترخيص متى رأت ذلك مناسبا، بحثا عن الاستخدام الأفضل للملك العام من دون أن يكون عليها أن تسدّد أيّ تعويض من جراء ذلك.
إغفال تحديد الرسوم السنوية
أغفل المرسوم تحديد الرسوم المتوجب دفعها سنويّا، إنما اكتفى بتفويض ذلك إلى لجنة داخل وزارة الأشغال العامّة. حيث جاء في نص المادة الثامنة منه: “على المرخص لهم أن يدفعوا…لبقاء هذا الإشغال بدلا سنويا بناء لتكليف يصدر عن المديرية العامة للنقل البري والبحري بناء للمرسوم 11258 تاريخ 18/4/2023 وتعديلاته.” وهذا الأمر يناقض أحكام المادة 17 من الفصل الثالث من القرار 144 الناظم لإشغال الأملاك العمومية المؤقت، والتي تفرض أن: “يعيّن في القرارات التي تمنح بموجبها الإجازات الرسوم الواجب أداؤها بسبب الإشغال المؤقت.”
كما يتعارض مع الممارسة السائدة لجهة تضمين مرسوم إشغال الأملاك العمومية الرسوم المتوجّبة، بشكل يحفظ مراجعتها وتفعيل الرقابة في حال تعديل معايير احتسابها.
توسيع أطر صلاحية وزير الأشغال
خلافا للمادة 16 من القرار 144، منحت المادة السادسة من هذا المرسوم، وزير الأشغال العامة صلاحيات بالسماح بإقامة إنشاءات جديدة أو تعديل تلك المرخّص بها، بموجب هذا المرسوم والمحددة في الخرائط التي لم تنشر في الجريدة الرسمية.
وما يعزز توسيع صلاحيات وزير الأشغال العامة، هو نص المادة التاسعة الذي جاء بحرفيته: “في حال الترخيص بإقامة إنشاءات على المساحات المرخص بها في هذا المرسوم..”
وهاتان المادتان تطرحان أسئلة عدة وبخاصة في ظل عدم تحديد وجهة استعمال الأملاك العمومية البحرية، وفي ظل حصر الترخيص بمساحة 14560 مترا مربعا (مسطح مائي فقط). فطالما أن المرسوم يشدد على أن السماح هو في استعمال مسطح مائي فقط، فعن أي إنشاءات نتحدث؟ ألا تعني كلمة فقط عدم جواز السماح بأي إنشاءات؟ فهل نشهد مثلا إنشاءات عائمة؟ أم هياكل للمشروع ستنفّذ وسط ماء البحر؟ وألا يخشى أن تفتح هاتان المادتان باب التعسف أمام وزير الإشغال العامة لتجاوز صلاحياته في اتجاه السماح بإنشاءات على اختلافها؟
مخالفات أخرى
خرق مبدأ الشفافية وحق الوصول الى المعلومة
يسجل هنا أن المرسوم صدر من دون أن يرفق به أي أسباب موجبة، بما يخالف المادة 11 من قانون حق الوصول للمعلومات والتي نصّت حرفيا أنه: “على الإدارة أن تعلل القرارات الادارية غير التنظيمية، تحت طائلة الإبطال.. وأن يتضمّن الحيثيات القانونية والواقعية التي تشكّل مرتكز القرار..”. وما يفاقم هذه المخالفة هو أن المرسوم أغفل تماما تحديد الغاية وأن الخرائط والتقارير لم تنشر في الجريدة الرسمية. بمعنى أن غياب الأسباب الموجبة يأتي ليعزز هنا غموض المرسوم ويحرمنا من إمكانية تفسيره على ضوئها.
وفي الواقع، يسجّل تعليل هذا المرسوم أهمية إضافية، في حال ثبوت التكهنات بأننا أمام أول استزراع للصيد البحري في لبنان. إذ في هذه الحالة، تكون الأسباب الموجبة فرصة لاستشراف الشروط الملائمة للترخيص في إقامة مشاريع كهذه ووضع الضوابط بشأنها، بانتظار استكمال دراسة اقتراح القانون المقدم في هذا الشأن والذي سبقت الإشارة إليه. كما التعليل يكون ضروريا على ضوء منح الترخيص لمستأجر عقار أميري لجهة توضيح وجهة نظر الإدارة حول إمكانية منح أصحاب هذه العقارات إمكانية إشغال الأملاك البحرية المحاذية.
يضاف إلى ذلك غياب دراسة الأثر البيئي في منطقة بالغة الحساسية. ولئن بقيت النصوص ملتبسةً لجهة وجوب إتمام دراسة الأثر البيئيّ قبل إصدار مرسوم ترخيص بإشغال أملاك عمومية، فإنّ من المؤكّد أنّ الأمر ملزم قبل القيام بأي إجراء في تنفيذ المشروع.
هذه هي أبرز الأسباب التي توجب إبطال المرسوم في منطقة القليلة. فلنراقب.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.