في الوقت الذي يُتوقّع فيه أن تصدر محكمة ألمانيّة إدارية في برلين قرارًا يلزم الحكومة الألمانية بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وبينما يتحرّك قادة الكيان الإسرائيلي لمنع إصدار مذكرات توقيف من قبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بحقّهم، وبعد أسابيع من صدور قرار عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يدعو فيه الدول إلى وقف بيع الأسلحة لإسرائيل، صدر بالاتجاه المعاكس، في 30 نيسان 2024 قرارٌ لمحكمة العدل الدولية رفضت فيه إصدار أوامر مؤقتة طلبتها نيكاراغوا ضدّ ألمانيا في الدعوى التي تتهمها فيها بالاشتراك في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة. في المقابل، رفضت المحكمة طلب ألمانيا بشطب الدعوى وقررت الاستمرار فيها، ما سيبقي دور ألمانيا في دعم إسرائيل تحت مجهر المحكمة في المستقبل.
وكانت نيكاراغوا قد طلبت من المحكمة إلزام ألمانيا بوقف تصدير المعدات العسكرية والأسلحة الحربية لإسرائيل، واستئناف دعمها وتمويلها للأونروا في ما يتعلّق بأعمالها في غزة، إلا أن المحكمة وجدت أن الظروف في المرحلة الراهنة لا تتطلّب منها ممارسة سلطتها في إصدار هكذا أوامر. صدر قرار المحكمة الذي يترأسها القاضي اللبناني نواف سلام بأغلبية 15 قضاة مقابل اعتراض قاض واحد، وهو القاضي الأردني عون الخصاونة. فكيف وصلت المحكمة إلى هذه النتيجة وماذا كان رأي القاضي المعترض؟
دفاع ألمانيا: تبنِّ للسردية الإسرائيلية
ترافعت نيكاراغوا وألمانيا شفهياً أمام المحكمة في 9 نيسان 2024. واعتبر فريق الإدعاء عن نيكاراغوا في مرافعته التي خصصنا لها مقالًا منفصلًا أنّ لدى شعب وحكومة نيكاراغوا تعاطفًا من نوع خاص مع الشعب الفلسطينيّ، نظرًا لنضال نيكاراغوا ضد التدخّل العسكريّ. واعتبر أنّ سياسية ألمانيا التي ترى أنّ دعمها لإسرائيل يدخل ضمن “مصلحة الدولة العليا” بسبب تاريخ معاملتها لليهود خلال نظام النازية، كان مرحّبًا بها لو أنها كانت تطال الشعب اليهودي، مشدّدًا على عدم جواز الخلط بين دولة إسرائيل والشعب اليهودي. كما أعاب الفريق على ألمانيا أنّها لا تميّز بين الدفاع عن النفس والإبادة الجماعية، مشدداً أنّها تستمر بالدعم العسكري والسياسي والمالي لإسرائيل وعلقت تمويلها للأونروا رغم علمها بوجود أسباب معقولة لارتكاب إسرائيل أعمال الإبادة ومخالفات للقانون الدولي الانساني، وبأهمية دور الأونروا للشعب الفلسطيني. وطلبت نيكاراغوا من المحكمة إصدار أوامر مؤقتة بحق ألمانيا، ومنها إلزام ألمانيا بوقف دعمها العسكري لإسرائيل، واستئناف تمويلها للأونروا إلى حين البتّ في الدعوى.
في المقابل، رفض فريق الدفاع القانوني الألماني في مرافعاته اتهامات نيكاراغوا واصفًا إياها بأنّها أخذت وجهة نظر جانب واحد من النزاع، وفشلت في تقدير الوقائع والقانون. وأكّد أن ألمانيا قد تعلّمت من ماضيها الذي يتضّمن مسؤوليتها عن إحدى أكثر الجرائم المروّعة في التاريخ الإنساني أي الهولوكوست، وهي السبب في وضعها أمن إسرائيل في صلب سياستها الخارجية، في استعادة لخطاب المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل أمام الكنيست في 18/3/2008 والذي قالت فيه أنّ أمن إسرائيل هو مصلحة عليا ألمانيّة (Raison d’Etat)، والذي كرّره المستشار الحالي شولز في 12/10/2023. واعتبرت ألمانيا أنّ عمليّات 7 أكتوبر حصلت داخل “أراضي إسرائيلية” وليس في أراضٍ فلسطينية محتلة كما قالت نيكاراغوا، متسائلة إن كان ذلك يعني رفض حق إسرائيل بالوجود، وهو الأمر الذي لن تتسامح معه ألمانيا باعتبار أنّ المجتمع الدولي أوجد دولة إسرائيل كملاذ آمن للشعب اليهودي.
وكما كان متوقّعًا تبّنت ألمانيا في دفاعها السرديات الإسرائيلية التي تستخدمها لتبرير إبادتها الجماعية، مثل حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها واستخدام حماس “الإرهابية” للمدنيين كدروعٍ بشرية واستغلال حماس للمعاناة الإنسانية. واللافت أن هذا الموقف جاء بعد أيام من إرسال المقررة الخاصة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيزي، تقريرها إلى مجلس حقوق الإنسان تحت عنوان “تشريح الإبادة” ، والذي شرحت فيه كيف شوهت اسرائيل قواعد الحرب بهدف إخفاء نيّة الإبادة من خلال نزع صفة المدنيين عن سكان غزة بشكل جماعي لتبرير قتلهم، ووصفهم إما بالمقاتلين أو المتواطئين مع حماس أو بالدروع البشرية لها، وتصنيف كامل سكان القطاع كهدف عسكري مشروع.
ثم شدّد فريق الدفاع الألماني على أن ألمانيا تساند حقوق الشعب الفلسطيني وقدّمت للفلسطينيين في الأراضي المحتلة مساعدات اقتصادية واجتماعية لعقود، وهي تعترف بحقهم في تقرير مصيرهم ضمن إطار حل الدولتين. وأكّد أنّ ألمانيا تصدّر الأسلحة لإسرائيل على أساس تدقيق مفصّل يحترم متطلبات القانون الدوليّ، بل يتجاوزها بكثير، ويخضع لتقييم على الأرض، كما أنه يأخذ في الاعتبار التهديدات الأمنية التي تواجهها إسرائيل خاصة بعد 7 أكتوبر. وأكّد أن المسؤولين في السياسة الخارجية الألمانية يعملون على تحقيق التوازن بين حماية أمن إسرائيل ودعم حقوق الفلسطينيين في ظل ظروف صعبة وصراع مع معضلات سياسية وأخلاقية وقانونية تفرضها الحالة في غزة. وأضاف الفريق أنّ هناك فرق في رخص التصدير بين “أسلحة الحرب” و”المعدات الحربية الأخرى” وأنّ ألمانيا تعتمد نظامًا قانونيًا صارمًا يفرض إجراء تقييم قبل الترخيص بإصدار الأسلحة ويضمن امتثالها للقانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية. كما عرض أرقامًا مخالفة للأرقام التي عرضتها نيكاراغوا حول عدد التراخيص وقيمة الصادرات من الأسلحة والمعدات الحربية من ألمانيا إلى إسرائيل.
المحكمة لا ترى ضرورة للأوامر
بعد ثلاثة أسابيع من استماعها لمرافعات الفريقين، أصدرت المحكمة قرارها في 30 نيسان برفض طلبات نيكاراغوا لإصدار أوامر مؤقتة بحق ألمانيا. لم يتضمّن قرار المحكمة تحليلاً قانونياً للشروط المطلوبة من أجل إصدار أوامرها المؤقتة (وجود حالة عجلة تستوجب تدخل المحكمة لمنع تعرّض حقوق الفلسطينيين إلى ضرر غير قابل للإصلاح). فجاء قرارها مرتكزاً بشكل كامل على أخذها العلم بتصريحات فريق الدفاع الألماني (الفقرات 16 إلى 20 من القرار).
وارتكزت المحكمة في قرارها على دفاع الفريق الألماني الذي بُني على حجّة أساسية مفادها أنّ موجب الدول التي تزوّد أسلحة لمنطقة تشهد نزاعًا مسلحًّا، يقتصر على إجراء تقييم مخاطر حول إمكانية استخدام هذه الأسلحة في ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي. وأشارت المحكمة أنّ لألمانيا التزامات دولية تفرض عليها معايير ترخيص صارمة لتقييم ما إذا كان هناك أي خطر بوقوع انتهاكات خطيرة من قبل الدولة المستورِدة لاتفاقية الإبادة الجماعية والقانون الدوليّ الإنسانيّ وغيرها من قواعد القانون الدولي. ووفقًا لألمانيا، فإنه لا يوجد أي دليل على أن تزويدها إسرائيل بالمعدات العسكرية قد ساهم في ارتكاب الإبادة الجماعية المزعومة أو في انتهاك القانون الدولي الإنساني.
كما استندت المحكمة في قرارها إلى حجج أخرى قدمتها ألمانيا، منها أن النظام القانوني لتصنيع وتسويق وتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية، يفصل بين فئتين من التكنولوجيا والمعدات العسكرية الخاضعة للترخيص، وهي “أسلحة الحرب” و”المعدّات العسكرية الأخرى”. فالأولى تتضمن الطائرات الحربية والدبابات والأسلحة الآلية وتتطلّب ترخيصًا مزدوجًا بحيث يتم التدقيق فيما إذا كانت ستستخدم في انتهاكات للقوانين الدولية، أمّا الثانية فتتضمّن معدّات دفاعية ضدّ المخاطر الكيميائية والخوذ والبدلات الحمائية بالإضافة لمعدّات الاتصال، التي تتطلّب ترخيصًا واحدًا فقط.
واستندت المحكمة إلى تصريح ألمانيا بأنّ قيمة المعدات التي منحت التراخيص لتصديرها إلى إسرائيل قد انخفضت من 200 مليون يورو في تشرين الأول 2023 إلى 24 مليون يورو في تشرين الثاني 2023 وإلى مليون يورو تقريبًا في آذار 2024. وأضافت أنّه منذ 7 تشرين الأول 2023 أعطت ألمانيا 4 رخص فقط لتصدير أسلحة حرب لإسرائيل، وبأنّ الأخيرة طلبت من الحكومة الألمانية ذخائر للدبابات في العام 2023 وبقي هذا الطلب بدون جواب من الجانب الألماني الذي علّق أيضًا الرخص لتصدير الغواصات إلى إسرائيل. كما استندت المحكمة إلى تصريح الفريق الألماني الذي قال أنّ 98% من الرخّص الممنوحة منذ 7 تشرين الأول 2023 تتناول معدّات حربية أخرى، وليس أسلحة حرب.
وفي ما يتعلّق بمسألة تمويل الأونروا، أشارت المحكمة إلى أن المساهمة في الأونروا هي طوعيّة بطبيعتها، وبحسب البيانات التي زودت بها ألمانيا المحكمة، فإنّه لم يكن هناك أي مبالغ مستحقة جديدة من قبل ألمانيا لمصلحة الوكالة في الأسابيع التي تلت إعلان تعليق التمويل. وأضافت المحكمة أن ألمانيا قد ذكرت بأنها دعمت المبادرات الهادفة لتمويل نشاط الوكالة، تحديدًا من خلال دفع 50 مليون يورو من قبل الاتحاد الأوروبي للأونروا في أول آذار 2024، بالإضافة إلى تقديم المساعدة المالية والمادية لمنظمات أخرى تعمل في قطاع غزة.
بناء على هذه المعطيات، وعلى هذا العرض لمرافعات الفريقين، صدر قرار المحكمة بإجماع 15 قاضيًا ومعارضة وحيدة للقاضي الإضافي الأردني عون الخصاونة الذي عيّنته نيكاراغوا لعدم وجود قاضٍ من جنسيتها في هيئة المحكمة. واستنتجت المحكمة في قرارها أنّ الظروف في المرحلة الراهنة لا تتطلّب ممارسة المحكمة لسلطتها في إصدار أوامر مؤقتة، فرفضت طلبات نيكاراغوا المتمثلة بإلزام ألمانيا بوقف تصدير وترخيص تصدير المعدات العسكرية والأسلحة الحربية لإسرائيل، واستئناف دعمها وتمويلها للأونروا في ما يتعلّق بأعمالها في غزة.
وإن كانت المحكمة في قرارها هذا لم تستجب لطلبات نيكاراغوا، ولم تصدر قرارًا بإلزام ألمانيا بوقف تصدير السلاح لإسرائيل، إلّا أنّ هناك مؤشّرات هامة يمكن استخلاصها من مسار القضية، وتساعد استثارتها في تثبيت الجرائم الإسرائيلية، ومنها إقرار ألمانيا بأنها أوقفت تصدير أنواع من أسلحة الحرب لإسرائيل، كما خفّضت بشكل ملحوظ حجم صادراتها من الأسلحة إليها، وذلك بعد إجراء تقييم حول إمكانية استخدام هذه الأسلحة من قبل إسرائيل في انتهاكات للقوانين الدولية، ما يوفّر دليلاً قضائيا على ارتكاب إسرائيل جرائم الإبادة ضد الفلسطينيين.
الدعوى مستمرة وعلى جميع الدول موجب بعدم المشاركة في الإبادة
بالمقابل لم تستجب المحكمة إلى الطلب الألماني الرامي إلى شطب الدعوى بناءً على انعدام الاختصاص الواضح، معتبرةً أنّ هذه الحالة غير متوفرة في هذه الدعوى. وعليه ستستمر المحكمة للنظر في أساس الدعوى في المرحلة اللاحقة، لتبيّن ما إذا كانت ألمانيا شريكة في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، وهو ما يؤدي إلى إبقاء ألمانيا ودورها في دعم إسرائيل تحت مجهر المحكمة. وهذا ما يفتح المجال لتقديم طلبات أخرى بإصدار هكذا نوع من الأوامر في حال توفرت ظروف جديدة في القضية أو في حال أثارت نيكاراغوا أسباب قانونية أخرى تبرر إصدار هذه الأوامر.
وبالرغم من عدم إصدارها لأية أوامر، إلّا أنّ المحكمة عبّرت عن قلقها البالغ تجاه الأوضاع الإنسانية الكارثية للفلسطينيين في غزة، بالتحديد الانتشار المتزايد للحرمان من الطعام والحاجيات الأساسية التي كانت موضوع قرارها بتاريخ 28 آذار 2024 في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل. كما أعادت التذكير بقرارها التي أصدرته في 26 كانون الثاني 2024 في تلك الدعوى والذي أشارت فيه إلى أن العمليات العسكرية الإسرائيلية خلّفت عددًا كبيرًا من الضحايا ودمارًا هائلًا في المنازل وتهجيرًا لمعظم السكان وتدميرًا للبنى التحتية المدنية. وأكّدت المحكمة إلى أنّه بموجب المادة الأولى من اتفاقيات جنيف، فإن جميع الدول الأطراف يقع عليهم التزام باحترام وضمان احترام الاتفاقيات في جميع الظروف، وكذلك احترام التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، والتي تفرض عليها منع الإبادة الجماعية. كما ذكّرت المحكمة في خاتمة قرارها جميع الدول بالتزاماتها الدولية المتعلقة بنقل الأسلحة لأطراف مشاركة في نزاعات مسلحة، وذلك من أجل تفادي خطر استخدام هذه الأسلحة لانتهاك الاتفاقيات المذكورة، مؤكّدة أن هذه الموجبات تُلزم ألمانيا بصفتها طرفًا فيها.
” ما من أحدٍ أشدّ عمى من أولئك الذين لا يريدون أن يبصروا”
في رأيه المخالف، استوحى القاضي عون الخصاونة الاقتباس أعلاه من سفر ارميا من العهد القديم، ليقول بأن قرار المحكمة هو وثيقة غير مألوفة، إذ إنّ ما لم يتضمّنه بارزٌ أكثر مما تضمّنه، واصفًا إياه بأنّه يفتقر إلى أسس منطقية متينة ويشكل انحرافًا عن قرارات سابقة للمحكمة في قضايا مماثلة. وانتقد القاضي المحكمة التي لم تبيّن ما هو الأساس القانونيّ لرفض طلبات نيكاراغوا، ولم تناقش ماهية المتطلّبات التي يجب توفّرُها لإصدار أوامر مؤقتة ولم تحقّقها نيكاراغوا في طلباتها. ووجد الخصاونة أن دعوة المحكمة الدول بالتزاماتها بشأن نقل الأسلحة إلى “أطراف النزاع المسلّح” تشبه خطابًا سياسيًّا يسعى للوصول إلى تسوية.
وتابع انتقاده اللاذع لقرار المحكمة معتبرًأ أن القضية الحالية في مرحلتها الراهنة تطلّب إصدار أوامر مؤقتة نظرًا لتوفّر حالة العجلة، وبأن المحكمة تعاملت مع مفهوم “المعدات العسكرية الأخرى” باعتبارها تتعلق حصرا بالمعدات غير الفتاكة. وهو ما وجده الخصاونة تبسيطًا مبالغًا فيه وتعاملت معه المحكمة بإيجاز، في حين أنّ ألمانيا أرسلت 3,000 سلاحًا مضادًا للدبابات إلى إسرائيل بعد 7 تشرين الأول 2023، وهي أسلحة تستخدم في الحروب الأهلية لتدمير البيوت والأبنية بمن في داخلها، وقد ثبت استخدامها في غزة من دون تمييز. كما لفت إلى أن ألمانيا سمحت باستخدام إسرائيل للمسيّرات الموجودة لديها والتي ثبت استهدافها للمدنيين في غزة، وهي أمور لم تلتفت إليها المحكمة.
وتوّقف خصاونة أمام حجة لمانيا بأنّه لا يمكن اتخاذ قرارات ضدّها قبل إعطاء الوصف القانونيّ لسلوك إسرائيل استناداً لمبدأ “الذهب النقدي”، وهو مبدأ إجرائيّ تمتنع المحاكم الدولية بموجبه عن الفصل في الدعاوى المقدمة أمامها عندما يكون هنالك طرف ثالث غائب لا غنى عنه وتتأثر مصالحه بشكل جوهري بالقرار الذي سيصدر عن المحكمة. وأكّد القاضي أن المحكمة قد سبق لها أن وصفت هذا السلوك في قرارها في 26 كانون الثاني بإصدار أوامر مؤقتة ضد إسرائيل في الدعوى التي قدمتها ضدها جنوب أفريقيا، حيث وصفت أعمال إسرائيل بأنها تشكّل أساسًا معقول للقول بوجود إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة، وأنّه لا داعي لمناقشته مرة أخرى في هذه الدعوى، مشدداً أنّ مبدأ “الذهب النقدي” لا يمكن تطبيقه إلا في حالات استثنائية ومحدّدة لا تنطبق في هذه الدعوى.
ومن الناحية الإجرائية، أعرب القاضي عن شكوكه الجسيمة بشأن الطريقة التي تعاملت بها المحكمة مع طلب نيكاراغوا، مشيرًا إلى أن مدة المرافعة البالغة ساعتين لا تكفي لتحقيق العدالة. وفي هذه القضية، لم تردّ ألمانيا خطيًّا على طلب نيكاراغوا الخطّي، وبالتالي لم تتح فرصة للأخيرة لمعرفة ما يمكن توقّعه في المرافعات الشفهية. وبما أنّ ألمانيا كانت آخر من تكلّم، فلم تتح لنيكاراغوا إمكانية الرد على طلبات ألمانيا المقابلة، ما اعتبره عيبًا إجرائيًّا خطيرًا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ قضاةً آخرون من قضاة المحكمة قد قدّموا آراءً مستقلة ولكن غير متعارضة مع قرار المحكمة، وهم القضاة كليفلاند (الولايات المتحدة الأميركية) وتلادي (جنوب أفريقيا) وسابوتندي (أوغاندا) وإيواساو (اليابان).
خلاصة
رغم أنّ الدعوى لا تزال مستمرة بحق ألمانيا التي أقرّت بوقف تصديرها لأنواع من الأسلحة العسكرية إلى إسرائيل لإمكانية إستخدامها في انتهاكات لقانون الدولي، إلا أنّ قرار المحكمة يثير مخاوف من استغلاله ضدّ الفلسطينيين والداعمين لهم في ألمانيا وحول العالم، ومن مدى تأثيره على الدعاوى التي تهدف إلى وقف تسليح إسرائيل التي قدّمت أمام المحاكم الوطنية في العديد من الدول، ومنها ألمانيا وكندا والدانمارك والمملكة المتحدة وهولندا. وتتضاعف هذه المخاوف في ظل الردّة القمعية والقيود الصارمة التي تمارسها حكومات دول الشمال السياسي على الحراك الداعم لفلسطين والفلسطينيين والأصوات الداعية لوقف الإبادة سواء في الجامعات أو في غيرها من المحافل.