نيكاراغوا تقاضي ألمانيا لدعمها حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيّين


2024-03-03    |   

نيكاراغوا تقاضي ألمانيا لدعمها حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيّين
محكمة العدل الدولية

مرّة أخرى، يبادر الجنوب السياسي إلى مساندة الشعب الفلسطينيّ قضائيا بهدف وقف الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها في غزة. جاء التحرّك هذه المرة من أميركا الوسطى، وتحديدا من نيكاراغوا، التي قدّمت دعوى أمام محكمة العدل الدولية في تاريخ 1/3/2024. واللافت أنها لم تداعِ إسرائيل على غرار ما فعلته جنوب أفريقيا، بل ألمانيا. وأن الانتهاكات التي عزتْها إلى هذه الأخيرة لم تنحصر بخرق ألمانيا التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (وهو الأمر الذي طالبت به جنوب أفريقيا في دعواها ضدّ إسرائيل)، بل شملت أيضا انتهاكها التزاماتها بموجب اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وغيرها من الاتفاقيات وقواعد قواعد القوانين الدولية المتعلّقة بالحق في تقرير المصير والأبارتايد. كما طلبت نيكاراغوا من المحكمة إصدار أوامر عاجلة قبل البتّ بالدعوى، من ضمنها إلزام ألمانيا بوقف المساعدات العسكرية لإسرائيل فوراً. ومن المتوقّع أن تُعيّن المحكمة موعد جلسة قريبة لسماع مرافعات الدّولتين تمهيدًا لبتّ هذه الطلبات المستعجلة، فيما ينتظر أن يستغرق بتّ الدعوى سنوات. 

ويلحظ أنّ نيكاراغوا قدّمت دعواها بعد أيّام من استجابة إسرائيل لأمر المحكمة بإيداعها تقريرا حول مدى التزامها بالتدابير العاجلة التي أمرتها بها في دعوى جنوب أفريقيا، علمًا أن التقرير يبقى سرّيًّا لغاية الآن بقرار من المحكمة. وقد اعتبرت نيكاراغوا في وثيقة الدعوى أنّ أوامر محكمة العدل لم تثنِ إسرائيل عن مواصلة ارتكاب أعمالها الإبادية بحقّ الفلسطينيين في غزة، ولم تردعها عن مواصلة محاصرتهم ومنع وصول المواد الغذائية إليهم، حتى بات جزء كبير منهم على شفير المجاعة. وتكتسي مقاضاة ألمانيا رمزية بالنظر إلى تاريخها الحديث، وبخاصة في ظل الحقبة النازية وما شابها من إبادات بحق اليهود وغيرهم من الشعوب أو الفئات التي “تهدد العرق الآري”, يضاف إلى ذلك اشتراكها في أول الإبادات الموثقة خلال القرن العشرين وهي الإبادة المرتكبة بحقّ الشعوب الأصلية (الهيريرو والهيمبا) في ناميبيا.

كما تجدر الإشارة إلى أنه تمّ تقديم هذه الدعوى بعد أيام من اختتام المرافعات أمام المحكمة نفسها في قضية طلب رأيها الاستشاري بشأن الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ للأراضي الفلسطينية وانتهاكه لحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، حيث برز شبه إجماع في موقف دول الجنوب حول عدم قانونية الاحتلال وانتهاكات إسرائيل المتعددة للقانون الدولي. وفيما لم تشترك نيكاراغوا في هذه المرافعات، فإنها تلتحق بفعل هذه الدعوى بالحراك القضائي الدولي الداعم لفلسطين في مواجهة حرب الإبادة والاحتلال. وإذ تتوجّه هذه الدعوى حصرًا ضدّ ألمانيا، إلا أنّها بمثابة إنذار لجميع الدول الداعمة لإسرائيل بالسياسة والمال والسلاح، بحيث سيشكّل أيّ قرار يصدر فيها سنداً لمقاضاة هذه الدول ليس أمام القضاء الدولي فحسب بل أمام المحاكم الوطنية أيضاً. وهذا ما سبق أن حصل فعلاً في هولندا حيث أصدرت مؤخراً محكمة استئناف في لاهاي قراراً يلزم الدولة الهولندية بوقف تصدير قطع غيار لطائرات F35 الحربية إلى إسرائيل على خلفية استخدامها لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.

وقبل المضيّ في عرض هذه الدعوى، يجدر لفت النظر إلى أنه بخلاف جنوب أفريقيا التي تتمتع بوزن معنوي كبير على الصعيد الدولي تبعا لنجاح شعبها في تقويض نظام الفصل العنصري، فإن نيكاراغوا تتعرّض حاليّا لانتقادات أممية في مجلس حقوق الإنسان وصلت قبل يوم واحد من تقديم الدعوى إلى إصدار تقرير حمّل المسؤولين فيها، من ضمنهم الرئيس أورتيغا ونائب الرئيس موريلو، بارتكاب انتهاكات ممنهجة وخطيرة لحقوق الإنسان، قد ترقى إلى جرائم ضدّ الإنسانية، بحقّ المعارضين لهم، بما فيها طردهم من البلاد وتجريدهم من الحق بالجنسية. ويرجّح أن تستخدم ألمانيا هذه الواقعة في مرافعاتها للتشكيك في أحقية الدعوى والهدف الحقيقي منها.  

الدعم السياسي والعسكري والمالي لإسرائيل: اشتراك في الإبادة 

في نصّ الدعوى المؤلف من 40 صفحة، اعتبرتْ نيكاراغوا أنّ ألمانيا لم تفشل في الالتزام بواجباتها بمنع الإبادة الجماعية التي ترتكب بحق الفلسطينين فحسب، بل ساهمت أيضًا في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وانتهاك اتفاقية الإبادة، وذلك من خلال الدعم السياسي والعسكري والمالي لإسرائيل. وادّعت أنّ المعدات العسكرية التي قدمتها ألمانيا لإسرائيل، وإمداد خطوطها الأمامية ومستودعاتها بالذخيرة والتكنولوجيا الضرورية للجيش الإسرائيلي، وضمان الإمدادات المستقبلية، مكّنتها من ارتكاب أعمال إبادة جماعية وغيرها من الفظائع بحق الفلسطينيين، مع إدراك ألمانيا لإمكانية استخدام إسرائيل هذه الأعتدة والمعدات لانتهاك القانون الدولي.

ومن المعلوم أن ألمانيا تعتبر من أكبر مورّدي الأسلحة والمعدّات العسكرية إلى إسرائيل. إذ تشير التقارير إلى احتلالها المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأميركية بين قائمة الدول التي تزوّد إسرائيل بالأسلحة والمعدّات العسكرية. وهذا ما تناولته الدعوى التي أشارت إلى أنّه بحلول بداية تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2023، ارتفعتْ موافقات التصدير الدفاعية الألمانية إلى إسرائيل بمقدار عشرة أضعاف تقريباً مقارنة بالعام السابق، حيث وصلت إلى قيمة 303 مليون يورو من معدّات الدفاع. وأنّ هذا الدعم استمر في 2024 رغم كل التقارير الأممية والإعلامية حول ارتكابات إسرائيل الإبادية ورغم قرار المحكمة الجنائية الدولية في 26/1/2024 الذي أقرّ بخطر وقوع إبادة جماعية بحق الفلسطينيين. واستندتْ الدعوى في ذلك إلى معلوماتٍ قدّمتها الحكومة الألمانية، تفيد أنّ تراخيص التصدير الممنوحة في الفترة ما بين كانون الثاني/يناير 2024 و15 شباط/فبراير 2024 تتعلق بمعدّات عسكرية بحوالي تسعة ملايين يورو.

وأشارت الدعوى إلى أنّه بينما كانت إسرائيل تقتل الفلسطينيين في غزة وتدمر المستشفيات والبنى التحتية لجعل غزة مكانا غير قابل للحياة، كان المستشار الألماني يعبّر عن دعمه الكامل للعملية العسكرية الإسرائيلية، وكانت وزارة الخارجية تعلن أنها تقف بحزم إلى جانب أصدقائها الإسرائيليين، وأنّ أمن إسرائيل هو مصلحة ألمانيّة عليا، وكل ذلك بالتزامن مع الترخيص بتسليم إسرائيل مسيّرات من طراز هيرون لتستخدمها بالفعل في غزة.

قطع التمويل عن الأونروا: اشتراك في الإبادة

سببٌ آخر لا يقلّ أهميّة استندت إليه نيكاراغوا، وأفردت له صفحات طويلة من دعواها لمقاضاة ألمانيا، وهو قطع الأخيرة تمويلها عن الأونروا. وكانت مجموعة من الدول من بينها ألمانيا والولايات المتحدة قد أعلنت عن وقف تمويلها للأونروا في نفس يوم صدور قرار محكمة العدل بالتدابير العاجلة العاجلة في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، بناء على مزاعم إسرائيلية عن مشاركة 12 شخصاً من موظفي الأونروا في أحداث 7 أكتوبر. وقد اعتبرت نيكاراغوا أنّ وقف ألمانيا تمويل الأونروا في ظل الظروف الحالية قد يرتّب على الفلسطينيين “عواقب مميتة”، ولا سيما بالنسبة إلى سكان غزة الذين يتعرّضون للمجاعة، وأنّ ألمانيا تدرك جيدًا هذه العواقب. كما جاء في الدعوى أن الأونروا التي يعتمد عليها مليونا لاجئ لا يمكن استبدالها في هذا الوقت بأيّ هيئة أخرى. وهو ما أشار إليه الأمين العام للأمم المتحدة. واعتبرت نيكاراغوا أنّ هذا التصرّف من قبل ألمانيا يعتبر عقابًا جماعيًّا ضدّ الفلسطينيين، وضوءًا أخضر لإسرائيل للاستمرار في ارتكابها جرائمها الإبادية.

مطالب نيكاراغوا من المحكمة

طلبت نيكاراغوا من المحكمة إعلان أن ألمانيا من خلال دعمها العسكري والمالي والسياسي لإسرائيل، وقطعها التمويل عن الأونروا، قد خرقت وما زالت تخرق التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة واتفاقيات جنيف الأربع والقانون الدولي الإنساني، وأنها فشلت في منع الإبادة وساهمت في جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بالإضافة إلى خرق الأعراف القانونية الدولية من خلال انتهاك حق الفلسطينيين بتقرير مصيرهم، والامتناع عن محاكمة ومعاقبة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم بما فيها جريمة الأبارتايد. وطلبت نيكاراغوا من المحكمة إلزام ألمانيا بالالتزام بواجباتها الدولية وإعطاء ضمانات بعدم تكرار هذه الانتهاكات، والتعويض عن الأضرار التي تسبّبت بها أفعالها. 

وعلى غرار مجريات دعوى جنوب أفريقيا، طلبت نيكاراغوا من المحكمة اتخاذ تدابير عاجلة قبل النظر في أساس الدعوى، وتحديدا التدابير الآتية:

أولاً: إلزام ألمانيا بوقف مساعداتها العسكرية لإسرائيل فورًا، بما في ذلك تزويدها بالمعدات العسكرية، طالما أن هذه المساعدة تُُستغلّ لانتهاك المعاهدات والقوانين الدولية المذكورة وحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وفي أن لا يعيشوا تحت نظام أبارتايد. 

ثانيًا: إلزام ألمانيا ببذل جهود فورية لضمان عدم استخدام الأسلحة التي سبق أن أرسلتها لإسرائيل في ارتكاب الإبادة أو أي من أفعالها. 

ثالثًا: إلزام ألمانيا بكل ما يلزم للامتثال إلى موجباتها تحت القانون الدولي الإنساني. 

رابعًا: إلزام ألمانيا بالعدول عن قرارها بتعليق تمويل الأونروا كجزء من امتثالها لالتزاماتها بمنع الإبادة الجماعية وأعمال الإبادة الجماعية وانتهاك الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني، والتي تتضمن أيضًا الالتزام ببذل كل ما هو ممكن لضمان وصول المساعدات الإنسانية، وخاصة في غزة.

خامسًا: إلزام ألمانيا بالتعاون من أجل وضع حدّ للانتهاكات الجسيمة للقواعد الآمرة للقانون الدولي من خلال وقف دعمها العسكري لإسرائيل، بما في ذلك إمدادها بالمعدات العسكرية، التي يمكن استخدامها لارتكاب جرائم خطيرة بموجب القانون الدولي، ومن خلال العدول عن قرارها بتعليق تمويل الأونروا. 

خلاصة: 

من شأن هذه الدعوى، كما غيرها من الدعاوى التي تهدف إلى محاسبة إسرائيل وحلفائها بعد عقود من إفلاتهم من العقاب أمام المحكمة الدولية أو المحاكم الوطنية، وما يرشح عنها من أحكام ومرافعات متبادلة، أن تشكل توثيقاً قضائياً لإثبات جرائم إسرائيل وسلسلة مترابطة تدعم أي مبادرة مستقبلية، سواء كانت محلية أو دولية، لنصرة الفلسطينيين أو أيّ جماعة مضطهدة ومظلومة حول العالم. وبصرف النظر عن الردّ الألماني المرتقب على الدعوى، وعما سيدور في مرافعات الدولتين الشفهية المرتقبة قبل البتّ بالتدابير العاجلة، وعما سيؤول إليه قرار المحكمة في نهاية المطاف، يبقى هذا الزخم بالغ الأهمية في مواجهة إسرائيل والدول الداعمة للإبادة التي، وإن نجحت في الإفلات من العقاب في الماضي وقد تفلت منه الآن، إلا أنها لم تعد قادرة على أن تمارس ارتكاباتها في ظلّ صمت دولي ومن دون ملاحقة. يؤمل أن يعيد هذا الزخم شيئاًً من التوازن في العلاقات الدولية، وبخاصة بين دول الشمال السياسي والجنوب.  

نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لتحميل الملف بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني