"قررت الوزارة انشاء نظام رصد المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي من خلال عمليات البحث الموسعة عبر الشبكات المختلفة عن كل ما هو من شأنه مخالفة القانون وبث أفكار هدامة تساعد على اشاعة الفوضى ونشر الفتن والافساد في المجتمع من خلال ركائز أساسية لاستراتيجية متكاملة يمكن من خلالها التصدي لهذا الخطر الذي يهدد أمن الوطن ويزعزع استقرار الأسر والأبناء". هكذا عبرت وزارة الداخلية عن نيتها مراقبة "جميع" مواقع التواصل الاجتماعي معلنة عن بداية عصر جديد من "أزهى العصور الديمقراطية". فقد نشرت جريدة الوطن[1] كراسة الشروط التي طرحتها الوزارة لمناقصة انشاء مشروع رصد المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي، وذلك دون أن تعطي وزارة الداخلية أى اعتبار للقانون ولا للدستور. فلم تر الوزارة انها بحاجة الى عرض الفكرة على البرلمان لاصدار قانون ينظم ذلك، ولا عرض مشروعها على الحوار المجتمعي، ولا أن تبرر لمستخدمين هذه البرامج لما هم عرضة لاختراق حرماتهم وخصوصياتهم. لم تشعر وزارة الداخلية بانها بحاجة أن تمر بهذه المنظومة، ففي النهاية هى تقوم بحماية الأمن القومي. ولكن هل الأمر يقتصر كما أعلنت وزارة الداخلية على حماية الأمن القومي وملاحقة الجرائم الالكترونية وجرائم الارهاب؟ أم يتعدى الأمر ذلك لينتهك حقوق المواطن في التعبير وفي حرمة مراسلاته؟
الرقابة الالكترونية: ملاحقة دون أى سند قانوني
عند قراءة المقدمة التي صاغتها الوزارة لتبرير قرارها بفرض الرقابة الالكترونية، نلاحظ أن الموضوع لا يقتصر فقط على جرائم الارهاب، ولكنه يتعدى ذلك ليشمل "الحشد للتظاهر والاعتصام"، "الاضراب غير القانوني"، "التمرد"، "الدعوة الى الخروج على الثوابت المجتمعية"، "السخرية المهينة واللاذعة"، "القذف والسب"…الخ. وعند قراءة هذه العبارات نجد انها عبارات مطاطة، فما هى، على سبيل المثال" الثوابت المجتمعية" حتى تستطيع الوزارة تقرير ما هو الخروج عليها ومراقبة من يدعو الى ذلك؟ وتتكرر العبارات المطاطية في كراسة الشروط فنجد على سبيل المثال كذلك "الأفكار الهدامة"، "مخالفة للآداب العامة"، "خارجة عن نطاق العرف والروابط المجتمعية"…الخ
بالاضافة الى ذلك، فان اللغة المستخدمة تعبر عن اصدار أحكام مسبقة من وزارة الداخلية، فالوزارة تقوم بذكر "سلبيات" مواقع التواصل الاجتماعي وكأنها تشكل بحد ذاتها جرائم يجب التصدي لها. والسؤال الذي يطرح تبعا لذلك يتصل بأمرين: فاذا كان الفعل مجرما طبقا لقانون العقوبات مثل السب والقذف، فما المشكلة بملاحقته طبقا لقانون الاجراءات الجنائية؟ أما اذا كان الفعل غير مجرم طبقا للقانون، فعلى أى أساس تقوم وزارة الداخلية برصده وملاحقته؟
ماهية نظام المراقبة: لا حرمة بعد اليوم للمراسلات الشخصية ولا لحرية التعبير
نصت المادة 57 من الدستور المصري على ما يلي:"للحياة الخاصة حرمة، وهى مصونة لا تمس. وللمراسلات البريدية، والبرقية، والالكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها الا بأمر قضائي مسبب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون."
لم تحترم وزارة الداخلية هذا النص في نيتها فرض الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي. فالنظام، كما تشترط الوزارة، يفترض أن يوفر لها الارتباط بالتويتر، فيس بوك، يوتيوب، انستجرام، لينكد ان، جوجل، فايبر، واتس آب…الخ، وهو الأمر الذي يضرب بعرض الحائط بالمباديء الدستورية المنصوص عليها في المادة أعلاه. فهذه المواقع تحتوي على معلومات شخصية للمستخدمين، ومراسلات شخصية كذلك، فعلى أى أساس تقوم الوزارة بالاطلاع عليها دون أذن قضائي؟
وفي التفاصيل الفنية المرجوة من البرنامج، نستشف أن وزارة الداخلية تنوي مراقبة الموضوعات الأكثر شيوعا على المواقع المختلفة، معرفة رواد المناقشات على هذه المواقع، التعرف على الأشخاص المؤثرين في هذه الموضوعات، كذلك عرض أكثر الروابط مشاركة أو ارسالا، وأهم الرسائل. وهو الأمر الذي يعكس أن الوزارة لن تستخدم البرنامج فقط لملاحقة الجرائم، فهى تنوي رصد الرأى العام بل والتأثير فيه وتحريكه، فتطلب الوزارة أن يوفر البرنامج "امكانية نشر المحتوى (سواء كان نصا أو صورة أو مقطع فيديو، أو مقطعا صوتيا) بشكل متزامن على أكثر من شبكة من شبكات التواصل الاجتماعي".
وما يؤكد أن الوزارة لا تنوي استخدام النظام لرصد جرائم الارهاب فقط، هو نيتها تتبع مقالات الكتاب، بالاضافة الى مطالبتها أن "يوفر النظام امكانية مشاهدة جميع ما ينشر على حسابات المستخدمين في الشبكات الاجتماعية على شكل تايم لاين" وهذا الأمر يؤكد أن التدبير يتعدى كونه تدبيرا لملاحقة الجرائم، ليشكل أداة لمراقبة جميع مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في مصر، ومتابعة آرائهم السياسية وغير السياسية. وتبعا لذلك، يصبح جميع مستخدمي المواقع موضع شبهة الى أن يثبت العكس، في نظر الوزارة.
الخلاصة
تفاصيل هذه المناقصة توضح أن الأمر يتعدى الحفاظ على الأمن القومي أو مكافحة الجرائم الارهابية وجرائم المعلوماتية، ليشمل المراقبة الكاملة لحسابات مستخدمي هذه المواقع. وهو الأمر الذي ينتهك حقوق المواطن المنصوص عليها في الدستور وفي قانون الاجراءات الجنائية. فاذا كانت وزارة الداخلية تحتاج الى وسائل متطورة، واجراءات غير المنصوص عليها حاليا للتصدي للجرائم الارهابية، فعليها الانتظار الى حين انتخاب مجلس نواب جديد يناقش تعديل قانون الاجراءات الجنائية لاضافة باب خاص بهذه الجرائم.
ولكن عدم اتباع الوزارة لهذا الشرط، وشعورها انها ليست بحاجة الى قانون ينظم القيام بمثل تلك المراقبة يعد مؤشرا خطيرا على رجوع وزارة الداخلية الى سابق عهدها من انتهاك لحقوق وحريات المواطنين، وانذارا بانتهاكات أشد.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.