
في الأسبوع الذي لحق الانتخابات النيابية، أصدرت النيابة العامة في بعبدا قرارا بتوقيف طبيب شرعي أ. م. وأحالته إلى قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان على خلفية أدلة قوية على قيامه بتنظيم تقارير طبية مزورة. واتصلت هذه التقارير المشكوك بصحتها بأحد الموقوفين النافذين وذهبت إلى التأكيد بأن وضعه الصحي خطير ويستدعي العلاج. وعلى أساس هذه التقارير، تمّ نقل الموقوف من السجن إلى المستشفى، وانتهى القاضي المختص إلى إصدار قرار بإخلاء سبيله. وتبعا لاعتراض الجهة المدعية على هذا الأخير "المخلى سبيله"، تم تعيين طبيب شرعي ثانٍ أثبت بشكل قاطع خلوّ ملف هذا الأخير من أي إشكال صحي. تبعا لذلك، اتخذ القرار بتوقيف الطبيب الشرعي أ.م. وإحالته إلى قاضي التحقيق بجرم وضع تقرير كاذب.
ورغم خطورة الفعل موضوع التحقيق، دعت نقابة الأطباء إلى اعتصام في صبيحة 15 أيار 2018 احتجاجا على احتجاز الطبيب المذكور. ورغم تأكيده على احترام القضاء والقانون، اعتبر النقيب البروفسور ريمون الصايغ أن التوقيف الاحتياطي للأطباء يضع هؤلاء في خانة المجرمين والمتهمين والهاربين من وجه العدالة، مما يوجب عدم اللجوء إليه بحقهم. وبعد ساعات قليلة من الاعتصام، تردد أن قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان أصدر قرارا بإخلاء سبيل الموقوف، وأن النيابة العامة في جبل لبنان عمدت إلى استئنافه. ولم نستطع التحقق بعد من صحة هذه المعلومات.
وهذه القضية وما تبعها من مواقف واعتراضات إنما تستدعي ملاحظات ثلاث:
- الأولى، أنها تضيئ على خطورة الخلل الحاصل في أوساط الطب الشرعي في لبنان. ففي حال صحة الادعاء بوجود تقرير مزور، نكون أمام حالة فاقعة للفساد داخل الطب الشرعي، من شأنها أن تلقي ظلال شكّ كثيفة على مجمل التقارير الطبية الصادرة عن هذا الطبيب (وهي كثيرة جدا) وتاليا على مجمل القرارات القضائية الصادرة على أساس هذه التقارير. وبالطبع، يشكل هذا الخلل في حال ثبوته بابا واسعا للتدخل في العمل القضائي وتوجيه التحقيقات في القضايا الجنائية في اتجاه أو آخر من قبل القوى التي لها نفوذ معين على الطبيب المذكور.
وما يفاقم من خطورة المسألة هو أن الطبيب المذكور يتمتع مع طبيب آخر باحتكار فعلي للعمل كطبيب شرعي في كامل منطقة الضاحية الجنوبية، وأنه كان جدّ ناشط في فترة ما بعد حرب تموز 2006 في تنظيم تقارير طبية بهدف الحصول على تعويضات من هيئة الإغاثة.
ومن هنا، تطرح هذه القضية أسئلة بالغة الأهمية على كل من القضاء ووزارة العدل (المسؤولة عن جدول الخبراء والأطباء الشرعيين) ونقابة الأطباء: ما هي الاجراءات التي ستتخذها كل من هذه الهيئات للتحقيق في هذه القضية نزولا عند مقتضيات اتفاقية مكافحة الفساد التي توجب على الدولة وجميع أشخاص الحق العام ممارسة صلاحياتهم في مكافحة أعمال الفساد، وبخاصة الأعمال التي من شأنها إفساد القضاء؟
- الثانية، أن نقابة الأطباء بدت من خلال اعتصامها وكأنها تذهب في اتجاه مناقض تماما لما تفرضه عليها موجباتها في صون الآداب الطبية ومكافحة الفساد.
فبخلاف اعتصاماتها السابقة احتجاجا على احتجاز أطباء والتي اتصلت بالمسؤولية الطبية وما يعرف بالخطأ الطبي (الأمر الذي يعني جميع الأطباء لاحتمال وقوعهم فيه)، يتّصل هذا الاعتصام بخطأ مسلكي جسيم ارتكبه طبيب في سياق عمله القضائي، أو بكلمة أخرى بمسؤولية قضائية غير طبية.
ومن هذه الزاويةـ، يظهر الاحتجاج تدخلا سلبيا مزدوجا في أعمال القضاء: فهو لا يشكل عامل ضغط على قاضي التحقيق لإخلاء سبيل الطبيب الشرعي الموقوف وحسب، لكن من شأنه أيضا أن يؤثر بدرجة أو بأخرى على مجرى التحقيق في أفعال من شأنها إفساد العمل القضائي برمته، في هذه القضية وغيرها من القضايا الكثيرة.
وما يفاقم من هذا الأمر هو أن النقابة لم تتعهّد بالقيام بأي تحقيق تأديبي في الأفعال الخطيرة المنسوبة للطبيب الموقوف، بل على العكس من ذلك وجهت إليه الإطراء تلو الآخر، بهدف استمالة الرأي العام. فبعدما وصفته بالزميل العزيز على قلوب الأطباء، ذهبت إلى حد وصفه ب "طبيب الفقراء".
وفي هذا السياق، يُلحظ أن جميع الأمور التي أثارها نقيب الأطباء في مؤتمره الصحفي اتصلت بمسائل شكلية محض، من دون أي تطرق إلى أساس المخالفة. وقد تمثلت هذه الحجج في أمور ثلاثة: أولا، أنه لم يتم إبلاغ نقابة الأطباء مسبقا عن موعد الاستجواب، ليتسنى له حضوره عملا بأحكام المادة 44 من القانون رقم 313/2001، وثانيا، أن التوقيف الاحتياطي تم قبل انقضاء مدة الخمسة عشر يوما من إبلاغه الشكوى خلافا لما ينص عليه القانون المذكور، وثالثا، أنه لم يتم تزويد النقابة بالملف الطبي المطلوب لإبداء الرأي العلمي بشأنه." وبمعزل عن مدى صحة هذه الحجج (التي نفت وزارة العدل الحجتين الأوليين منها) أو انطباقها على الدعوى (فطبيعة الجرم المدعى به والتي هي تنظيم تقارير مزورة تنفي الحجة الثالثة المتصلة بحق النقابة إعطاء رأيها العلمي طالما أن المسألة هي مسألة ترتبط بأفعال غير طبية)، فإن النقابة بدت كأنها تتمسك بامتيازاتها وامتيازات الأطباء، في موازاة تنصلها من أي مسؤولية تأديبية للأطباء الشرعيين.
- الثالثة، أن أبعاد هذه القضية وخطورتها على حسن سير المرفق القضائي توجب اعتبارها إحدى أهم القضايا العامة المطروحة. ويؤمل أن تشكّل هذه القضية في حال تسنى لها المضي من دون عراقيل، رافعة لإصلاح الطب الشرعي في لبنان، في مواجهة ممارسات الفساد والمحاصصة المنتشرة بشكل واسع في هذا المجال. وما يزيد من أهمية متابعة تفاصيل هذه القضية وإخضاعها لرقابة الرأي العام الدائمة، هو أنه يرجّح أن تشهد تدخلات واسعة من مجمل المستفيدين من وضع الطب الشرعي، لما يتيحه لهم من هامش واسع للتدخل في عمل القضاء. فلنراقب…
متوفر من خلال: