هو مشهد سرياليّ طبعا. بعد سنة ونصف شابتْها كثير من التحديّات، أنهتْ النيابة العامة التمييزيّة تحقيقاتها في قضية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا، وهي قضية مهمة في رمزيتها ولكن أيضا في قيمتها التي تقارب نصف مليار د.أ. ولئن النيابة العامة التمييزية غير قادرة على الادعاء مباشرة وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية، فإنها اختارتْ إحالة القضية إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت طالبة منها الادعاء على الأخوين سلامة بجرائم الاختلاس والتزوير واستعمال المزور وتبييض الأموال والتهرّب الضريبي والإثراء غير المشروع. وكانت تسرّبت أخبار قبل ذلك بأن اجتماعا صاخبا ضمّ النائب العام التمييزي والنائبين العامين المالي علي إبراهيم والاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر، حيث رفض هذان الأخيران تحمل المسؤولية، الأول بفعل تضارب المصالح والثاني بحجة أنّ الملف يدخل ضمن الصلاحية الحصرية للنائب العام المالي. وقد بقي إبراهيم وأبو حيدر على موقفيهما رافضين تحريك الدعوى العامة في هذا الملف. وكي يكمل المشهد، كانت النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون (والتي لديها هي الأخرى صلاحية بملاحقة رياض سلامة بحكم إقامته في جبل لبنان) والتي تجرّأت على الادّعاء على سلامة في أكثر من ملف وقضت بتوقيف شقيقه، مستدعاة إلى المجلس التأديبي على خلفية ما اعتبرتْه هيئة التفتيش القضائي “إخلالا بموجب التحفظ”. لا بل أن رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود أثار في مجلس القضاء الأعلى إمكانية عزلها لعدم الأهلية من دون محاكمة على أساس المادة 95 من قانون تنظيم القضاء العدلي، بما يشكل انتهاكا جسيما لحقوق الدفاع واستقلالية القضاء على حدّ سواء. هذا هو المشهد الذي سنحاول فهمه والإحاطة به، ومؤدّاه تظهير سلامة على أنه محصّن حيال أي ملاحقة وأن أي عمل قد يقوم به نائب عام ضده (كما فعلت عون) إنما قد يسبب له متاعب كثيرة، أقلها حملات التشهير الإعلامي.
تحقيقات بدفع أوروبي تجتاز حواجز السرايا والسرية المصرفية
بدأت القضية فصولا في بداية كانون الأول 2020 مع مراسلات سويسرية للنيابة العامة التمييزية تُعلمها فيها عن شبهات جرمية حول الشقيقيّن سلامة. بعد أشهر من الصمت وتحديدا في 29 نيسان 2021، تمّ الإعلان عن بدء التحقيق في هذه القضية. الخبر نشر للمرة الأولى على غلاف جريدة الأخبار ويفيد أن عويدات قد ختم مكاتب رجا سلامة بالشمع الأحمر (24 نيسان) قبل أن يداهمها المحامي العام جان طنّوس بعد يومين. وتجدر الإشارة هنا إلى تزامن الإعلان عن الخبر مع المعركة القضائية الحاصلة بين عويدات وعون على خلفية قضية مكتف – سلامة. فكأنما عويدات اختار الإعلان عن مباشرة التحقيق في هذه القضية كردّ على اتهامه بتعطيل التحقيقات في قضايا أخرى، وهو اتهام أشار إليه بوضوح كلي بيان نادي القضاة المؤرخ في 18/4/2021. وأبرز ما يستوقفك عند قراءة الخبر أنّ التحقيق لم يعهد لأحد المحامين العامين لدى النيابة العامة التمييزية (وهم فريق عمل النائب العام التمييزي) بل عهد لقاضٍ مشهود له بنزاهته وجرأته من خارج هذا الفريق وهو القاضي جان طنوس وهو محام عام لدى النيابة العامة المالية. وقد شكل تكليفه بهذه المهمة رسالة طمأنة للرأي العام والجهات الخارجية المتابعة للملفّ أن التحقيقات ستسلك مسارها من دون تمييع.
إلا أنه رغم ذلك، فإن التحقيقات لم تحصل بسلاسة بل تعرّضت لمساعي عرقلة كثيرة حصلت بصورة تصاعدية، ويذكّر العديد منها بالأساليب المعتمدة في مواجهة التحقيق في قضية المرفأ.
أبرز هذه العوائق اتّصلت بالممانعة حيال رفع السرية المصرفية، وهي مسألة أساسية لاستكمال التحقيقات الحاصلة أوروبيا. فرغم أن السرّيّة المصرفيّة مُستثناة في قضايا الإثراء غير المشروع، فإنّ النّيابة العامّة التمييزية آثرت أن توجّه طلبها من خلال هيئة التحقيق الخاصة (التي تحتكر سلطة رفع السرية المصرفية في قضايا تبييض الأموال). واللافت هنا أن الكتب ذهبت إلى هيئة يرأسها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نفسه. وإذ تخلّفت هذه الأخيرة عن إجابتها طوال أشهر، عمد القاضي جان طنوس إلى مطالبة المصارف بتزويده بكشوفات الحساب التي يحتاج إليها مباشرة. إذ ذاك، تعرض طنوس للهجوم الأول من قبل بنك البحر المتوسط ممثلا برئيسة مجلس إدارته الوزيرة السابقة ريا الحسن والمحامي رشيد درباس. وقد تمثل هذا الهجوم في إقامة المصرف دعوى مخاصمة الدولة عن أعمال طنّوس لارتكابه خطأ جسيما بطلب رفع السرية المصرفية عن حسابات متعلّقة بالأخوين سلامة، وهو الأمر الذي أدّى إلى كفّ يد طنّوس إلى حين صدور قرار الهيئة العامة لمحكمة التمييز بردّ الدعوى. واللافت أن المصرف قدم هذه الدعوى في حين أنه استدعي للتحقيق كشاهد وليس كمدعى عليه بما يكشف تضامن المصارف والتزامها التستر على سلامة. كما اللافت أن درباس وكيل المصرف كان قدم قبل حوالي أسبوع دعوى مماثلة (مخاصمة الدولة) بالنيابة عن رئيس الحكومة السابق حسان دياب بهدف تعليق التحقيق في قضية المرفأ بما يكشف التماثل في الوسائل المستخدمة لتعطيل التحقيق. لزم الأمر حوالي الشهر والنصف بقي التحقيق خلالها معلقا قبل أن تقرر الهيئة العامة لمحكمة التمييز ردّ دعوى المخاصمة المقدّمة من قبل بنك ميد.
وإذ بقيت الطلبات الموجهة إلى هيئة التحقيق الخاصة والمصارف من دون إجابة، اتخذ طنوس قرارا بمداهمة المصارف مستعينا بجهاز أمن الدولة. وقد شكلت هذه المداهمة مناسبة لسقوط مزيد من الأقنعة. ففي هذه المرة، لم يجد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حرجا في التدخّل مباشرة لحماية المصارف والأهم لحماية السرية المصرفية. وقد أقرّ هذا الأخير في حديث له أنه يرفض إقالة سلامة لأن لا أحد يعزل ضباطه وهو في خضم المعركة، لا بل هدّد بالاستقالة في حالة الادّعاء على سلامة أو بإقالة عويدات في حال لم يستجب لطلباته. وقد وصل الأمر بميقاتي بوصف أمن الدولة “بالجهاز الأمني المسلّح” معتبرا أنّ حتى إسرائيل لم تدخل إلى مؤسسات ومقرّات بهذه الطريقة. وبالطبع، هذا التدخل يشكل خرقا لمبدأ الفصل بين السلطات وتدخلا سافرا في القضاء من دون أن يكون لميقاتي أي صلاحية في هذا الخصوص. وإذ أذعن عويدات لطلب ميقاتي غير القانوني، دخلت هنا أيضا التحقيقات مرحلة رمادية بعدما تم توقيف طنوس من المرجع الذي كان يفترض أن يسهّل مهامه.
وخلال الفترة نفسها، وتبعا لإجراءات أخرى اتخذتها رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني وغادة عون في قضية المصارف الستة أو الحجز على أملاك مصارف بموجب دعاوى أقامها مودعون، صعّد ميقاتي نبرته، وصولا إلى دعوة مجلس الوزراء للانعقاد لمناقشة “الفوضى” الحاصلة في القضاء واتخاذ الإجراءات الكفيلة بوضع حدّ لها. وإذ استدعيَ رؤساء محكمة التمييز والنيابة العامة والتفتيش القضائي لحضور الجلسة بما يشكل إخضاعا للقضاء للسلطة التنفيذية، فإن هؤلاء رفضوا الحضور. وفي اليوم التالي، فاجأ ميقاتي الجميع حينها بتصعيد الموقف إلى درجة مطالبة عويدات باتخاذ الإجراءات لضبط الفوضى القضائية تحت طائلة “نشيلو عالبيت”. وقد ذكر كلام ميقاتي بكلام نسب سابقا بتاريخ 21/9/2021 لمسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا في اتجاه المحقق العدلي في قضية المرفأ طارق بيطار حين هدّده ب “القبع”.
خلال هذه الفترة، تعرض طنوس أيضا لحملات إعلامية مركّزة، ذهب بعضها حدّ اتهامه بتحريك الملف لغايات سياسية. ولا نعرف تفاصيل التفاعلات الداخلية خلال هذه الفترة بين عويدات وطنوس، لكن يرجّح أن يكون ضغط القضاء الأوروبي مكّن طنوس بالنتيجة من مواصلة أعماله. واستباقا لزيارة القاضية أود بوريسي المكلفة بمتابعة التحقيق الفرنسي في هذه القضيّة، حصلت تفاعلات ما تزال غير معروفة هي الأخرى بالنسبة إلينا، انتهت بنتيجتها هيئة التحقيق إلى تسليم الكشوفات المطلوبة. حصل ذلك في بداية أيار الماضي في موازاة تقديم سلامة دعوى بهدف كفّ يد طنوس. فكأنما سلامة انتقل بعد تعريته من سرية كشوفاته المصرفية إلى المرحلة الثانية وهي تجريد أيّ قاض يريد التحرك ضدّه من الأدوات التي تسمح له بذلك.
وإذ كفّت يد طنّوس، بقي عويدات قادرا على ختم التحقيقات وإرسال توجيهاته للنيابات العامة المختصة للادعاء. وهذا ما فعله مستبقا تقديم سلامة دعوى مماثلة ضده. وعليه، وجه بتاريخ 9/6/2022 كما سبق بيانه.
الفرار من مسؤولية الادعاء
كما سبق بيانه، لم يُخفِ النائبان العامّان الماليّ والاستئنافيّ في بيروت منذ اللحظات الأولى عدم رغبتهما تحمّل أي مسؤولية في هذا الملف. وفي حين يبقى من مسؤوليات النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون الادعاء في الملف لكون محل سكن رياض سلامة في الرابية، فإن عويدات لم يتوجّه إليها لأسباب عدة تتراوح من توتر العلاقة الشخصية بينهما إلى الملاحقة التأديبية التي تتعرض لها عون، فضلا عن الرفض المتشنج للعديد من القوى السياسية إزاء تحميل عون أي مسؤولية إضافية. ولكن، وبمعزل عن رغبة هؤلاء، فمن البين أن أصول تنظيم النيابات العامة تقوم عادة على معايير موضوعية في توزيع الصلاحيات فيما بينها وليس على رغبة هذا النائب العام أو ذاك، علما أنّ لعويدات سلطة إعطاء توجيهات ملزمة بهذا الشأن وفق المادة 13 من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وعليه، لماذا رفض إبراهيم وبوحيدر تحمل مسؤوليتهما في هذا الملفّ؟ ما هي أسبابهما أو دوافعهما لذلك؟ وما مدى قانونيتها والدلالات منها؟
بوحيدر يثير حصرية النيابة العامة المالية في دعاوى المال العامّ:
منذ اللحظات الأولى، تسرّب للإعلام رفض بو حيدر النظر في الملف، على أساس أنّه ليس له صلاحية الادّعاء فيه وأنّ المرجع الصالح هو النيابة العامة المالية. وعليه، ردّا على إصرار عويدات بإحالة الملف إليه، بادر إلى إحالة الملف إلى النيابة العامة المالية التي رفضت تسجيله. وإذ طلب بو حيدر في تاريخ 21/6/2022 من محكمة الاستئناف قبول تنحيه عن الملف، رفضت المحكمة هذا الطلب طالما أن مسألة الصلاحية لا تشكل سببا للتنحي. إذ ذاك، أصدر بو حيدر قرارا بعدم صلاحيته للادّعاء على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، محيلا مجددا الملف إلى النيابة العامة المالية التي رفضت هي الأخرى مجددا تسجيله في قيودها وفق ما نشر في وسائل الإعلام.
وإذ رشح موقف بو حيدر عن رفض واضح لتوجيهات عويدات الملزمة، فإنّ هذا الرّفض لم يتمّ بصورة استنسابيّة إنما أتى معللا بأسباب قانونية مفادها أنّ ثمة صلاحية حصرية للنائب العام المالي للقيام بذلك. وعليه، تصبح مسألة مدى أحقية بو حيدر رفض تنفيذ توجيهات عون مرتبطة بمسألة قانونية هذه التوجيهات، إذ لا يعقل منطقيا أن يكون أي نائب عام ملزما بتنفيذ التوجيهات بمعزل عن قانونيتها. ولو كان خلاف ذلك، لتحوّلت قصور العدل إلى معسكرات تسودها قاعدة: نفّذ ثم اعترض.
وتاليا وبالعودة إلى الحجّة المُثارة من بو حيدر، يتبدّى أنّ لها سندٌ اجتهاديّ يتمثّل في قرار محكمة التمييز الصّادر مؤخّرا في قضية أخرى بإعلان حصرية ادعاء النيابة العامة المالية في قضايا إساءة التصرف بالمال العامّ. هذا القرار صدر في إطار دفاع قدّمه وكلاء رياض سلامة لإبطال الملاحقة المقامة ضدّه بحجة أن الادعاء العام عليه بإساءة إدارة المال العام تم تقديمه من النائبة العامة في جبل لبنان في حين أن أصول المحاكمات الجزائية تحصر ملاحقة هذا النوع من الجرائم بالنيابة العامة المالية. وعليه، جاء هذا القرار السلبي الذي انتقدته المفكرة القانونية لما احتواه من تشويه للقانون وتوسيع مبالغ به لصلاحيات النيابة العامة المالية منسجما تماما مع مصلحة الحاكم الذي تمكن بفعله من التملص من الملاحقة. وعليه، ومع تسليمنا بأن حصرية الادعاء في هذه القضايا في النيابة العامة المالية أمر سلبي يؤدي إلى شخصنة حقوق المجتمع وحصرها بيد شخص واحد، فإن إصرار النيابة العامة التمييزية على تحميل بو حيدر مسؤولية ملاحقة سلامة رغم رفضه المعلل لذلك مقابل إبعاد هذا الكأس عن إبراهيم يبدو متناقضا مع صمتها المطبق حيال قرار محكمة التمييز المذكور أعلاه.
ومن المهم بمكان أن تصدر النيابة العامة التمييزية في هذا الإطار تعميما يؤكّد على صلاحيّة النيابات العامة المختلفة التحرّك في هذه القضايا من دون أيّ حصريّة، وذلك منعا للاستنسابيّة وازدواجيّة المعايير ومن باب التصدّي لتوجه محكمة التمييز المعيق لمكافحة الفساد.
ومن الأمور التي لا بد من التوقف عندها والتنبيه منها على ضوء ما تقدّم هو أنه يخشى في ذلك استمرار محكمة التمييز في توجهها السلبي أن ينجح سلامة في إبطال أي إجراء أو معاملة قد يقوم بها بو حيدر أو أي من المحامين العامين في النيابة العامة الاستئنافية في بيروت.
إبراهيم يثير تناقض المصالح؟ الآن؟
ولكن ماذا عن أسباب ممانعة إبراهيم تحمل المسؤولية في هذا الملف؟ لم نجد له موقفا صريحا، إنما السبب الذي يتداوله الإعلام في هذا الخصوص هو أنه يرفض تسجيل الملف في سجلّات النيابة العامة المالية لاستشعاره حالة تضارب في المصالح. ويفهم من التسريبات أن حالة تضارب المصالح تتأتى من كونه عضوا في الهيئة المصرفية العليا وفي هيئة التحقيق الخاصّة ضمن مصرف لبنان، وكلاهما هيئتان يرأسُهما الحاكم نفسه ويتقاضى إبراهيم بدلات أتعاب لقاء عضويته فيهما وهي بدلات تسدد من موازنة مصرف لبنان. وهذه الحجة تقبل النقد من زاويتين اثنتين:
الأولى، أن تتوفر لدى إبراهيم حالة تضارب مصالح لا يعني أبدا أن ثمة حالة تضارب مصالح للنيابة العامة المالية. وعليه، على فرض تم قبول طلبه للتنحي عن هذه المهمة (وهذا أمر مفهوم)، فإن بإمكان الجهة التي ستقبل تنحيه (محكمة التمييز) أن تكلف محاميا عاما ماليا الحلول محله في هذا الملف. وهذا أمر رائج ويحصل دائما في النيابات العامة، وحسبنا التذكير مثلا بقرار عويدات التنحي عن النظر في قضية المرفأ وتعيين محام عام تمييزيّ محله لاتخاذ الإجراءات اللازمة باسم النيابة العامة التمييزية. وآنذاك، انتقدنا القرار فقط من زاوية أن عويدات اتخذ قرار التنحي وأحلّ محلّه بديلا عنه من دون الرجوع إلى أيّ مرجع قضائي يوافق على ذلك.
أما الزاوية الثانية التي تقبل النقد، فهي تتأتى من أن إبراهيم يثير للمرة الأولى مسألة وقوعه في حالة تناقض مصالح رغم أنه يتعايش منذ عقود مع حالة تناقض مصالح دائمة بالنظر إلى المهام والمسؤوليات التي وافق على تحملها طوعا في الوقت نفسه، وكل ذلك مقابل بدلات مجزية. وبكلمة أخرى، لا يحصل تضارب المصالح في حالته فقط في حال ادعائه على سلامة أمام النيابة العامة المالية، إنما هو يتأتى من جمع صفتي النائب العام المالي والعضو في هيئات مصرفية داخل مصرف لبنان. فوظيفة النائب العام المالي تفترض منه الحفاظ على مسافة من جميع موظفي الدولة وبخاصة الكبار منهم، طالما أن اعمال هؤلاء تخضع من حيث المبدأ بصورة دائمة لرقابته. ووظيفة النائب العام المالي تتطلب منه مراسلة هيئة التحقيق الخاصة بصورة دورية لطلب رفع السرية المصرفية مباشرة أو من خلال النائب العام التمييزي وذلك في إطار التحقيق في قضايا الفساد التي له الدور الأساسي في مباشرتها والتحقيق فيها. بكلمة، تضارب المصالح الذي كان من المنتظر من إبراهيم أن يثيره منذ أمد هو تضارب المصالح الناجم عن جمع هذه المسؤوليات المتناقضة بين يديه، تمهيدا لرفض تعيينه أو على الأقل لإنهاء مهامه في إحداها. أما أن يثير تناقض المصالح بصورة ظرفية هنا فهذا كلام حقّ يراد به باطل من دون أن يتخلّى عن أيّ من مسؤولياته، والباطل هنا هو التبرؤ من كأس ملاحقة سلامة في قضية باتت الأدلة فيها واضحة وضوح الشمس.
بالخلاصة، وبِمعزل عن مسؤولية عويدات أو بو حيدر أو إبراهيم، فإن عويدات يبقى المسؤول الأول عن حسن إدارة الخلاف الحاصل على نحو يسمح بتحريك الدعوى العامة فعليا ضمن أقصر المهل. وبإمكانه حلحلة ذلك من خلال إحالة الملف إلى النيابة العامة المالية تمهيدا لتوليه من قبل أحد المحامين العامين هنالك، على أن يحيل للتفتيش النائب العام المالي في حال رفض تسجيل المعاملة في قلمه. كما يبقى عويدات مدعوا لإصدار تعميم بشأن صلاحية النيابات العامة في القضايا المالية على نحو يمنع حصرها في يد جهة واحدة أو شخص واحد ويضمن لجميع النيابات العامة تحريك الحق العام بشأنها. أما وأنه يحصر تحريك الحق العام ببو حيدر وحده رغم الحجج الذي أدلى بها هذا الأخير وقرار محكمة التمييز، فيخشى أن ينتهي بمعزل عن النوايا إلى تجميد الادعاء أو وهذا الأخطر تعريض جميع إجراءاته للإبطال … بعد حين.