فيما نحن في طور انتقال مشهد الإبادة من غزّة إلى لبنان، ما فتئ نوّاب من “المعارضة” يتحدّثون عن فرصة لتغيير السلطة وبناء الدولة. لكنهم يمارسون عمليًا نقيض الدولة إذ يحلّون مكان الحكومة في تقرير سياسات أمنيّة، وذلك في إطار غرف عمليّات يجري فيها التنسيق بين نائب المنطقة والسلطات المحليّة. وقد برز عمومًا في خطاب هؤلاء سرديّتان طائفيتان متناقضتان إلى حدّ بعيد: الأولى أنّ “الأحزاب الشيعية أهملت بيئتها”، أي فقدت شرعيتها لرعاية الطائفة، والثانية أنّ النازحين خطرون؛ فتارة هم يعدّون لحرب، أو يعتدون على الأملاك الخاصة، أو أنهم خطر لتواجد منتمين إلى حزب الله في ما بينهم. وقد اختلفت مقاربة النوّاب في مناطق ذات تنوّع سياسي لأسباب مختلفة.
سرديّة أنّ “الأحزاب الشيعية أهملت بيئتها!”
في 30 تشرين الأوّل نقرأ تصريح رئيس حزب القوّات اللبنانية سمير جعجع لصحيفة “بوليتيكو”، يقول فيه إنّ “لبنان الآن أمام فرصة رئيسية لتحرير نفسه”، وفي جواب عن سؤال حول “المعروف الذي قدمته إسرائيل للبنان في حربها”، يجيب بأنه “آثار جانبية”. ويضيف أنّه “لدى الإسرائيليين أولوياتهم. هذه هي أعمالهم وشأنهم. أما نحن فلدينا أعمالنا”. ويعوّل جعجع على أنّ الشيعة “سيتفهمّون ولو بوتيرة بطيئة أنّ ما قاله الحزب لهم في الماضي لم يكن صحيحًا وأنّ الحزب قادهم إلى الكارثة”. وعمومًا عبّر كثير من نوّاب القوّات عن أنّها فرصة تاريخية، وعن أنّنا “بحاجة إلى إنتاج سلطة جديدة”، وعن أنّ مظلوميّة الشيعة مردّها قادة أحزابهم.
النائبة ستريدا جعجع أرادت استثارة شيعيّة رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، فبعثت له رسالة دعته فيها إلى موقف تاريخي “على خطى كبارٍ من الطائفة الشيعية الكريمة… (عددتهم)، موقفًا استثنائيًا إنقاذيًا جريئًا، ينتشل أهلنا من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة من قلب النكبة ومن عمق المعاناة العصيبة”. وقالت إنّه “ثبت أنّ من قاتل في سبيله حزب الله ودفع بالمئات من شبابه إلى الموت بغية بقاء نظامه تركه عند أوّل الطريق، ومن دون أي مساندة”.
هذا التوجّه في مخاطبة النازحين – “البيئة الشيعية” – والقصف في ذروته، هو ما وجدناه لدى عموم نوّاب القوّات. ولعلّ النائبة غادة أيوب أبلغ من عبر عن مضمون هذا الخطاب حين صرّحت لـ “إم تي في” أنه “لا يمكن لحزب الله أن يختار الحرب وحين يقع يطلب من الدولة إيواء النازحين”.
وساق نوّاب مستقلّون المنطق ذاته، أبرزهم النائب وضّاح الصادق الذي تحدّث عمّا سمّاه “بيئة حزب الله” في مقابلة على تلفزيون “إل بي سي” أنّ “فقال “لم ينظر حزب الله بشأنها ولا فعلت حركة أمل ولا الدولة التي يسيطر عليها الثنائي”، وأردف أنّه “لا بأس” إن تحدّث بلغة طائفية، فعدّد الطوائف ليقول إنّ مواطنيها اعتنوا بالطائفة الشيعية. بالتالي، صبّت هذه المواقف عمومًا في اعتقاد أنّ “بيئة الطائفة” من مسؤوليّة أحزاب الطائفة لا مسؤوليّة الدولة.
نوّاب القوات يصطنعون سرديّة النازحين المسلحّين
نجد تعبيرات كثيرة في خطاب نوّاب المعارضة لتعزيز ممارسة الأمننة الذاتية، القائمة على شيطنة النازحين، لكن أكثرها فجاجةً ادّعاء وجود مسلّحين بين النازحين، الذي يستدعي التأهّب الدائم من قبل أبناء المنطقة. وهي سرديّة روّج لها نوّاب الجمهوريّة القويّة أكثر من غيرهم، وثبت أنّها غير مبنيّة على وقائع ثابتة.
ففي 18 تشرين الأوّل، نشرت سلسلة مواقع إعلاميّة خبرًا عن إشكال في زحلة أمام مركز نازحين، نتج على خلفيّة تصوير بالهاتف. ولم تشر أيّ من المواقع الإعلامية إلى ظهور سلاح خلال الإشكال. لكن نائبا القوّات في زحلة جورج عقيص والياس اسطفان، عبّرا في بيان “قوّاتي” عن رفض “تحويل مراكز الإيواء إلى ثكنات ومخازن أسلحة”. لم يكتفِ البيان بالتعبير عن “هواجس” لدى النائبين، بل رشح عن رفض شيء يوحي أنّه قائم فعلًا. لكنهما لم يشيرا كما لم تشر أية وسيلة إعلامية إلى ظهور لمثل هذا السلّاح، رغم حالة استنفار الأهالي وتحويلهم غفراء على النازحين.
وسبق وأثار نوّاب القوّات هذه الهواجس من دون مسوّغ. فمثلًا نتابع النائب زياد الحواط وهو يناشد أهالي جبيل “التأكّد من هوية الناس التي تنزح إلى بلداتنا وقرانا وإذا ما كانت مسلّحة”، ويردف أنّ “هناك مسؤولية كبيرة على الناس أن تتنبّه لأي مظاهر غريبة ومثيرة للشك”. وتحدّث نائب البترون غيّاث يزبك مؤخرًا عن أنّ الممانعين “لم يمنعوا عسكرهم من الاختباء بين المدنيين وتحويلهم دروعًا بشرية”، وذلك على خلفيّة خطف المواطن من آل أمهز في البترون. وذلك رغم تأكيد مصادر أمنيّة للإعلام أنّه غير مسلّح، وغياب أي تأكيد أنّ له أيّ مهام قتاليّة.
في الاتجاه نفسه، ذهب النائب رازي الحاج. فهو نشر مجموعة صور لأكياس رمل على حسابه على منصة “إكس” زاعمًا أنّ ثمّة أمرًا خطيرًا يحصل في مهنية الدكوانة. وتساءل الحاج: “هل المطلوب تحويل مركز الإيواء في الدكوانة إلى تحصينات؟” ودعا الأجهزة الأمنية وبخاصة الجيش اللبناني لاتخاذ الاجراءات الصارمة. واعتبر أنّ “الأمن خط أحمر ولن نسمح بمربّعات أمنية جديدة تحت أي مسمى”. لم يكلّف الحاج نفسه بإجراء اتصال بالبلديّة أو بأي من القيمين قبل توجيه اتهاماته. وتناقل كثير من الناشطين الصور على وسائل التواصل الإجتماعي. إلّا أنّه سرعان ما تبيّن أنّ “منظمة العمل ضد الجوع” (ACF) هي التي أتت بالأكياس لترفع خزانات مياه شرب للنازحين عليها. وأوضحت في بيان أنّها أرادت استخدام أكياس الرمل، بدلًا من التراب أو الخرسانة، لأنّ الأكياس سهلة الإزالة. وبطبيعة الحال عادت إدارة المهنيّة واتفقت مع الجمعية لاستبدالها سريعًا ببناء قواعد حديدية تحمل على أربعة أعمدة مكشوفة. الملفت أنّ ناشطين وإعلاميين نقلوا الخبر من دون أيّ مراجعة لخلفيّته، ودقّته.
والملفت أكثر أنّنا لم نرَ النائب الحاج أو سواه، قدّم اعتذارًا عن هذا التلفيق.
العين الساهرة على هوية المنطقة
حين سئل الحاج عمّا نشره واعتبره “خطرًا”، أجاب أنّه يعتبر نفسه “العين الساهرة على المتن”. وعاد ونشر على منصة “إكس” صورة أكياس الرمل مجددًا، معلّقًا أنّه “هكذا كان المنظر! ألا يحق لنا السؤال والتحذير؟” ولم يتوقّف تحريضه عند هذا الحدّ، بل أكّد في إحدى مقابلاته مع قناة “الحدث” أنّ هناك مسؤولين حزبيين في كل مركز إيواء ينتمون إلى حزب الله وحركة أمل.
هذه الهواجس حول وجود منتمين لحزب الله بين النازحين عبّر عنها الكثير من النوّاب، فالنائبان ميشال معوّض ووضّاح الصادق، كانا يطلّان إعلاميًا باستمرار لإثارة هذا الموضوع على وجه التحديد، وفعل الأمر ذاته نوّاب أكثر اعتدالًا مثل النائب سليم الصايغ. وقد أشار الأخير إلى متسللين إلى مراكز الإيواء، إذ قال مؤخرًا في مقابلة مع إذاعة الشرق، “نحن نحترم الخيارات والهويات السياسية لكل نازح ولكن أيضًا لن نسمح أن تتحوّل مسألة النزوح إلى أداة للفتنة أو أن تكون غطاء لأشخاص متسللين تعرض مراكز الإيواء لما لا تحمد عقباه”.
وسبقت هؤلاء شبكات إعلاميّة تناقلت شائعات لترسيخ سرديّة عسكرة النازحين. وفي المقابل، وفي ما بدا محاولة من سائر الكتل لتفادي مخاطر الشائعات، عقدت كتل نيابية مختلفة (بما فيها “الوفاء للمقاومة”) في 28 تشرين الأول 2024 اجتماعًا صدر في ختامِه بيانٌ دعا إلى دعم البلديّات للقيام بدورها في تسجيل النازحين في أماكن النزوح و”منع أيّ وجود مسلّح” و”عدم الاعتداء على الأملاك الخاصة”. والملفت إشارة البيان إلى “الابتعاد عن مظاهر الأمن الذاتي” من دون أن يوضح من سيتولّى الأمن فعليًا وبصورة مركزية.
هذا مع العلم أنّ العمل على أمننة النزوح ووصم النازحين أنهم مخلّون بالأمن بدأ قبل الاجتياح الجوّي. هذا ما نستشفه من دعوة النائب غسّان حاصباني في 22 أيلول إلى أمننة منطقة الأشرفية، وذلك بتعاون مع أهالي الأشرفية. وشملت دعوات الأمننة نوابًا من مختلف المناطق، فدعا إليها نوّاب الكتائب، ومستقلّون من “نوّاب المعارضة”، وأيضًا “نوّاب الدروز” (كما أسموا أنفسهم) و”قادة الدروز الروحانيين” في بعدران في 2 تشرين الأول تحت عنوان “احتضان النازحين والانتباه لأي مظهر يمكن أن يشكل خطرًا على أهل الجبل…”، كما كانت اجتماعات مختلفة بين نوّاب المناطق وسلطاتها المحليّة لتحقيق هذه الغاية (راجع المقال حول حادثة أيطو-زغرتا كنموذج).
المناطق ذات التنوّع.. “والاعتداء على الأملاك الخاصة”
لكن بعض المناطق تميّزت عن السياق الطائفي العام، ومنها الأشرفيّة. وكان تحدّث حاصباني في 22 أيلول، عن الطابع الخاص للأشرفية التي يقطنها “عدد كبير من الأجانب العاملين في لبنان مع مؤسسات دولية ومنظمات الأمم المتحدة وجمعيات وغيرها”. ورأى أنّ وعي أهالي الأشرفيّة هو “الحاجز الأكبر لعدم سلب هويتها أو أن تصبح ملاذًا آمنًا لمن يتخطّون السيادة الوطنية أو يعملون عكس قناعات أهلها المترسخة بمبادئ السيادة، والحرية والأمن المجتمعي”. وأكّد منذ ذلك الوقت، على ضرورة “التدقيق ببعض الوقائع العملية على الأرض وذلك لعدم خلق أي صورة مثيرة للريبة عند أهل المنطقة وتفريغها من سكانها”. لكنه عبّر عن خشيته من أعمال مشبوهة أو أمنية قد يقوم بها نازحون، معتبرًا أنّ الأشرفية منطقة آمنة لأن رصد النازحين “سيكون سهلًا من قبل ثلاثي الأجهزة الأمنية والأهالي والقوى الفاعلة على الأرض (يقصد الأحزاب)، وتحدّث عن “تطبيقات إلكترونية أطلقناها مؤخرًا تسمح لكل مواطن أن يكون خفيرًا ويبلغ عن الأعمال المشبوهة، فبيئة الأشرفية ليست حاضنة للمخلّين بأمن وسيادة لبنان”.
ويشار إلى أنّ النائب أنطوان حبشي تميّز عن نوّاب القوات، في كونه أكثر جديّة في ملاحقة وتفنيد حاجات النازحين ودعواته المستمرة لتلبيتها (من أحزاب أخرى، تميّز في مثل هذا السلوك النائبان أسعد درغام وبلال عبد الله). حتّى أنّ حبشي عبّر عن استيائه من نوّاب منطقة بعلبك الهرمل، بسبب عدم دعوته إلى مؤتمر مخصّص لبحث شؤون المنطقة، ودعا هؤلاء النوّاب كي يتواضعوا.
ويشار إلى أنّ الشيطنة أخذت طابعًا مغايرًا في بيروت وجبيل، في وصم النازحين أنهم يعتدون على أملاك خاصّة. ورغم أنّ عددًا كبيرًا من حالات إشغال مبانٍ خاصّة أشير إليها أنّها اقتحام تبيّن أنّها غير صحيحة ومفبركة. فقد انتشر مثلًا فيديو للإعلامية رابعة الزيات حرّضت فيه على اقتحام المباني، وتبيّن أنّ الخبر ملفّق. كما تمّ التداول بخبر اقتحام مبنى آخر ليتبيّن فيما بعد أنّ ثمة خلافًا بين مالكي المبنى بشأن إيواء النازحين وبخبر آخر له علاقة بإرشادات خاطئة للنازحين أنه بإمكانهم المكوث في بعض الأماكن. لكن رأينا عددًا من نوّاب بيروت، وأبرزهم وضّاح الصادق، يصرّون في كلّ إطلالة إعلامية على الإشارة إلى تعدّي النازحين على الأملاك الخاصة من دون تمييز بين حالة وأخرى.
وفي جبيل أثير إعلاميًا موضوع قيام أشخاص من آل زعيتر بإنشاء مبنى على أرض متنازع على ملكيّتها. وصوّر الموضوع على أنّه “اعتداء من نازحين شيعة على أراضٍ مسيحية تابعة للبطريركية”. وانجرّ بعض نوّاب جبيل للسرديّة، فخرج بيان مشترك في 22 تشرين الأول، للنائبين زياد الحواط وسيمون أبي رميا تحدثا فيه عن “توفير الاهتمام اللازم بالنازحين، تحت سقف احترام القانون وحماية الملكيّات الخاصة والعامّة”. كما تحدثا عن مسؤولية الناس في التأكّد من هوية الأشخاص الذين يستأجرون المنازل، وضرورة التدقيق من أوضاعهم. وفيما أكد النائبان التمسك بالعيش المشترك، في إيحاء أنّ إشكالًا مثل هذا قد يضرّ بالعيش المشترك، وأنّ طابعه طائفي.
وعلى العكس، قال النائب سليم الصايغ في 24 تشرين الأول: “أوضحت منذ أسبوع (أي قبل فبركة السرديّة الإعلامية وبيان النائبين) بعد التواصل من قبلي مع رئيس البلدية أنّه ليس للقضية أي طابع طائفي وأنّها محصورة بين أبناء البلدة الواحدة ذات السياسة الواحدة والطائفة الواحدة”.
في المحصّلة، دونما تدقيق في كلّ حادثة على حدة، ساهم النوّاب بنشر الشائعات، وساهموا بتضخيم بعض الحوادث، عبر ال”matraquage” الإعلامي، بهدف شيطنة النازحين والتضامن معهم، بدلًا من مساءلة الحكومة بشأن خطة الطوارئ لتوفير مراكز إيواء كافية لهم.