نهاية مسيرة قاضية مناضلة: أو القاضية التي عرّت نظام الإفلات من العقاب 


2025-03-01    |   

نهاية مسيرة قاضية مناضلة: أو القاضية التي عرّت نظام الإفلات من العقاب 

تنهي اليوم القاضية غادة عون مسيرتها القضائية. لم تخلُ هذه المسيرة طبعا من مؤاخذات أو دعسات ناقصة أو مواقف تقبل النقد والاختلاف، إلا أنّه يبقى أنّها تركت بصماتٍ واضحة في تاريخ القضاء اللبناني، وبخاصة لجهة مساهمتها في مواجهة نظام الإفلات من العقاب وتعريته. 

وفيما وثقت المفكرة القانونية أبرز محطات هذه المسيرة، يهمنا هنا في هذه المناسبة استذكار أمور ثلاثة:  

الأول، أن القاضية عون سجّلت من دون ريب رقمًا قياسيّا في مواجهة نظام الإفلات من العقاب في أكثر من مجال، أبرزها مجال المصارف وصفقات الطاقة والفساد الإداريّ في النافعة والدوائر العقارية. وقد برزت أهميّة عملها ليس فقط في التجرؤ على شخصيّات كانت تعدّ عصيّة عن أيّ محاسبة (أبرزها نجيب ميقاتي ورياض سلامة) إنما أيضا في سعيها إلى تفعيل أسلحة قانونية لإسقاط نظام الإفلات من العقاب والدعائم التي يرتكز عليها. ومن المهمّ بمكان التّذكير هنا أنّها أول من طبّقت قانون الإثراء غير المشروع بعد 66 سنة من إقراره، وأنّها أول من سعتْ إلى الاستفادة من تعديل قانون السرّية المصرفيّة بهدف كشف اللثام عن بعض مسبّبات الانهيار، بعدما باتت السرية المصرفية أشبه بمقبرة جماعية تختفي فيها جميع جرائم الفساد.       

الثاني، أنّ القاضية عون نجحت بقوة المثابرة والمعاندة والصمود، في تعرية نظام الإفلات من العقاب وإن فشلت في ضمان المحاسبة الفعلية في الكثير من القضايا التي باشرتها. فبفعل ذلك، اضطرّت النيابة العامة التمييزية (ممثلة بداية بغسان عويدات ومن ثم بجمال الحجار) على المجاهرة باستخدام سلطتها الهرمية وبصورة متكررة وغالبا خلافا للقانون، من أجل تحصين جهات معينة إزاء أي مساءلة. وبفعلها، ذهب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى وضع كبار القضاة أمام استحقاق ضبطها تحت طائلة عزلهم، قبل أن يتولى مباشرة تعطيل عملها باللجوء إلى المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية، في انتهاك ولا أوضح لمبدأ الفصل بين السلطات. وبفعلها، اضطرت المصارف إلى إعلان إضرابها مرتين دفاعًا عن مقبرتها الجماعية “السرية المصرفية”. هذا دون الحديث عن التكتّلات السياسيّة والإعلاميّة والدينيّة التي تم تركيبها بحرفية كبيرة بهدف إحباط مساعيها وصولا إلى شيطنتها بكلّ ما للكلمة من معنى. ولا نبالغ إذا قلنا أنّ معظم الملاحقات التي باشرتْها تمّ مواجهتها بتكوين “جمعيات أشرار” مكشوفة الوجه، هدفها ليس فقط إحباط عمل القاضية عون بل ترهيب أيّ قاضٍ تسوّله نفسه التجرؤ على الخطوط الحمراء وصولا إلى تقويض أي فرصة في المحاسبة.    

الثالث، أن القاضية عون تعرّضت بفعل كلّ ذلك إلى انتهاكات جسيمة لاستقلاليّتها وأيضا لكرامتها الشخصية وسدّدت أثمانا باهظة تبعا لذلك. وقد أخذت هذه الانتهاكات أشكالا مختلفة، وتراوحت من تدابير تعسفيّة لتجريدها من صلاحياتها كنائبة عامّة لجبل لبنان خلافا للقانون إلى التلويح بإعلان عدم أهليّتها وصولًا إلى استصدار حكم تأديبيّ ظالم جدّا بصرفها من الخدمة على خلفية رفضها الإذعان بنظام الإفلات من العقاب، فضلا عن كلّ ما تعرّضت له من شيطنة في خطاباتٍ تجنّد لها إعلاميون وسياسيون مخضرمون. ولربّما، غدًا حين يوزّعون ألقاب قضاة الشرف على قضاة متقاعدين منهم من اشتهر بخدمة نظام الإفلات من العقاب، سيخرج أكثر من صوتٍ لرفض منحها هذا اللقب، بما يشكل استكمالا للمظلمة ضدّها. وتتعهّد المفكرة هنا أن تواصل استذكار هذه الانتهاكات إلى حين إنصاف القاضية عون والأهم لمنع تكرارها. 

بقي أن نحيّي القاضية عون من أجل كل ما بذلته طوال مسيرتها، آملين أن تتكلل جهودها في خرق جدار الإفلات من العقاب. فلنراقب. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني