ليس كل اللبنانيين قادرين اليوم على مشاهدة مباريات كأس العالم. السبب هو حكماً ليس عدم توفّر الأموال، بل هي الفوضى المتراكمة في إدارة المال العام وإدارة الدولة عموماً. ما كشف مؤخراً عن ظروف نقل كأس العالم 2018 يُؤكد ذلك. فما دُفع في ذلك الحين يُشكّل ضعف ما طُلب هذا العام ونحو أربعة أضعاف ما دفع في العام 2014 (3 مليون دولار). وأكثر من ذلك، فإن ثمة مؤشرات تؤكد أن ما دفع هو ضعف ما كان يفترض دفعه، فأين اختفت تلك الأموال؟
وزير الاعلام زياد مكاري لم يوارب في الإضاءة على الأمر. قال حرفياً أن مسؤولي “بي إن سبورتس” عرضوا عليه نقل المونديال بالكلفة نفسها التي دفعها لبنان في العام 2018، أي 5 مليون دولار. نقل مكاري ما سمعه ببساطة، لكن تداعيات ذلك كانت كبيرة، واستدعت تحرّك القضاءين الإداري والعدلي مجدداً. فما دفعه لبنان في العام 2018 ليس 5 مليون دولار بل 10 مليون. يدرك مكاري ذلك، ويدرك أن ما كشفه يعني عملياً أنه حصل في العام 2018 هدر واضح في عقود نقل المونديال أو ربما سرقة. يأسف مكاري لأنه لم يتمكّن من الحصول على الأموال اللازمة لنقل المونديال، ولو فعل لكان سينشر العقود على موقع الوزارة بكل شفافية، على ما يؤكد.
لم يقلها مكاري مباشرة، لكنه بكلامه هذا للمفكرة القانونية، إنما يؤكد أن تلك الشفافية كانت غائبة عن مفاوضات نقل مباريات كأس العالم 2018. لا العقود ظهرت في حينها ولا مضمونها عرف به اللبنانيون. فقد تردد في بداية المفاوضات أن قيمة العقد ستكون 5 مليون دولار، إلى أن تبيّن بعد نحو عامّ على توقيعه أنّهم دفعُوا ثمن خدمة لم يحصلوا عليها، أو بشكل أدقّ دفعوا مرتين ثمن الخدمة نفسها. إذ تبيّن أن مبلغ ال10 مليون دولار دُفع كبدل لنقل تلفزيون لبنان للمباريات (4 مليون دولار) ولقاء نقل باقة “بي إن” عبر موزعي الكابل (6 مليون دولار). لكن من شاهدوا كأس العالم في ذلك العام، كانوا فئتين: من شاهدوه عبر تلفزيون لبنان مجاناً (بغض النظر إن كان عبر الكابل أو عبر المحطة الأرضية)، ومن دفعوا الأموال للاشتراك في باقة بي إن (من خلال الاشتراك مباشرة مع “بي إن” أو من خلال الاشتراك مع شركات الكابل المرخصة أو من خلال موزعي الأحياء وهؤلاء جميعاً يحصلون على الباقة من خلال شركة سما وكيلة “بي إن” في لبنان). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاتفاق كان قد أنجز في أيار 2018، إلا أنه لم يعلن عنه إلا يوم انطلاق المباريات، ما أتاح الفرصة أمام شركة سما وكيلة “بي إن” لبيع الاشتراكات الفردية أو التجارية كما تشاء. هذا يعني ببساطة أن المشتركين لم يستفيدوا من دفع ال 6 مليون دولار للشركة بدل نقل المباريات عبر شركات وموزّعي الكابل. وهو ما يؤكّده أيضاً عدد كبير من أصحاب شركات الكابل الذين يشيرون إلى أنهم دفعوا لشركة سما بدل نقل المباريات، ثم حصّلوا هذه الأموال من المشتركين لديهم الراغبين بمشاهدة كأس العالم عبر محطات “بي إن”، أما من لم يرغب بذلك، فلم يكن أمامه سوى مشاهدة تلفزيون لبنان حتى لو كان عبر الكابل. فأين ذهبت الأموال التي دُفعت؟
للإجابة على هذا السؤال، تقدم المحامون علي عباس وجاد طعمة وواصف الحركة والصحافي إدمون ساسين بإخبار إلى النيابة العامة الماليّة يتعلّق بهدر مال عامّ في الاتفاق المعقود مع شركة “سما” و شبكة “بي إن سبورتس” في لبنان، مشكّكين في حصول اختلاس للأموال العمومية وإثراء غير مشروع. الإخبار قُدّم في 8/6/2021، أي قبل أيام من مرور الزمن (وُقّع العقد في 14/6/2018). والتحقيق لا يزال مستمرّاً، علماً أن المعنيين بالقضية هم بشكل أساسي وزير الاتصالات السابق جمال الجراح، الذي كان مسؤولاً عن دفع المبلغ عملا بامتلاكه سلطة القرار في قطاع الخليوي، ووزير الإعلام ملحم رياشي المسؤول عن التفاوض والذي يقع تلفزيون لبنان تحت سلطته، ووزير الرياضة محمد فنيش، طالما أن الحدث رياضي. ولذلك، عندما أعيد فتح الملف مؤخراً، كان الرياشي والجراح أول من سعى إلى تبرير الأمر. أكد الرياشي أن ما يتعلّق بالكلام حول الـ5 مليون دولار، ثمن مونديال هذه السنة، وبأن هذا المبلغ هو نفسه مبلغ سنة 2018، فهذا الكلام لم يقل لا أمامي، ولا أمام الحريري، ولا أمام فنيش والجراح. وأشار إلى أن المداولات في حينها خفّضت من 14 مليون دولار إلى 10 مليون. أما الجراح فعاد مجدداً وأوضح أن المبلغ المطلوب كان 14 مليون دولار، لكن اللجنة التي تضمه إلى الرياشي ووزير الشباب والرياضة محمد فيش خفّضت المبلغ إلى 12 مليون دولار، قبل أن يتصل رئيس الحكومة سعد الحريري بالشيخ ناصر الخليفي ويخفّض المبلغ إلى 10 مليون دولار.
لكن هذا الرد لم يجب على سؤال: لماذا دفع مبلغ 10 ملايين في الأساس؟ خاصة أنه عندما كشف النقاب عن تفاصيل العقد كان المدير العام لتلفزيون لبنان طلال المقدسي أول من عبّر عن صدمته، إذ سأل: “إذا كانت الشركة المعنية قد طلبت 5 مليون دولار فمن قبض الخمسة ملايين الأخرى؟” هذا السؤال لم يجدْ إجابته حتى اليوم. وفي التفاصيل، كان كُشف حينها عن عقديْ رعاية موقّعين بين كل من شركة سما وشركتي “ألفا” و”تاتش”، قيمة كل منهما 3 مليون دولار مُخصّصان لنقل مباريات كأس العالم مجاناً عبر موزّعي الكابل. كما وُقّع ملحق لكل عقد بقيمة مليون دولار لنقل المباريات عبر تلفزيون لبنان، على أن تتكفّل شركة الإعلانات (لاين ميديا التي يملكها عماد جمعة) بدفع مليونين أيضاً، تستوفى من الإعلانات عبر تلفزيون لبنان. وبذلك يكون المجموع 10 مليون دولار من دون الضريبة على القيمة المضافة، دفع 8 ملايين منها من شركتي الخلوي. لكن في الخامس من تموز 2018، أي قبل انتهاء كأس العالم بأسبوعين، راسلت شركة الإعلانات وزارة الاتصالات، معلنة تحصيلها 700 ألف دولار فقط، بما يعني عملياً الحاجة إلى 1.3 مليون دولار أخرى يُفترض أن تُسدّد لشركة “سما”. لم يتأخر الجرّاح في الطلب من تلفزيون لبنان التنازل عن المبلغ ل”سما”، ثم مطالبة شركتي الخلوي بتعويض الفارق، بحيث تدفع كل منهما 650 ألف دولار إضافية. لم يسأل الجراح شركة الاعلانات لماذا قدّمت كشفها قبل أسبوع من انتهاء كأس العالم، ولم يسألها عن عائدات هذا الأسبوع الذي يُفترض أن تُعرض فيها الأدوار النهائية، حيث ترتفع أرقام المشاهدة بشكل كبير وترتفع معها كلفة الاعلانات. هكذا ببساطة، اكتفت الوزارة بإعلانات الدور الأول، وتكفّلت بتغطية الفارق من الأموال العامة، علماً أن قيمة العقدين الموقّعين وملحقيهما تبلغ 8 مليون دولار وتضمّنا فقرة تشير إلى أن المبلغ مقطوع وغير قابل للزيادة لأي سبب كان، لكن مع ذلك لم يمانع وزير الاتصالات بإلزام شركتي الخلوي دفع 1.3 مليون دولار إضافية، ليكون المجموع المدفوع لشركة “سما” 9.3 مليون دولار من شركتي الخلوي (من دون الضريبة على القيمة المضافة)، و700 ألف دولار من أموال تلفزيون لبنان التي حصل عليها من شركة الاعلانات.
وهنا يطرح الإخبار مجموعة من الأسئلة، التي يعتبر أنها تثير الريبة وتستوجب فتح تحقيق شفاف بشأنها، وهي: لماذا لم تنص العقود صراحة على كيفية دفع المليوني دولار من الإعلانات؟ ولماذا لم تتضمنه العقود الأساسية التي تنص فقط على مبلغ 8 مليون دولار غير قابلة للزيادة؟ ولماذا لم ينظم ملحق إضافي خاص بدفع هذه المبالغ؟
وعليه، يتبين أن ثلاث شركات خاصة قد استفادتْ من العقد: شركة سما وكيلة “بي إن”، وبأرباح تزيد ب 240% عمّا دفعته للشركة القطرية (تشير الوثائق إلى أنها دفعت لشركة “بي إن” 2.5 مليون دولار فقط)، وشركة “لاين ميديا” من خلال حصتها في الاعلانات وعدم تصريحها عن كل الإيرادات، وشركة ICE التي نظمت إفطاراً في فندق فينيسيا للاحتفال بعقد الصفقة، والتي كان مستشار وزير الإعلام ملحم رياشي، تامر دويك الوسيط بين الشركة وشركة سما. وفي حين كانت كلفة الإفطار مرتفعة ووصلت إلى 155 ألف دولار، تم الاستفسار من شركة ICE ومن فندق فينيسيا عن كلفة هكذا إفطار وقد تبين أنها تقل بعشرات آلاف الدولارات عن السعر المدفوع.
في ظل تلك الوقائع، حوّل المدعي العام المالي علي ابراهيم الملف إلى القاضية دورا الخازن، التي فتحت تحقيقاً، استمعتْ فيه إلى مقدّمي الإخبار، وكلّفت، على الأثر، الخبير بيار كاخيا لتوضيح بعض النقاط المتعلّقة به. وبعد أن قدّم الأخير تقريره، عمدت الخازن إلى حفظ الشكوى. لكن، عاد عباس وساسين وقدّما طلباً للتوسّع بالتحقيق في بداية 2022. وقد أضافا إلى أسباب الطلب “أن تقرير كاخيا بعيد كل البعد عن المصداقية والحيادية، حيث تبين إغفاله الإجابة على عدد من النقاط الأساسية وتشويهه الوقائع وأبدى انحيازا واضحا وعلنيا، مرتباً النتائج القانونية بما يخالف أحكام القانون ولاسيما المادة 330 من قانون أصول المحاكمات المدنية (يمتنع على الخبير أن يبدي رأياًَ في ما قد يرتّب من نتائج واقعية أو قانونية على المعاينة الملكف بها”).
وقد تبين لمقدمي الطلب أن كاخيا ينتمي إلى نفس الخط السياسي للوزير ملحم رياشي، إذ كان لسنوات رئيس مكتب الرياضة في القوات اللبنانية. كما تبين ثبوت محاولاته الدفاع عن الصفقة من خلال زعمه حصول وفر قدره 4 مليون دولار، إضافة إلى وجود علاقة تجارية بينه وبين شركة “بي ان سبورت” من خلال رئاسته لشركة “وورد سبورت غروب” وتوقيعه عقد رعاية معها. كما ركز كاخيا على عدم تقاضي ملحم رياشي أي رشوة، وهو أمر لم يجرِ التطرق له في الإخبار، ليخلص الطلب إلى ضرورة إهمال التقرير وإخراجه من الملف.
وبالفعل، أهملت الخازن التقرير، كما أعادت فتح المحاكمة، طالبة في الوقت نفسه من ديوان المحاسبة إبداء رأيه بالملف، بالرغم من أن صلاحية الديوان محدودة بتبيان صحة العقد، فيما يفترض بالنيابة العامة المالية التحقق من وجود إثراء غير مشروع.
في هذا الوقت، كانت الانتخابات قد اقتربت وقد استغلّها رياشي، على ما يقول عباس، لإبلاغ النيابة العامة المالية خشيته من الاستفادة من الملف في الانتخابات النيابية، ملمّحاً إلى أن الاستمرار سيؤدي إلى التأثير بنتيجة الانتخابات، فما كان من علي إبراهيم إلا أن ركن الملف جانباً إلى حين انتهاء الانتخابات.
وعملياً، لم يفتح الملف مجدداً إلا بعدما أثار وزير الإعلام الأمر مؤخراً. وقد علمت المفكرة القانونية في هذا السياق أن الديوان باشر بالفعل التحقيق بالملف، كما عمد مقدمو الإخْبار إلى تقديم المعلومات والمستندات إلى الديوان، الذي يفترض أن يدرس مدى قانونية العقود ضمن رقابته اللاحقة، علما أن بإمكانه إصدار قرارات ضد الوزراء المعنيين. إنما تبقى الملاحقة الجزائية من صلاحية النيابة العامة المالية.
وعملياً، بغض النظر عن اعتبار الرياشي أن الكلام عن 5 مليون دولار لم يقل أمامه، وبغض النظر عن وضع الجراح الإشارة إلى دفع هذا المبلغ في إطار الاستهدافات السياسي ومحاولات تشويه السمعة، وبغض النظر عما إذا كان يفترض أن يدفع نصف المبلغ الذي دفع، فإن الواقع يشير إلى التالي:
- دفع لبنان مرتين للحصول على خدمة واحدة. في المرة الأولى 6 مليون دولار وفي المرة الثانية 4 مليون دولار. علماً أنه لو تم الإكتفاء بنقل المباريات عبر تلفزيون لبنان لكان الجميع تمكن من مشاهدة المباريات، إن كان مشتركاً بخدمة الكابل أو لم يكن. وهذا يعني أنه كان بالإمكان الاكتفاء بدفع 4 مليون دولار، يمكن تحصيل ربعها على الأقل عبر الإعلانات، إلا المعنيين فضلوا دفع 6 مليون دولار لشركة سما من دون أي طائل.
- أغلب شركات الكابل والمحلات والمطاعم كانت تعاقدت مع سما قبل إعلان الاتفاق، ودفعت لها ثمن حقوق العرض، وبالتالي دفعت الدولة مجدداً ثمناً لخدمة سبق أن دفع ثمنها أصحاب الكابل، الذين حصّلوا بدورهم اشتراكات إضافية من المشتركين لديهم. ما يؤكد مرة جديدة أن مبلغ ال6 مليون دولار كان بلا جدوى. ويؤكد أيضا أن الخليوي غالبا ما شكّل بفعل موارده ما قبل الأزمة البقرة الحلوب التي تدر الخير على كل من ملك إليها طريقا. وليس أدل على ذلك من تقرير ديوان المحاسبة الصادر بتاريخ 5/4/2022 وطلب الاتهام الموجه إلى 3 وزراء اتصالات سابقين (نقولا الصحناوي وبطرس حرب وجمال الجراح) على خلفية استخدام أموال الخليوي، وبخاصة في قضية استئجار مبنى قصابيان وهبات الرعاية وهو الطلب الذي دُعيت الهيئة العامة لمجلس النواب للنظر فيه غدا.