“
أثــار قرار جديد للمجلس الأعلى للسلطة القضائية استياء العديد من القضاة الذين تفاجؤوا بتنقيلهم دون طلب، بعد أن جــرى في توقيت سابق الإعلان عن إحداث محاكم جديدة في عدد من المدن المغربية، على إثر صدور مرسوم التنظيم القضائي الجديد وما طرحه من إشكاليات.
تنقيلات بدون طلب التوفيق بين حق حصانة القضاة ضد النقل والمصلحة القضائية
يشكل موضوع نقل القضاة دون طلب أحد أهم المواضيع الحساسة التي شكلت محور الحراك القضائي الذي عرفه المغرب منذ سنة 2011. ففي الوقت الذي كانت فيه سلطة وزير العدل شبه مطلقة في تنقيل قضاة النيابة العامة أو قضاة الحكم في إطار الانتداب، انتقل هذا الحق إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، حيث أصبح مؤطرا بمعايير واضحة تتجاوز ضرورة مراعاة المصلحة القضائية. وبات تاليا من المفروض أخذ رغبات القضاة بعين الاعتبار، والقرب الجغرافي والوضعية الاجتماعية للقاضي (ة) وغيرها من المعايير المحددة في النظام الداخلي، مع اعتبار تنقيل القضاة دون طلب في إطار المصلحة القضائية استثناء لا يمكن التوسع فيه حسب ما ذهب اليه اجتهاد القضاء الدستوري.
المجلس الأعلى للسلطة القضائية يفصح عن معايير جديدة
تبعا للإعلان المنشور بالموقع الرسمي حول الخصاص الحاصل بعدد من المحاكم المحدثة توصلت الأمانة العامة للمجلس ب 76 طلبا للانتقال، عرضت على لجنة تدبير الوضعية المهنية للقضاة، التي ارتأت وضع معايير جديدة وموضوعية لمعالجة هذه الطلبات، وقررت ما يأتي:
– استبعاد طلبات انتقال القضاة من الفوج 41 الذين تخرجوا حديثا من المعهد العالي للقضاء، وعددهم 35 طلبا، نظرا لحداثة تعيينهم في السلك القضائي، باستثناء حالة واحدة؛
– مراعاة وضعية المحكمة المراد الانتقال منها، حيث تقرر استبعاد طلبات قضاة المحاكم التي تتوفر على الحد الأدنى من القضاة، (10 قضاة للحكم بمن فيهم الرئيس، و4 قضاة للنيابة العامة بمن فيهم وكيل الملك)، أو المحاكم التي تعاني الخصاص؛
– نقل القضاة العاملين بالمحاكم التي كانت تتبع لها المحاكم المحدثة -بدون طلب- في حدود ما يوازي عدد القضايا التي سيتم إحالتها وتسجيلها بالمحاكم المحدثة، وذلك اعتمادا على المعايير التالية:
– نقل القضاة الأحدث التحاقا بالقضاء؛
– اعتماد الأصغر سنا؛
– مراعاة الحالة الاجتماعية.
– إعطاء الأولوية في الاستجابة لطلبات القضاة الذين يعانون من أمراض بعد إحالة ملفاتهم الطبية على طبيب محلف، ولطلبات الالتحاق بالأزواج. وقد استبعدت اللجنة التي تولت دراسة هذه الطلبات المبنية على أسباب صحية غير المرفقة بالملفات الطبية، حيث أدرجت في إطار المعايير العامة، وقد أسفرت دراسة الخبير للطلبات المعروضة عليه، والتي بلغت 8 حالات عن قبول ملف طبي واحد، ورفض باقي الطلبات.
– مراعاة القرب الجغرافي في نقل القضاة إلى المحاكم المحدثة خارج الطلبات على ألا تتجاوز المسافة 80 كيلو متر، باستثناء محكمتي ترجيست وتنغير التي فاقت المسافة بالنسبة إليهما هذا العدد، حيث اعتمدت اللجنة استعمال المعيار الثاني أعلاه في نقل القضاة لسد الخصاص وحاجة المحاكم طبقا لمقتضيات المادة 77 من القانون التنظيمي للمجلس.
وأوصت اللجنة المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالاحتفاظ للقضاة الذين تم تنقيلهم بدون طلب بالأقدمية التي اكتسبوها في محاكمهم لتعزيز نقطهم المعتمدة في الانتقالات، وذلك في إطار عملية الانتقالات المستقبلية وإعطائهم الأولوية، مع الإشارة في ذلك في ملفاتهم المحفوظة بالأمانة العامة للمجلس، والاستجابة لطلباتهم في حالة رغبتهم في الرجوع إلى المحكمة التي تم نقلهم منها بالأولوية على باقي الطلبات.
ملاحظات على طريقة معالجة المجلس لملف إحداث محاكم جديدة
رغم أن إعلان معايير معالجة ملفات تنقيل القضاة بمناسبة إحداث محاكم جديدة، يشكل في حد ذاته تطورا ملموسا في السياسة التواصلية للمجلس التي لطالما شكلت محل انتقاد؛ إلا أنه يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات حول نتائج المجلس الأعلى للسلطة القضائية بهذا الشأن.
وأبرزها الآتية:
- أولا، من حيث الشكل، يلاحظ أن نتائج المجلس نشرت بالموقع الرسمي، إعمالا لحق القضاة في الوصول إلى المعلومة، واحتراما لشفافية الأشغال. لكن النشر تمّ عبر الفضاء الخاص بالقضاة، رغم أن الأمر لا يتعلق بأي معطيات تستلزم السرية، مما يعد تراجعا على ما سبق أن أقره نفس المجلس، وكذا المجلس الأعلى للقضاء سابقا- في نشر نتائج أشغاله للعموم، احتراما لحق المواطنين في الوصول الى المعلومة، وإقرارا لشفافية أشغال المجلس.
- ثانيا، ورغم أن المجلس حاول توضيح المعايير الجديدة التي اعتمدها في معالجة مشكل الخصاص الحاصل نتيجة إحداث محاكم جديدة. لكن، كان من اللازم نشر هذه المعايير بشكل مسبق حتى يأخذها القضاة بعين الاعتبار عند تقديم طلباتهم، وتوسيع دائرة النقاش بشأنها على الأقل مع الجمعيات المهنية القضائية.
- ثالثا، يلاحظ أن نتائج المجلس تعد تراجعا على ما سبق وأن أقره في نظامه الداخلي من كونه يراعي أسبقية عمل القضاة في مناطق نائية[1]، حيث سبق للمجلس نفسه أن استجاب لطلبات انتقال عدد من القضاة من مناطق نائية كانوا يعملون بها، خلال دورته الاخيرة التي أعلنت نتائجها خلال شهر يونيو 2018، وقبل أن يلتحقوا بمقرات عملهم الجديدة التي عينوا بها برغبتهم، تفاجؤوا بتنقيلهم من جديد بدون طلب إلى محاكم نائية أخرى أحدثت طبقا للتنظيم القضائي الجدي.
- رابعا، يطرح سؤال النجاعة في عمل المجلس إذ كان من المفروض معالجة مشكل الخصاص المطروح إثر إحداث محاكم جديدة خلال نفس الدورة العادية، أثناء البت في تعيينات القضاة الجدد وطلبات الانتقال، بدل اللجوء إلى النقل الجبري لمن سبق استفادته من النقل الاختياري، لما في ذلك من مساس بمبدأ حصانة القضاة من النقل والتي تعد استثناء ضيقا لا يمكن التوسع فيه حسب ما ذهب إليه اجتهاد المجلس الدستوري عند النظر في مدى دستورية النظام الأساسي للقضاة[2].
- خامسا، يلاحظ أنه ورغم نشر نتائج تنقيلات القضاة إلى المحاكم المحدثة، حيث كان من المفروض أن يلتحقوا بها خلال مستهل شهر سبتمبر الجاري بحسب الإعلان المنشور بموقع المجلس[3]، إلا أن العمل بهذه المحاكم وبالأخص الابتدائية منها ما يزال معطلا بسبب التأخير في إعلان نتائج أشغال المجلس بخصوص المسؤوليات القضائية الشاغرة بهذه المحاكم.
[1] – المادة 56 من النظام الداخلي للمجلس.
[2] -جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 992.16 بتاريخ 05/03/2015 حول النظر في دستورية قانون 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة في شأن المادتين 35 و 72 ما يلي :
“حيث إن المادة 35 تنص على أنه “يقبل كل قاض تمت ترقيته في الدرجة المنصب القضائي الجديد المعين به وإلا ألغيت ترقيته، وفي هذه الحالة يسجل في لائحة الأهلية برسم السنة الموالية”، وإن المادة 72 تنص على أنه “يمكن أن ينقل القاضي وفق المعايير المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية في الحالات التالية:
– بناء على طلبه؛
– على إثر ترقية في الدرجة؛
– إحداث محكمة أو حذفها؛
– شغور منصب قضائي أو سد الخصاص”؛
وحيث إن الدستور نص في فصله 108 على أن قضاة الأحكام “لا ينقلون إلا بمقتضى القانون”؛
وحيث إنه، لئن كـان عـدم القـابلية للنقـل من الضمانات الأساسية المخولة لقضاة الأحكام، التي لا يجوز المساس بجوهرها باعتبارها من مظاهر استقلال السلطة القضائية، فإنه يستفاد مما ينص عليه الفصل 108 المذكور من كون قضاة الأحكام لا ينقلون إلا بمقتضى القانون، أن المشرع يجوز له أن يحدد حالات معينة يمكن فيها، بصفة استثنائية، نقل هؤلاء القضاة؛
وحيث إن الدستور نص أيضا في فصله 118 على أن “حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه وعن مصالحه التي يحميها القانون”، ونص في فصله السادس على “مبدإ المساواة أمام القانون”.
وحيث إن حق التقاضي يعد من الحقوق الأساسية المخولة للمواطنين وضمانة رئيسية لإعمال مبدإ سيادة القانون، وأن مبدأ المساواة أمام القانون، الذي من مظاهره المساواة بين المواطنين في الولوج إلى مرفق القضاء، يستلزمان أن توضع رهن إشارة المواطنين، المحاكم الضرورية والقضاة اللازمون لجعل حق التقاضي المخول دستوريا للمواطنين حقا مكفولا فعليا؛
وحيث إنه، يتعين ضمان التوازن بين المبدإ الدستوري القاضي بعدم قابلية قضاة الأحكام للنقل إلا بمقتضى القانون، والمبدإ الدستوري الذي يكفل للمواطنين حق التقاضي؛
وحيث إنه، تأسيسا على ذلك، فإن المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي أناط به الدستور، بصفة أساسية، السهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة ولا سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، لا يجوز له أن يقرر نقل قضاة الأحكام، في الحالات التي حددها المشرع، دون طلب منهم، إلا بصفة استثنائية، يبررها ضمان حق التقاضي المكفول دستوريا للمواطنين”.
[3] – اعلان المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بموقعه الالكتروني الرسمي، بتاريخ 25/07/2018.
“