شكل إطلاق مشروع تطبيق المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية، خطوة إضافية تقوم بها نقابة المحامين في طرابلس باتجاه تكريس حقوق الدفاع خلال مرحلة التحقيق الأوّلي مع المشتبه فيهم بعد تعديل القانون في تشرين الأوّل 2020 ويسعى هذا المشروع إلى تأمين مجموعة من المحامين المتطوعين من أجل تقديم المساعدة القانونية المجانية في مراكز التحقيق، والسهر على تأمين حقوق المشتبه فيهم كافة، حيث يفترض من المتطوعين الذين سيتم توزيعهم وفق دوامات محددة الانضمام سريعاً إلى الاستجواب الذي يتمّ أمام الضابطة العدلية بعد ورود اتصال على الخط الساخن. سيخضع المشروع لفترة تجريبية في ثلاث مناطق هي طرابلس وحلبا وزغرتا، قبل أن يتوسّع ليشمل سائر مناطق الشمال. ولد المشروع نتيجة جهود مشتركة بين نقابة المحامين في طرابلس وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، بهدف تأمين حضور محامٍ أثناء التحقيق الأوّلي مجاناً لمن لا يملك القدرة المالية من دون انتظار إجراءات المعونة القضائية المعقّدة.
الدفاع حق للجميع
“الدفاع حق مقدس ولا بدّ من تأمينه للجميع”، “حقوق الإنسان ثقافة”، و”تحسين ظروف التحقيق الأولي واجب على العاملين في القانون”، خلاصة الأسباب الموجبة التي استعرضها القيّمون على مشروع تطبيق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، خلال الندوة التي نظمتها نقابة المحامين في طرابلس نهار الأربعاء 8 حزيران 2022 وحضرها عدد كبير من المحامين والقانونيين.
انطلقت نقيبة المحامين في طرابلس ماري تريز القوال من المبادئ الإنسانية العامّة وكذلك القانونية، لتؤكد على “ضرورة تقديم حفظ كرامة الفرد والعمل وفق قرينة البراءة على كافة الاعتبارات الأخرى” في كافة مراحل الملاحقة والمحاكمة، مشددةً على تأمين حقوق الدفاع خلال استجواب المشتبه به لدى الضابطة العدلية وتحديداً المادة 47 التي تشكّل ضمانة. وأشارت القوال في كلمتها إلى أنّ التطورات التي شهدها النظام الجزائي اللبناني، تبقى رهن التفسيرات والتطبيقات التي لا تلتقي مع المفاهيم العليا لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، حيث لاحظت استمرار التوقيفات الاحتياطية بصورة آلية، وحرمان المستجوبين من مرافقة المحامين أثناء التحقيقات الأولية، وكذلك توقيف المشتبه فيهم لفترات طويلة وأحياناً لسنوات من دون محاكمة كما في حالة الموقوفين الإسلاميين.
وكان تعديل المادة 47 من أصول المحاكمات الجزائية التي تشكّل حجر الأساس لحقّ الدفاع بموجب القانون رقم 191 تاريخ 30/9/2020 قد جاء لتوسيع ضمانات حقوق الدفاع للمشتبه فيهم بعد عقود من نضال المجتمع الحقوقي في لبنان، آخرها بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين. ورغم بعض الملاحظات على القانون، اعتبرت حينها “المفكرة” في بيان أنّه قانون إصلاحي يشكّل “إنجازاً حقوقياً واجتماعياً فرضته ثورة 17 تشرين ومبادئها” ويجدر التمسك به والمحافظة عليه.
ومن أهم الحقوق التي كرّسها هذا القانون: حق المشتبه فيهم في الاستعانة بمحام خلال التحقيقات الأولية، وحقهم في الحصول على معاينة طبية جسدية نفسية مجانية، وحقهم في معرفة الشبهات والأدلة القائمة ضدهم، وإلزامية تسجيل الاستجوابات بالصوت والصورة. وفيما يتعلّق بالحق في الاستعانة بمحام، نصّت المادة 47 المعدّلة على أنّه إذا تعذّر على المشتبه به تكليف محام لأسباب مادية، فيتمّ تعيين محام له من قبل كلّ من نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، وهو ما ألزم النقابتين باتخاذ خطوات من أجل تقديم هذه الخدمة العامّة في مراكز التحقيق، في حين كانت خدماتها القانونية تقتصر على تقديم التمثيل القانوني أمام المحاكم بشكل أساسي.
نحو مأسسة المساعدة القانونية
يسعى مشروع التدريب الذي أطلقته نقابة طرابلس إلى مأسسة المساعدة القانونية للمشتبه فيهم خلال التحقيق الأوّلي أمام الضابطة العدلية حسب المحامي فهمي كرامي مدير مركز المعونة القضائية والمساعدة القانونية في نقابة المحامين بطرابلس، الذي يتحدث عن الانتقال من مفهوم استنسابية منح المعونة القضائية، إلى قيام مؤسسة تؤمّن المساعدة القانونية وحق الدفاع للجميع في المرحلة الأوّلية من دون النظر إلى وضعهم المالي. وينوّه كرامي عبر “المفكرة” إلى أنّ “المساعدة القانونية أصبحت حاجة للجميع في ظل الانهيار المالي، هناك أفراد يملكون عقارات لا تدرّ عليهم عوائد كافية، كما أنّ أرصدتهم محتجزة لدى البنوك، من هنا أهمية تعميم المساعدة في الفترة الراهنة”.
يطالب المحامي فهمي كرامي بإقرار قانون لتكريس المساعدة القانونية شاملة للمستجوبين لدى الضابطة العدلية، وعدم الاكتفاء بنظام المعونة القضائية، مشيراً إلى أنّ المعونة التي يتقدّم بها المُعسر إلى المحكمة، تأخذ وقتاً لإتمام الإجراءات والانتظار إلى حين صدور قرار تعيين محامي من قبل النقابة، متسائلاً “ما مصير الفرد الذي لا تُقر له المعونة؟”.
يؤكد كرامي أنّه مشروع مشترك بين برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ونقابة المحامين في طرابلس، وسيتمّ تنفيذه من خلال معهد حقوق الإنسان، ومركز حقوق السجين، ومركز المعونة القضائية والمساعدة القانونية، حيث سيقوم كل فريق بدوره ضمن اختصاصه. ويشرح كرامي آلية العمل لتأمين المساعدة القانونية التي تشمل الاستشارة والمساندة، والتوعية بهدف نشر ثقافة حقوق الإنسان، والتمثيل القانوني في معرض تطبيق المادة 47.
يبدأ تنفيذ المشروع من خلال تنظيم لائحة بالمحاميات والمحامين المتطوّعين الذين سيتمّ توزيعهم جغرافياً على مراكز التحقيق بما يتناسب مع أماكن لسكنهم، ووفق برمجة “على الدوام لتلبية الطلبات عند الحاجة”، وهو أمر أساسي كون القانون منح المحامي مهلة ساعتين للحضور إلى مركز التحقيق. كما يشمل المشروع إجراء تدريبات للمحامين حول كيفية التصرّف في المخفر، وتوثيق التعذيب والتصدّي له. وكذلك سيشمل إطلاق الخط الساخن لاستقبال الاتصالات (أي طلبات الاستعانة بمحام من النقابة) والشكاوى من المشتبه فيهم. وسيسعى المركز إلى تأمين خدمة دائمة، وتأمين التدريب أيضاً لقوى الأمن الداخلي. كما يهدف إلى نشر الوعي في أوساط المواطنين بأننا “أمام حق للفرد، وليست خدمة زبائنية” .
يلفت المحامي فهمي كرامي إلى أنّ هذه الخدمة المجانية تنتهي بعد مرحلة الاستجواب لدى الضابطة العدلية للحرص على تطبيق المادة 47 وحضور المحامي التحقيقات الأوّلية. أما عند بدء المحاكمة، سيتم الانتقال إلى طلب المعونة القضائية من المعسر وفقاً للإجراءات العادية، أو يتكفّل المشتبه فيه القادر مادياً بتوكيل محام خاص له. وسيتحمّل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عبء تمويل المشروع، وسيحصل كل محام عن بدل رمزي بقيمة 100 دولار لكل ملف لتغطية كلفة الانتقال والنفقات وذلك بعد التحقّق من متابعته للحالة ووضعه لتقرير عنها.
استوضحت “المفكرة” من كرامي آلية تأمين استمرارية المشروع بعد انتهاء تمويل الجهة المانحة، يجيب “قبل الانهيار، كانت لدينا خطة رديفة للاستمرار في حال وقف التمويل، كنّا نتّجه إلى وضع دراسة لاقتطاع جزء بسيط من رسوم تسجيل الوكالات لدى نقابة المحامين والتي تُدفع كسلفة أتعاب، حيث يتمّ تأمين التمويل للمعونة القضائية والمساعدة القانونية من المبالغ المقتطعة، بالإضافة إلى إلزام مكاتب المحاماة الكبرى بتولّي ملفات المعونة ومتابعتها لأنّها الأقدر مادياً، وألّا يلقى بعبئها على المتدرّجين”، مضيفاً “هذا المشروع كانت تتمّ متابعته مع وزارة العدل مع اشتراط تقنين المساعدة القانونية ورصد اعتمادات لها في ميزانية الدولة لأنّ النقابة لا يمكنها حمل الأعباء منفردة”.
ووفقاً للمحامية غيدة فرنجية، مسؤولة قسم التقاضي في “المفكرة” وإحدى مؤسسي “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين” التي عملت على تطبيق المادة 47 للموقوفين خلال التظاهرات، أنّ خطوة نقابة طرابلس بإطلاق مشروع تطبيق المادة 47 تأتي “لتنفيذ التزاماتها القانونية وتأمين الدفاع المجاني للمشتبه فيهم خلال مرحلة التحقيقات الأوّلية التي تعتبر من أهم مراحل الملاحقة الجزائية حيث يرتفع خطر التعرّض لسوء المعاملة والتعذيب وممارسات الاستضعاف والاستغلال”.
وتلفت فرنجية التي أعدّت مؤخراً ورقة بحثية حول المساعدة القانونية المجانية في مراكز التحقيق، إلى أنّ “آلية استعانة المشتبه فيهم بمحام من النقابة لم يتمّ تفعيلها جدياً لغاية الآن بالنسبة للأشخاص المحتجزين إذ لم يستفد منها سوى أشخاص تمّ استدعائهم إلى التحقيق بموعد مسبق”، وتوضح أنّ “النقابتين لم يردهما أي طلب من مراكز التحقيق لتكليف محام” منذ صدور القانون، في حين كلّفتا محامين لحضور التحقيق الأوّلي مع 83 مستدعى للتحقيق (60 من نقابة طرابلس منذ بداية العام 2021 و23 من نقابة بيروت منذ تشرين الثاني 2021).
وتعتبر فرنجية أنّ “بناء جهوزية النقابتين لتقديم هذه الخدمة العامّة لا سيّما للمشتبه فيهم المحتجزين هي خطوة أساسية من أجل ضمان المساواة في ممارسة حقوق الدفاع”، وهي تسمح “بدعم المقيمين في لبنان والمحامين على حد سواء في ظلّ الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الحادّة”. ودعت فرنجية نقابة المحامين في بيروت التي يطال نطاق عملها سائر المناطق اللبنانية باستثناء الشمال إلى “إقرار خطة واضحة وتأمين الموارد اللازمة لتنفيذ التزاماتها بموجب المادة 47”.
مخالفات كثيرة خلال التحقيق
جاءت المادة 47 المعدّلة من أصول المحاكمات الجزائية لضمان حقوق الدفاع للمشتبه به أمام الضابطة العدلية (القوى الأمنية) التي يفترض بها إبلاغ المشتبه فيه بحقوقه، وكذلك الالتزام بتأمين هذه الحقوق. يأتي “الحق في التزام الصمت” وعدم إكراهه على الكلام تحت طائلة بطلان التحقيق في مقدمة هذه الحقوق، بالإضافة إلى حضور محام للتحقيقات الأوّلية من دون وكالة، الاتصال بذويه أو معارفه من أجل إعلامهم بمكان التوقيف، عرضه على طبيب شرعي لإجراء معاينة طبية، الحصول على خدمة الترجمة، تسجيل التحقيقات بالصوت والصورة، ومنع احتجاز المشتبه فيه إلّا بقرار من النيابة العامة ضمن مهلة 48 ساعة يمكن تمديدها لمدة مماثلة بموافقة النيابة.
استعرضت المحامية دوللي فرح، مديرة معهد حقوق الإنسان في نقابة المحامين جملة من المخالفات الشائعة أثناء التحقيقات الأوّلية من قبيل “الحصول على تنازل المشتبه فيه عن حضور المحامي أو عرضه على طبيب شرعي في بدء الاستجواب وتدوين ذلك قبل تعرّضه لأيّ ضرب، لذلك لا بد للمشتبه فيه عدم التوقيع، ورفض الكلام إلى حين حضور المحامي”. وكانت المفكرة القانونية قد وثقت العديد من هذه المخالفات في مقالات تناولت الإشكاليات المتعلّقة بتنفيذ المادة 47 بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين وقبل تعديل القانون. واعتبرت فرح أنّ ضمانات المادة 47 ليست شكلية، بل إنّ ضمان احترامها هو الذي يسمح بممارسة حق الدفاع عن النفس، والحؤول دون ممارسات الاستضعاف والاستفراد خلال التحقيقات الأوّلية. وذكّرت بالطعن بنص المادة 47 لدى المجلس الدستوري في العام 2001 بشأن تمديد مدة التوقيف من 24 إلى 48 ساعة، والذي أكد آنذاك على أنّ “التمديد لا يشكل مخالفة للحقوق الأساسية، طالما أنّه لا ينفي الضمانات التي وضعتها المادة 47″، ولكن “مخالفة الأصول والضمانات التي نصّ عليها المشترع تشكّل جريمة حجز الحرية المنصوص عليها في المادة 357 عقوبات، والتي تعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة كلّ موظف قام بحبس شخص دون الحالات التي نص عليها القانون”. وشدّدت فرح على أنّه “عند توقيف أي شخص، يقوم المحامون بالسؤال والتفتيش عنه لدى مختلف المراجع الأمنية من دون الحصول على أي إجابة، وهذا تنطبق عليه المادة 37 و 38 من قانون المخفيين قسراً والمفقودين”. وكانت “لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين” أوّل من استخدم قانون المفقودين والمخفيين قسراً الصادر في العام 2018 للتصدّي لهذه الممارسات لدى احتجاز مخابرات الجيش للمتظاهرين، وفقاً لفرنجية.
وتطرقت فرح أيضاً إلى التعميم الذي أصدره النائب العام التمييزي غسان عويدات في تاريخ 3/12/2019 بناء لطلبات نقابتي المحامين في طرابلس وبيروت، الذي يهدف إلى تعزيز حقوق الدفاع للمستجوبين وفقاً للمادة 47 قبل تعديلها (وقد سقط جزء منه بعد تعديلها)، مشيرةً إلى “أنّه بالرغم من الثغرات التي فيه، استخدمه المحامون لفائدة سائر المقيمين على الأراضي اللبنانية”. وكرّرت فرح الانتقادات الموجّهة للتعميم، فهو تحدّث عن “تمكين المحامين من إجراء المراجعات على وجه السرعة، وليس المقابلة فور الاحتجاز لأنّ المدة الزمنية قد تتراخى”، كما أنه “لم يسمح لهم بحضور التحقيقات الأوّلية”، لكن يشار إلى أنّ تعديل المادة 47 بعد عام على صدور هذا التعميم جاء لفرض حضور المحامين خلال الاستجواب ولضمان المقابلة السرّية بين المشتبه فيه والمحامي. كما تطرّقت فرح إلى عمليات تفريغ الهاتف والاطّلاع على البيانات فور التوقيف، وهو ما يشكّل انتهاكاً لخصوصية المشتبه فيه وسرية المراسلات والبيانات الشخصية، علماً أنّ تعميم النائب العام أشار إلى عدم تفريغ البيانات إلّا بعد أخذ إشارة النائب العام، ولكنّه لم ينصّ صراحة على منع الاطّلاع أو تفتيش الهواتف وهذه مخالفة كبيرة.
ورداً على سؤال “المفكرة” حول صيغة تسجيل التحقيق، تشير المحامية فرح إلى ضرورة اعتماد التسجيل بالفيديو، لافتةً إلى وجود مشروع قيد الإعداد لتأمين تمويل لتجهيز مراكز التحقيق بتقنيات التسجيل من باب الذرائع ومنع التحجّج بعدم توافر التجهيزات. كما تشدّد فرح على أهمية ضبط موعد دخول وخروج المستجوب إلى التحقيق بهدف “عدم احتجاز الحرية” والحؤول دون الإكراه المعنوي واللعب بالأعصاب” الذي يمارس في المخافر ومراكز التحقيق.