في 9-12-2015، وبناءً على طلب نقباء محامين سابقين في الشمال[1]، أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في طرابلس جويس عقيقي قراراً نافذاً على أصله بوضع أختام على مسابقات الامتحانات. وقد هدف القرار إلى حفظ إمكانية الطعن في النتائج المعلنة بإنجاح مائة مرشحاً. ورغم أن القرار النافذ على أصله يكون قابلاً للتنفيذ فوراً، فإن نقابة المحامين في طرابلس رفضت الإذعان له. ولم تمضِ برهةٌ إلا وأطلقتْ النقابة جام غضبها ضدّ القرار ومن شارك بصنعه. فهي أعلنت بدايةً إضراباً مفتوحاً حتى الرجوع عنه منعا ً لما وصفته ب"التدخّل الفاضح في شؤونها". وفي موازاة ذلك، وبما لا يقلّ خطورة، سرَتْ أنباءٌ ما تزال غير مؤكدة حول إصدار نقابة الشمال قراراً بفصل النقباء الأربعة الذين تقدموا بالمراجعة القضائية وإن يُعتقد أن تكون تراجعت لاحقاً عنه أو جمّدته. وفي اليوم التالي، تقدمت النقابة باعتراض على القرار القضائي مع طلب وقف تنفيذه، وسط أنباء عن ممارسة ضغوط كبيرة على القاضية عقيقي للحصول على نتيجة إيجابية. ويفترض أن تنظر قاضية الأمور المستعجلة اليوم في 11-12-2015 في طلب وقف التنفيذ على أن تعقد جلسةٌ في هذه القضية في 14-12-2015 لمتابعة النظر في أصل الإعتراض.
وأياً تكن النتيجة التي سيسفر عنها هذا الإعتراض، فإنّ تصرّف نقابة المحامين في طرابلس شكّل تمرّداً خطيراً على القضاء والقانون وأصل وجودها، وذلك من ثلاث زوايا على الأقل:
1- أنّها أبدتْ رغبةً جامحةً في رفض الخضوع للمساءلة القضائيّة في ما يتّصل بأحد أهمّ الشؤون العامّة المناطة بها، وهو إدارة ملفّ طلبات الإنتساب إليها. ومن المعلوم أن الإنتساب إليها هو شرط إلزاميّ لممارسة مهنة المحاماة. وقد تجلّت هذه الرغبة ليس فقط في وصف القرار على أنه "يشكل سابقة خطيرة وتدخلاً فاضحاً في الشؤون النقابية" (يلحظ العنف الكلامي) ولكن أيضاً في التدبير المتخذ تبعا له. فقد رأت النقابة أن مجرّد صدوره يبرّر إعلان إضراب مفتوح وتعطيل مصالح العدلية ومعها مصالح المتقاضين حتى الرجوع عنه. وبالطبع، هذا النزوع نحو التحرّر من أيّ رقابة قضائيّة لا يستقيم قانوناً. فالدور الذي تقوم به النقابة في مجال درس طلبات الانتساب إليها يندرج ضمن أهم مسؤولياتها العامّة وتحديداً ضمن مسؤوليتها من التثبت من تمتع الأشخاص الراغبين في ممارسة المهنة بمواصفات وآداب تخولهم ذلك. وهي تكون تاليا مقيدة في صدد ممارسته بأمرين: (1) ضمان تمتع طالبي الإنتساب بمواصفات تضمن حسن تأمين حق الدفاع للمتقاضين، وهو الحق الذي انوجدت النقابة لحمايته، و(2) ضمان فرص متساوية لطالبي الإنتساب طالما أن قبوله هو شرط إلزاميّ لممارسة مهنة. ومن البدهي اذ ذاك أن تخضع مثلها مثل أي مؤسسة قيمة على مصلحة عامة للمساءلة في مختلف أشكالها، سواء كانت شعبية أو قضائية. ومن هنا، يصبح شعار "عدم التدخل في الشؤون النقابية" الذي رفعته النقابة عبثياً ومرادفا لتشريع أبواب المحسوبية والتزوير في عملية اختيار المحامين مع ما يستتبعه من استهتار بحقوق المتقاضين وتمييز بين المرشحين الراغبين بممارسة مهنة المحاماة. وما يزيد من مشاعر القلق على هذا الصعيد هو أن الطعن في نتائج الامتحانات والإدعاءات بحصول تزوير وتلاعب كلها صدرت عن نقباء سابقين أي من أشخاص يفترض أن لديهم حرصاً على النقابة واطلاعاً واسعاً على مجريات العمل فيها.
2-أن النقابة استباحت القضاء وسوّغت التدخّل في شؤونه، تحت ذريعة منع التدخّل في شؤونها. وبذلك، لم تجد حرجاً في انتهاك قاعدة دستورية قوامها احترام استقلالية القضاء وعدم التدخل في شؤونه بالاستناد إلى ذريعة عبثية كما بينا أعلاه.وإلى جانب رفض المساءلة القضائية، اتّخذت هذه الاستباحة أشكالاً عدة:
– الأول، رفض تنفيذ القرار الذي حصل في عرقلة وضع الكاتبين المكلفين من قاضية الأمور المستعجلة الإشارات والأختام المطلوبة على مسابقات الامتحانات،
– والثاني، إعلان إضراب مفتوح حتى الرجوع عن القرار وقد جارتها بذلك نقابة المحامين في بيروت حين أعلنت إضراب يوم واحد. وبذلك، تكون نقابة محامي الشمال قد تصرفت على نحو مشابه لنقابة الأطباء في بيروت في أزمة الطفلة إيللا طنوس حين أعلنت إضرابا مفتوحا حتى الإفراج عن طبيب تم توقيفه على خلفية الخطأ الطبي، وعلى نحو يؤدي إلى ممارسة ضغط غير مشروع على القضاء لاتخاذ قرار وفق وجهة معينة[2].
– والثالث، وهو الأبرز، تضمين بيان النقابة دعوة صريحة لرئيس مجلس القضاء الأعلى جان فهد للتدخّل لدى القاضية لضمان رجوعها عن قرارها. وبذلك، تكون النقابة أقرتّ صراحة وعلانية أنها لا تجد حرجاً في ممارسة الضغط المباشر على القضاة من خلال لجوئها إلى القيادات والمؤسسات القضائية. ونأمل طبعا أن تردّ هذه القيادات والمؤسسات على المناشدة بالتذكير باستقلالية القضاء وبأصول التعامل مع قراراته.
3-أن النقابة أظهرت في هذه القضية توجها استبداديا إزاء أعضائها لم يعد من الجائز السكوت عنه. فلم تنقض ساعات قليلة من صدور القرار حتى سرت أنباء بفصل المحامين الذين تقدموا بالمراجعة القضائية بوجهها، وهم أربعة نقباء سابقين كما سبق بيانه. وحتى اللحظة، يبقى الغموض سيد الموقف: فثمة من يقول أن قرار الفصل مجرد شائعة، ومن يقول أن القرار اتخذ فعليا ولكن تم الرجوع عنه بعد ساعات نتيجة ضغوط سياسية، والذي يقول أن القرار مجمد ويستخدم كوسيلة ضغط على هؤلا ءالمحامين للتراجع عن الطعن في الامتحانات. ولكن بمعزل عن حقيقة الأمر، فإن مجرد إشاعة نبأ كهذا، نبأ شطب هؤلاء من دون أي تكذيب من قبل القيمين على النقابة إنما يدقّ ناقوس الخطر ويستدعي بذل جهود اجتماعية لإعادة تصويب مسار العمل النقابي. فما هذه "السلطة" التي تسوّغ لنفسها اتخاذ قرارات انتقامية فورية بحقّ أشخاص لم يفعلوا شيئا إلا أنهم مارسوا حقاً مشروعاً بالتقاضي ضدها في مسألة اجتماعية حيوية كما سبق بيانه؟ وأخطر من ذلك، ما هي هذه السلطة التي تسوّغ لنفسها اتخاذ عقوبات مطلقة (شطب محامين) من دون تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم أو حتى من دون الإستماع إليهم؟ والأمر يدعو للسخط حين نعرف أن هذه السلطة هي نقابة محامين انوجدت أصلاً لضمان حق التقاضي والدفاع أمام القضاء، فها هي تنتقم ممن يتقاضى ضدها مع حرمانه الكامل من هذا الحق. والأنكى من ذلك هو أن النقابة شنت حربها ضد القرار ومن اتخذه أو شارك فيه على اعتبار الحصانات الممنوحة لمهنة المحاماة، فها هي في خضم ثورتها ضد نقبائها السابقين تستبيح حصانتهم مجردة إياهم ومعهم المحامين كافة من أبسط حقوقهم وضمانات استقلاليتهم، وفي مقدمتها حق الدفاع عن النفس. وللأسف، ليست هذه المرة الأولى التي تلوح فيها نقابة محامين بإجراء مماثل أو تمارسه فعلياً. فقد سبقتها إلى ذلك نقابة المحامين في بيروت حين شطبت محامياً على خلفية تعرضه لنقيب المحامين السابق جورج جريج. وهذا ما علقت[3] عليه المفكرة القانونية في عددها رقم 31 في صدد انتقادها للقرار الإعدادي الصادر عن محكمة استئناف بيروت في 21-5-2015 في تسويغ شطب المحامي إدارياً من مجلس النقابة من دون تمكينه من الدفاع عن نفسه أمام مجلس تأديبي، محذرة من خطورة مما قد يؤدّي إليه هذا القرار من نسف لحرية المحامين وحقوقهم. وقد جاء موقف نقابة الشمال ليؤكد ذلك.
[1] هم خلدون نجا وفادي غنطوس وحسن مرعبي وجروج طوق.
[2] المفكرة القانونية- لبنان، عدد 30، تموز 2015.
[3] ميريم مهنا، ملاحظات على القرار القضائي في قضية فتوش: ماذا بشأن استقلالية المحامي وحقه بالمحاكمة العادلة؟ المفكرة القانونية-لبنان، العدد 31، آب 2015.
متوفر من خلال: