نقابات الأطباء وقضايا التقصير الطبي في تونس: عدالة بعيون فئوية


2017-02-09    |   

نقابات الأطباء وقضايا التقصير الطبي في تونس: عدالة بعيون فئوية

أصدر قاضي التحقيق بالمحكمة الإبتدائية بسوسة يوم 04-02-2017 بطاقة إيداع بالسجن في حق طبيبة متهمة بتقصير مهني أدّى لوفاة مولود في عهدتها. وقد أكد الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بسوسة السيد "محمد رؤوف اليوسفي" أن الطبيبة انتهت بعد فحصها للمولود لإثبات ولادته ميتا وأذنت بإيداعه ببيت الأموات بمستشفى فرحات حشاد بسوسة حيث تعمل. لكن تبين لاحقا أنها قصرت في تشخيص الحالة وأن الرضيع الذي بقي مدة زمنية تقارب اليوم بغرفة الأموات ولد حيا. تطابقت الإفادة القضائية الرسمية مع ماذكره والد الهالك لوسائل الإعلام من أنه وبمجرد وضع زوجته، أعلمه الإطار الإستشفائي بكون زوجته وضعت مولودا ميتا وتمت دعوته في اليوم الموالي لتسلم جثمانه الذي وجده محفوظا ببيت الأموات "بحاوية من الكرتون". وقد اكتشف عند تسلمه لإبنه أنه لا زال يتحرك، فأعلم العاملين بالمستشفى. وتولى حينها فقط الإطار الطبي التدخل ونقل الرضيع لغرفة الولدان أين تمت محاولات لإسعافه انتهت للفشل.

إتحدت نقابات طب الاختصاص مع نقابات الطب العام ونقابات أطباء القطاع العام مع نقابات أطباء الممارسة الخاصة ونقابة أطباء الأسنان في إدانة قرار الإيقاف الذي صدر في حق الطبيبة وقرار الإيقاف الذي سبقه بأيام معدودة وتعلق بطبيب بجهة قابس اتهم بدوره في التسبب في وفاة أحد مرضاه بتقصير منه.

اعتبرت النقابات قرارات الإيقاف جزءاً من حملة هدفها شيطنة مهنتهم كان منطلقها ما صدر من اتهامات في حقهم بالتهرب الضريبي بمناسبة مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2017. ودعت منظوريها لتحركات احتجاجية بمدينة سوسة أيام 04 و05 من الشهر الثاني لسنة 2017 وقررت إضرابا عن العمل بمختلف المؤسسات الإستشفائية بتاريخ 06-02-2017. من جهتها، لم تجد وزيرة الصحة العمومية د. سميرة مرعي أي حرج في الكشف عن موقفها من الاحداث، فعقدت صبيحة يوم الإضراب ندوة صحفية بمقر وزارتها أكدت خلالها "أن تقرير لجنة الخبراء متعددة الإختصاصات التي كلفتها بالتحقيق في حالة الجنين، أبرز سلامة الإجراءات العلاجية والطبية المستوجبة وعدم وجود أي خلل على مستوى التكفل بهذا الجنين".

عقب الندوة مباشرة وفي سياق يذكر بالحروب الإعلامية، شكك الناطق الرسمي باسم المحكمة الإبتدائية بسوسة بالمعطيات التي عرضتها الوزيرة بعدما ذكّر أن التقرير الطبي الذي حرر يوم مباشرة الحالة محجوز على ذمة القضية التحقيقية بما يكون معه مستغربا إعلان نتيجة البحث الإداري دون الاطلاع على هذه الوثيقة الطبية الهامة.

صلابة ردود الناطق الرسمي لمحكمة سوسة لم تمنع قاضي التحقيق الذي يتعهد بالقضية من مراجعة قرار الإيقاف الذي اتخذه بعد ثمان وأربعين ساعة من تاريخه ليقرر في أول أيام إضراب الأطباء الإفراج عن الطبيبة المتهمة بكفالة مالية قدرها 600 دينار متراجعا عن قرار الإيقاف الذي سبق وأن أصدره قبل يومين فقط.

 إعتبرت النقابات قرار الإفراج ثمرة لتضامن الأطباء وإصرارهم على الدفاع عن زملائهم ومهنتهم في مواجهة ما اعتبرته تعسفا من القضاء. وشجعها نجاحها على المضي قدما في حربها فأعلنت مواصلة تحركاتها الاحتجاجية لحين إطلاق زميلهم بقابس أولا وتجميد القرار في ما يخص توظيف الأداءات على القيمة المضافة على الفوائد الصحية  ثانيا والتعجيل بسن قانون حول المسؤولية الطبية "يمنع أي حدّ من حرية الطبيب المتهم في قضايا تخص تأدية واجبه ما لم يتم البت فيها بصفة نهائية في محاكمة عادلة" ثالثا[1].

واعتبرت من جهتها وزيرة الصحة قرار الافراج من ثمار تدخلها. وتولت في ذات يومه استقبال الطبيبة المفرج عنها بمكتبها الوزاري لتعبر لها عن "تعاطفها ومساندتها وتشجيعا لها على مواصلة المثابرة والعمل لما فيه خير الطب التونسي"[2]. ولتجدد التأكيد على انتفاء أي شبهة تقصير في عمل الإطار الطبي. التفتت الوزيرة عن واجبها الإداري كسلطة إشراف على المؤسسات الإستشفائية، فلم تسأل ضيفتها التي تبين أنها طبيبة مقيمة أي طبيبة لم تتم بعد مرحلة التخصص الطبي عن سبب تفردها في معالجة حالة طبية مستعصية، بغياب الطبيب الإستشفائي الذي يؤطر تربصها ويفترض أن يؤمن بدوره حصة الإستمرار الطبي. ولم تجد في مقابل ذلك الوزيرة التي كرست جهدها لتبرئة زميلتها حرجا في ابداء الموقف من تحقيق جزائي لا زال جاريا والتفتت عن أحكام الدستور الذي يحجر كلّ تدخل في عمل القضاء. وقد يكون الإصطفاف القطاعي لوزيرة الصحة من العوامل التي شجعت نقابات الاطباء على المطالبة بإجراءات جزائية خصوصية تحصن منظوريها من الإيقافات القضائية.

أشرت مجريات الأزمة القضائية الطبية على أن جانبا من النخبة التونسية باتت تعد استقلالية القضاء خطرا يتهدد وجاهتها الإجتماعية التي كانت تمنع سابقا المس بها بما يدفعها إلى الاستنجاد بعصبيتها القطاعية لفرض التزام قضائي ومجتمعي بتراتبية طبقية تحصنها من التتبعات الجزائية. وكان يفترض في القضاء كسلطة تواجه ضغط سلطة مضادة ممثلة في النقابات أن يبرز أولا قدرة على مقاومة الضغط وثانيا قدرة على الإقناع بصلابة موقفه. وقد لعبت مؤسسة الناطق الرسمي باسم المحاكم دورا ايجابيا اذ نجحت في  حشد الرأي العام كسند لاستقلالية القضاء. لكن هذا الدور فقد أهميته وفاعليته في ظل ما برز من تأثر سريع من القضاء في عمله المهني بعوامل الضغط الخارجي. فقد كشف عمل القضاء في هذه القضية وغيرها من القضايا التي تتدخل النقابات المهنية والهياكل القطاعية في مجرياتها عن كون قرارات الإيقاف التحفظي التي تتخذ في البداية بسرعة يتم رفعها بذات السرعة متى كان الضغط قويا. ويؤكد هذا الأمر حاجة القضاء التونسي لتطوير أدائه المهني فيما تعلق بالقضايا التي تهم الرأي العام لكي لا يؤول أمره لأن يتحول لأداة ردع لمن لا عصبية لهم تحميهم من قراراته.

 


[1] بيان النقـــابة التونسية لأطباء القطاع الخاص بتاريخ 06-02-2017
[2] الصحفة الرسمية لوزارة الصحة التونسية على موقع الفايسبوك

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس ، الحق في الصحة والتعليم



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني