“
بعد أيام قليلة، ستدخل الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة في لبنان شهرها الأول. بالرغم من التعب والإرهاق والقلق الذي يعيشه المجتمع اللبناني حالياً (خصوصاً من الوضع الاقتصادي والمالي، والأمني أيضاً)، إلا أن مختلف شرائحه الاجتماعية والعمرية والجندرية والمهنية والقطاعية، لا تتوقف عن مفاجأة نفسها يوماً بعد يوم وهي مستمرة في التعبير عن مظالمها الفردية والجماعية في الشارع بأبهى الطرق والوسائل.
من المفيد في مكان التوقف لنسأل عن الأسباب التي أوصلت المجتمع اللبناني إلى هذه المرحلة. مرحلة نزل فيها اللبنانيون واللبنانيات إلى الشارع متخلين في مكان عن العديد من المكاسب، الحقيقية أو المتخيلة، التي كان يؤمنها لهم النظام وأركانه (سلم أهلي، استقرار مالي، خدمات الخ). لا شك أنها مرحلة تأسيسية بدت تتضح معالمها شيئاً فشيئاً.
لقد جرت العادة أن تحلل الأزمات التي يمر فيها لبنان من باب النظام الطائفي والطائفية والاعتبارات الإقليمية المرتبطة فيها. معظم هذه القراءات تقول إنّ النظام الطائفي هو منتج للأزمات وهو نفسه من يحاول فكفتكها وإيجاد حلول لها من خلال بناء التوافق والتحالفات بين أعضاء الطبقة الحاكمة (كحكومات الوحدة الوطنية)، أو طاولات الحوار الوطني (مثلاً مؤتمر الدوحة 2008). لكن في الواقع، وعلى أهميتها، ليست الطائفية وحدها المسؤولة عن إنتاج الأزمات التي وصلنا إليها في لبنان. في الحقيقة، ما يثور ضده المجتمع هو نتائج النظام الاقتصادي النيوليبرالي الذي همش مؤسسات الدولة التي تفترض أن تنتج مفهوم الصالح العام، والذي ساهم في إغناء الطبقة السياسة من خلال تواطئها مع أصحاب رأس المال، ما أنتج في المقابل مجتمعاً مستَهلِكاً ومستَهلَكاً. إذاً، الأزمات هذه ثلاثية الأبعاد: أزمة الدولة، أزمة الطبقة الحاكمة، وأزمة المجتمع اللبناني.
أزمة الدولة: الدولة ليست مصدراً للحقّ
غداة الحرب الأهلية، ظهر خطاب قائم على فكرة أن الدولة الرسمية عاجزة عن القيام بمهامها التقليدية. لم يكن خطاباً فقط، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ممارسة من خلال تلزيم أهم مهمات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية إلى شركات ومؤسسات رديفة أكانت خاصة أو شبه خاصة. أبرز مثل على ذلك هو ملف النفايات. بحسب القانون اللبناني، فإن البلديات هي الجهات المناط بها لمّ ومعالجة النفايات على صعيد نطاقها الجغرافي. وتحت حجة أن البلديات لا تمتلك الإمكانات المادية والبشرية، أنشئت شركات خاصة لهذا الغرض. جراء هذه المعادلة تقلص دور الدولة في إدارة شؤون المجتمع. فمنذ نهاية الحرب، لم ينفق على الاستثمار الرأسمالي العام سوى حوالي 8% من مجموع نفقات الدولة اللبنانية، بحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان.
بعبارات أخرى، لم تتشكل الدولة على أنها مصدر حقّ بالنسبة للمواطنين والمواطنات. فأصبحت هامشية في حياتهم اليومية.
أزمة الطبقة الحاكمة: انفصال تام عن المجتمع وتآكل ذاتي
في نظام ما بعد الحرب، كان التنافس، العلني أو الضمني، السمة الأساس التي أنتجتها ضرورات السيطرة على الموارد. لم تعد إشكاليات النظام، ولو بقيت كذلك في العلن، مسألة تمثيل الطوائف وضمان مصالحها. فعلياً، خرجنا من نظام “تقاسم السلطة” بين الطوائف إلى نظام “تقاسم موارد الدولة” بين من يدعي تمثيل هذه الطوائف، بحسب المؤرخ أحمد بيضون. لقد اشتغل هذا النظام بشكل فعال بالنسبة لأعضاء الطبقة الحاكمة بين العامين 1990 و2005 حيث عرف وبتدخل مباشر من الوصاية السورية نوعاً من الاستقرار العام. فالطبقة التي حكمت توافقت مع بعضها، وظهر لنا أن المؤسسات الرسمية تعمل بشكل منتظم، فلم تتعطل الانتخابات النيابية ولم يشهد لبنان فترات من الفراغ الرئاسي أو الحكومي. بعد العام 2005، ومع خروج الجيش السوري من لبنان، حاولت الطبقة الحاكمة أن تجد نوعاً من التوازنات في ما بينها لكنها فشلت إلى حد كبير فتعطلت بالتالي مؤسسات الدولة وأصبح من غير المفاجئ أن يبقى لبنان لأشهر طويلة من دون رئيس جمهورية، أو حكومة، أو موازنة عامة.
مسببات هذا التعطيل لا تعود إلى عوامل إقليمية فقط، إنما نتجت أيضاً من صراع داخلي حول الموارد، خصوصاً مع وفود طبقة جديدة إلى الحكم بعد 2005 (التيار الوطني الحر)، والتي حاولت تحت مسمى استعادة حقوق الطائفة المسلوبة، أن تسيطر أيضاً على حصة لها من موارد الدولة المتقاسمة.
في السنوات الثلاث الأخيرة، تفاقمت أزمة الطبقة الحاكمة. من جهة، عانت هذه الطبقة من شح للموارد الخارجية التي عادة ما كانت تدعّم شبكاتها الزبائنية الداخلية. ومن جهة أخرى، خرجت خلافاتها الداخلية إلى العلن. ففي ظل تزايد التحذيرات حول احتمال الانهيار المالي والاقتصادي، لم تبذل هذه الطبقة أي جهد لتبني اصلاحات جذرية من شأنها أن تبعد الانهيار عن المجتمع. لا بل على العكس تماماً، ذهب البعض منها إلى نبش قبور الحرب الأهلية وذكرياتها، واقتصر الحراك السياسي والخطاب العام على تبادل الاتهامات من خلال التنصل من المسؤولية ولوم الآخرين.
أنهكت الطبقة الحاكمة نفسها بخلافاتها وتنافسها الداخلي، وانفصلت تماماً عن حاجات المجتمع. أصبح المجتمع وحيداً في مواجهة أزماته المتفاقمة.
أزمة مجتمع: إنتاج فرد مستهلَك ومستَهلِك
أرهق المجتمع اللبناني خلال الحرب الأهلية نتيجة الفوضى والدمار والعنف، وكذلك غياب الدولة الذي سمح للميليشيات والإدارة المدنية التابعة لها، وتحت حجّة تقديم خدمات للمواطنين الواقعين تحت سيطرتها، احتكار الخدمات وتوزيعها ما وصل أحياناً حدّ أخذ الخوّات من المواطنين. خرج المجتمع اللبناني من الحرب منهَكاً تماماً وهو توّاقٌ إلى الدولة. ارتضى بما توفّر له من خدمات في أولى سنوات ما بعد اتفاق الطائف، في انتظار بناء الدولة المنشودة. فبدل أن يطالب حينها المواطن بالكهرباء من مؤسسات الدولة حصراً، قبل بالمولدات الخاصة. لكن، ومع مرور الوقت، تحولت مصادر الخدمات هذه إلى قوة قائمة بحد ذاتها، قيدت بمكان حرية المواطن وقدرته على المحاسبة. في موضوع الكهرباء مثلاً، ظهر أصحاب المولدات الخاصة كشبكة مصالح أقوى من الدولة أحياناً وكان من الصعب جداً إرغامها على وضع عدادات كهربائية كان من شأنها أن تؤدي إلى تخفيض فاتورة المواطن بشكل كبير. إذاً، ما كان مصوراً على أنها حلول موقتة من أجل خدمة المجتمع تحول ليس فقط إلى قاعدة عامة بل إلى عبء كبير على المواطنين، وأنتج أزمات بيئية واقتصادية وغياباً تاماً للمحاسبة.
ففي ظل النظام الاقتصادي النيوليبرالي بعد الحرب، الذي حجّم دور القطاع العام وشيطنه، تقلص دور الدولة وخدماتها ومعها مفهوم الصالح العام، لمصلحة الخاص. لجأ اللبنانيون على مختلف طبقاتهم إلى خدمات بديلة من أجل الوصول إلى الخدمات والاستمرار بالحياة. أصبحت الحياة اليومية تعتمد على استهلاك الخدمات في ظل غياب تامّ للخدمات العامة.
في موازاة ذلك، وفي ظل غياب تام لسياسات عامة عادلة، تم تسهيل الوصول إلى الخدمات الاستهلاكية (قروض السيارات) أو الأساسية (السكن والتعليم) من خلال القروض التي قدمتها المصارف اللبنانية لتحقق أرباحا عالية من خلال الفوائد المرتفعة. في أرقام نشرت مؤخراً، يظهر بأن المواطن اللبناني تحوّل إلى مستهلك من أجل تأمين حياته اليومية بدل أن يكون مواطناً تقدم له الدولة هذه الخدمات، حيث أصبحت “القروض الشخصية” والاستهلاكية تقتطع نحو 50% من مدخول العائلات والأشخاص. ارتطبت نوعية الحياة، بتوفر القروض من عدمه. ليس مستغرباً أن العديد من الأعراس قد ألغيت حين قررت الحكومة اللبنانية وقف دعم قروض الإسكان في العام 2018. وكأن سعادة المجتمع أصبحت تمر من خلال الاستهلاك المبني على القروض الذي كان يضع، إلى جانب فواتير الخدمات الأساسية (الصحة، التعليم، الكهرباء، الماء…) أعباءً مادية إضافية على الأفراد والأسر.
في الواقع، فإن النظام الاقتصادي والمالي المأزوم الذي قام بعد الحرب أنهك المجتمع اللبناني وساهم في انحلاله وتفتيته. من جهة، أثرت الهجرة بسبب الوضع الاقتصادي سلباً على التماسك العائلي والاجتماعي، ومن جهة أخرى أدت الأعباء الاقتصادية إلى تفكك نسيج المجتمع والانحلال على نحو أدى إلى انغلاق الأفراد على شؤونهم وشجونهم اليومية، وراحوا يصارعون وحيدين من أجل الاستمرار بالحياة.
إذاً، الأزمة هي أيضاً أزمة مجتمع وصلت إلى أقصى حدود التحمل وقدرته الاستهلاكية جراء الضيقة الاقتصادية فانتفض على الطبقة الحاكمة، وطالب بالحق.
“الرأسمال الاجتماعي” قيد التطور: نحو رفاهية وتضامن المجتمع
ليست مسألة إسقاط النظام مسألة بسيطة. في الحقيقة، هي تتطلب ليس فقط كسر عناصره الثلاثة (السيطرة على التصورات، السيطرة على العنف، والسيطرة على الموارد ورأس المال)، إنما أيضاً بناء أخرى تحل محلها. في الوقت الذي يأخذ النقاش الحالي منحًى يتعلق بإعادة تشكل السلطة والمحاسبة (قانون الانتخابات، حكومة انتقالية…)، لا يجب أن ننسى أن إعادة بناء المجتمع، هي أحد أهم عناصر المرحلة التأسيسة.
في فترة ما بعد الطائف، أصبح الرأسمال الاجتماعي مرتبطا بالسلطة ومكوناتها. كان من الصعب جداً الوصول إلى أي مركز أو الحصول على وظيفة من دون أن يكون الفرد بشكل أو بآخر مرتبطا بالنظام وآلية اشتغاله. فتلاحم الرأسمال الاجتماعي مع الرأسمال الاقتصادي. وهذه هي سمة النظام اللبناني منذ الاستقلال، حيت تتكاثر مثلا الجيزات بين أبناء الطبقة السياسية وأصحاب رأس المال. بعد الحرب، بلغ هذا التلاحم أوجّه. كثرت الصدقات بين الإعلاميين والقضاة وغيرهم من جهة والسياسيين من جهة أخرى. أصبح الرأسمال الاجتماعي في بلد مثل لبنان مدخلاً لتراكم الثروة وتعاظم النفوذ. لا أكثر.
حالياً، في حين أن النظام ما زال يمتلك رأسمالاً مادياً واقتصادياً، إلا أنه صار يواجه رأسمالاً اجتماعياً ظهرت ملامحه الأولى من خلال التضامن الاجتماعي والمقاومات اليومية الصادرة عن المجتمع. هنا، تقدم لنا اللحظة الثورية مثالاً عن رأسمال اجتماعي ناشئ لا بد له من أي يمتد إلى المؤسسات (الجامعات…) والقطاعات المختلفة، من أجل تحصين المجتمع ووضع المواطن وحقوقه حجر أساس في أي مرحلة انتقالية. هذا الرأسمال الاجتماعي هو الكفيل وحده في تأمين استدامة ليس الثورة فقط إنما أيضاً صيرورتها ومفاعيلها. كما أنه الكفيل أيضاً بترسيخ السلم الأهلي في وجه محاولات زعزعته من قبل السلطة.
جزء من الرأسمال الاجتماعي هذا هو التضامن والتكاتف الذي بدأ يعرفه المجتمع اللبناني. الأمثلة عدة. فمثلاً، كان كفيلاً بمواطنة أن تحمل يافظة تقول بها إن مطعماً تعمل فيه قد حسم لها نسبة 40% من معاشها، لكي يتظاهر أمامه المئات ويعيدوها إلى العمل بمعاش كامل. أمثلة أخرى أيضاً شهدناها في الأيام الأخيرة، منها مثلاً إجبار المستشفيات على استقبال أو تسريح من لا يملك المال من أجل الاستشفاء، في ظاهرة تشير إلى انقطاع تامّ مع فترة سابقة كان يموت فيها هؤلاء على أبواب المستشفيات. كذلك الأمر بالنبسة لإجبار المصارف على القبض بالعملة اللبنانية لدفع القروض بالدولار، أو إجبار محلات الصيرفة على التداول بسعر الصرف الرسمي. كل هذه المقاومات اليومية والتضامن الاجتماعي تعيد إحياء مبدأ الحق، بعدما كانت المطالبة به أشبه بضرب من ضروب الخيال قبل 17 تشرين الأول 2019.
الثورة لا يجب أن ترتضي بالقليل، بغض النظر عن برنامج الحكومة المقبلة والخطة الاقتصادية والمالية. لا بد من الدفاع والحفاظ عن الرفاه والفرح الذي شعر به المواطن والمواطنة حين اكتشف وظيفة الحيز العام (حوارات، أو المشي على الأقدام في الطرقات الخالية من السيارات)، أو حين اكتشف معنى الحق من دون المرور بأعضاء الطبقة الحاكمة.
إنه الحق بالحلم. فلنرسخه حقاً ملزماً لنا جميعاً، مجتمعاً ودولة.
“