أُنجز هذه المقالة في أوائل شهر آب الماضي. وقد أخّرنا نشرها تبعاً لانفجار المرفأ. منذ ذلك الحين، ازدادت حدّة الأزمة الاجتماعية والسياسية ومعها حدّة الفقر في طرابلس ومناطق عدّة من لبنان. وقد ارتأينا اليوم أن يتم نشره ليقرأ على وقع مأساة “قوارب الموت” التي تبحر انطلاقاً من ميناء طرابلس هرباً من مذلّة الفقر والعوز (المحرّر).
من النظرة الأولى، لا يبدو مشهد سوق العطارين في مدينة طرابلس مختلفاً في زمن كورونا عمّا كان عليه من قبل. حركة المارّة خانقة، يعرقلها مرور بعض الدراجات النارية، أصوات تجّار الخضرة تتنافس في جذب زبائن بأسعار “مغرية”، وصوَر لزعماء المدينة تلاشت ألوانها بفعل مرور الزمن، تشرف على المشهد وكأنها تؤشر إلى مباركة الزعيم لحياة السكان اليومية. ولكن لا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً حتى يلاحظ المراقب تشققات في هذا المشهد، تكشف الستار عن مدينة مرّت عليها جائحة زادت من معاناتها المعيشية. يرتدي قلّة من الأفراد الكمّامات، ممّا يذكّر بوجود وباء خطف اهتمام العالم بأكمله، فيما تُظهر دردشات التجّار معاناتهم من جرّاء الأزمة الاقتصادية التي تخنق البلاد. كما يُلحظ في السّوق بعض المساحات التي خلت من تدافع الزبائن، وهي محلّات اللحمة والدواجن التي نادراً ما يقترب منها أحد، وفي حال فعل، يعود ليبتعد وملامح وجهه تعكس صدمته بالأسعار الجنونية.
أتت جائحة كورونا إلى لبنان في وقت كانت تشهد فيه البلاد تغيّرات في المشهدين السياسي والاقتصادي، وبخاصّة تبعاً لانتفاضة 17 تشرين. ولم تستثنَ عاصمة الشمال طرابلس، المعروفة بلقبها المستجدّ “عروس الثورة”، من هذه التغيّرات. فقد أدّى اشتداد الأزمة الاقتصادية، معطوفاً على انتشار جائحة كورونا، إلى تحوّلات عميقة في العلاقات الاجتماعية، وتحديداً في العلاقات والشبكات الزبائنية الطرابلسية التي تهمّنا في هذه المقالة، وهي تحوّلات طالت العقد الذي كان قائماً بين الزعماء و”زبائنهم” منذ نهاية الحرب اللبنانية في 1990. ونسعى في هذه المقالة إلى عرض العوامل التي مهّدت لتغيّر طبيعة العلاقة بين الزعيم و”زبائنه” في طرابلس، لنحاول من ثمّ فهم شروط العلاقة الجديدة، لا سيّما في ظل تزعزع الثقة والالتزام بين الطرفين.
وقد اخترنا التعمّق في حالة طرابلس، لأنّ المدينة تشكّل نقطة تلاقٍ بين ميزات جوهرية في المعادلة اللبنانية وهي على التوالي: نسبة فقر مرتفعة، نظام زبائني متشعّب، ونشاط ملفت في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. وإذ نعلم أنّ الشبكة الزبائنية الطرابلسية تمتدّ إلى كافّة الطبقات الاجتماعية في المدينة، كما يختلف شكلها بين طبقة وأخرى، سينحصر بحثنا بالطبقات الأكثر فقراً، عبر مقابلات أجريناها مع سكّان من أحياء محرومة ونشطاء من المدينة.
“ما في كورونا بطرابلس”: الوجه الجديد لحذر المدينة من الدولة
لم يرَ السّكان الذين قابلناهم كورونا كخطر صحّي: “نحنا قد ما آكلين جراثيم ما منتأثر بكورونا”[1]. عبّر خالد بنبرة ساخرة عن استهزائه بحظر التجوّل الذي فُرض: “شو لأنّ الرطوبة أعلى عشية وبتنتشر كورونا أكتر؟” لينفجر ضاحكاً. انطلاقاً من هذه النظرة للوباء، رأى عدد من السكان كورونا والتدابير المتعلّقة بها أداة سياسية بامتياز تستخدمها السّلطة كحجّة لقمع التظاهرات. “صرت حسّ الأرقام كذب… بس نزلوا الثوّار بدهم يقطعوا الطريق قال صار في بنفس النهار فجأة 50 حالة كورونا على الأخبار! 50! ما مبارح كانوا صفر بس نزلوا الثوّار صاروا خمسين؟ حلّوا عنَا، عم تضحكوا علينا”.
في بحثه حول حيّ باب التبانة، يجادل الباحث الفرنسي الراحل ميشال سورات أنّ هذا الحذر من الدولة قديم في طرابلس، وله أسباب بنيوية. يشرح سورات أنّ طرابلس كانت مدينة تنعم باكتفاء ذاتي، تتميّز بنموّها الاقتصادي والثقافي، إلى أن تمّ دمجها في “إطار وطني” مع إعلان دولة لبنان الكبير[2]. فمن جهة، اعتبرت طرابلس أنّ الدولة اللبنانية تم إنشاؤها من قبل الغرب الذي أراد أن يفرض على الإسلام نموذج “التحديث السياسي” الخاص به[3]. ومن جهة أخرى، رفضت طرابلس فكرة الدولة في المطلق كونها كياناً يساهم بتقسيم أمّة المؤمنين[4]. ويبقى هذا الحذر إزاء الدولة عاملاً أساسياً لفهم ريبة الطرابلسيين إزاء الإجراءات المتّخذة لمواجهة “الوباء”، ولكن أيضاً لاستشراف التطوّرات المحتملة للمشهد الطرابلسي والتي سنتناولها في خاتمة هذه المقالة.
كورونا والأزمة الاقتصادية تمهّدان لتحوّلات في الزبائنية الطرابلسية
يرتكز النظام الزبائني على شبكة خدمات يقدّمها الزعيم لسكان طرابلس وتصبّ في خدمة حاجاتهم المعيشية، وذلك لقاء دعمهم السياسي. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في زمن كورونا، اضطرب النظام هذا، حيث ازدادت حاجات السكان في موازاة انحسار قدرة الشبكة الزبائنية على تقديم الخدمات.
كورونا تزيد “الطين بلّة” وتزيد من حاجات الطرابلسيين المعيشية
زادت كورونا والتدابير الحكومية المتعلّقة بها من تدهور الوضع الاقتصادي في المدينة. فالجائحة أدّت إلى مفاقمة الانكماش الاقتصادي الذي تعاني طرابلس منه. بكلام آخر “زاد موضوع كورونا الطين بلّة”. “الدولة ما عوّضت للناس وما أعطتهم شيء بالمقابل، إنه إنت ما تنزل على الشارع كرمال كورونا بس كيف بدي عيش؟” كان تعليق ماهر. وفي حيّ المنكوبين “كلّه بيشتغل يومي، طيّب أنا قعدت بالبيت كيف بدّي آكل وأشرب، كيف بدّي إدفع أجار البيت والإشتراك والميّ؟”. ووسط غلاء الأسعار وإغلاق عدد من المحلات، برزت تداعيات الأزمة على حياة الطرابلسيين الاجتماعية. ففي مدينة تتميّز بالعلاقات الاجتماعية النشيطة بين سكانها، لم يأتِ الاعتراف بهذه التداعيات بسهولة. فبالرغم من نفي هذا الأمر خلال المقابلات، ظهرت خلال الحديث آثار الأزمة على أسس حياة طرابلس الاجتماعية. تأثرت إمكانية خروج السكّان واختلاطهم، لا سيما تدخين النرجيلة في المقاهي: “كانوا يلتقوا الشباب بعد الشغل بالقهاوي… الأسعار غليت يعني مثلاً الأرغيلة كانت بـ5000 صارت حوالي 10000 العالم مش قادرة بقى تجي تاخد أرغيلة وتصرف هلقد”[5]. وأفاد أحد تجار الخضار في سوق باب التبانة وهو يشير بإصبعه إلى السّوق شبه الفارغة ” هيدا سوق خضرا؟ كان السّوق ما يفضى ليل نهار، تعا الصبح ما فيك تحطّ إجرك. هلّق ما في حدا”. كما أصبح السكان يمتنعون عن شراء عدد من المواد الغذائية لا سيّما اللحمة نظراً للغلاء: “حدا بياكل فاصوليا بالصيفية؟ ومن دون لحمة!”[6]. وفي ظلّ هذا التدهور في حياة الطرابلسيين الاقتصادية والاجتماعية، زادت حاجات هؤلاء حيث لم تعد الخدمات التي كان يقدّمها الزعيم عادةً كافية لتلبيتها. فأبعد من الخدمات الصحّية التقليدية، أصبح أمن السكان الغذائي على المحكّ.
الأزمة الاقتصادية تضعف قدرة شبكة الزعماء الزبائنية
منذ 1990، لم يتمكّن أيّ طرف سياسي أن يفرض نفسه كممثّل أوحد لمصالح عاصمة الشمال، فتقسّم المشهد السياسي بين زعماء تقليديّين كآل كرامي وأصحاب أعمال كمحمد الصفدي ونجيب ميقاتي[7] وآل الحريري. وقد استغلّ الزعماء غياب أيّ شبكة حماية اجتماعيّة تؤمّنها الدولة[8] ليرسّخوا فكرة “الدولة الغائبة” التي يجهدون لأداء وظائفها[9] عبر شبكاتهم الزبائنية. فسّر خالد، وهو مقرّب من الشبكة هذه في طرابلس، سير عملها والشكل الذي تتخذه. في طرابلس ترتكز الخدمات الزبائنية على الطبابة والاستشفاء[10]. تُقدّم خدمات أخرى في ظروف استثنائية كتوزيع حصص غذائية وثياب خلال فترة رمضان ورشوات مالية خلال فترة الانتخابات، ولكن يبقى الثقل الأكبر لخدمات “الصحّة” التي تقدَّم عبر ثلاثة طرق[11]. أولاً، لكل زعيم مكتب خدمات يعمل ضمنه عدد من الوكلاء من سكّان مختلف الأحياء، وهم صلة الوصل مع السّكان. فيطلب هؤلاء السّكان من الوكلاء تغطية قسم من تكلفة الاستشفاء، علماً أنّ كلّ زعيم “يتعامل” مع مستشفى معيّنة في طرابلس. وبعدما ينال الوكيل موافقة المكتب، تتم تغطية قسم من الكلفة عبر موارد وزارة الصحّة في غالب الأحيان، ونادراً من أموال الزعيم الشخصية. ثانياً، لكلّ زعيم مستوصفات منتشرة في المدينة تقدّم خدمات صحيّة مثل مستوصفات “العزم والسعادة” التابعة لنجيب ميقاتي و”مستوصفات الكرامة” التابعة لآل كرامي. وثالثاً، يقوم الزعيم بتمويل بعض الجمعيات الأهلية الناشطة في طرابلس في الغالب من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية، فتكون الخدمة الزبائنية غير مباشرة.
أتت الأزمة الاقتصادية لتضعف القطاع الصحّي ومعه تلقائياً قدرة الشبكة الزبائنية الطرابلسية التي تعتمد بشكل أساسي عليه. بالإضافة إلى انخفاض موارد مؤسّسات الدولة وضمنها وزارة الصحّة، يشهد لبنان اليوم انهيار قطاعه الصحّي وهو انهيار بدأ مع صعوبة تأمين الدولار لاستيراد الأدوات والمستلزمات الطبّية للمستشفيات والمراكز الطبّية ومن ثمّ لاستيراد أدوات الوقاية الطبية في ظل الجائحة. كما شهدت البلاد انقطاع عدد من الأدوية المهمّة في السوق خلال الشهر الماضي. بحسب أحمد، أحد سكّان المنكوبين الذي يعتبر نفسه مناصراً لفيصل كرامي الذي أمّن له كلفة الاستشفاء عبر وزارة الصحّة سابقاً، يستحيل على الزعماء أن يستمرّوا بتقديم هذه الخدمات التي باتت تنحسر اليوم وسط أزمة المستشفيات: “ما في حدا يكمّل بهيدا الموضوع (خدمات الاستشفاء)، المستشفى الإسلامي ما بقى فيها دوا ولا أطبّاء والمستشفى الحكومي نفس الشي، البلد على انهيار، الخدمات خافّة كتير… إذا بدّك راسّور (دعامة قلب) ما بقا في، أصلاً راسّور ما بقا فيه بالمستشفيات والوزارة”. فكيف لنظام زبائني أن يقدّم خدمات استشفاء وسط أزمة في القطاع الصحي ناتجة عن أزمة اقتصادية؟ “منهم قادرين (زعماء طرابلس) يعطوا متل قبل لأن الاقتصاد عم ينهار والنظام الاقتصادي أكبر منهم كليّاتهم”[12].
أسس العلاقة الزبائنية ضحية الوباء: لا ثقة ولا التزام
من أجل التعمّق في التحولّات في العلاقة بين الزعيم و”الزبون”، يجدر تجاوز الأحكام القيمية للزبائنية التي تضعها في خانة الشذوذ السياسي[13] أو “التخّلف”، ومقاربتها كأحد نماذج تنظيم حياة مجتمع تُبنى على أساس علاقات معيّنة، كسائر العلاقات الاجتماعية بين طرفين، تنظّمها خصائص ومبادئ.
من جهة، يكشف عملنا الميداني أنّ علاقة الالتزام بين الزعيم والزبون، أي التزام طرف بواجبه تجاه الطرف الآخر، تزعزعت في زمن كورونا. ورد في بعض المقابلات أنّ هناك عتباً على الزعماء كونهم لا يؤدّون الواجب الذي يفرضه العقد الزبائني عليهم، أي تقديم المساعدات، مع تفاقم الأزمة وتردّي الأوضاع المعيشية. “عندك الصفدي مثلاً معروف أنّه غني على مستوى لبنان، نجيب مقاتي كمان، لازم يكون دورهم أكبر بالفترة هيدي” كان تعليق أحد سكان حيّ أبي سمراء. “السياسيين ما فادونا بشي بالآخر بهيدي المرحلة الصعبة… من فترة أسبوع راحت المظاهرات أمام بيوت السياسيين متل أشرف ريفي ونجيب ميقاتي وقالولهم ما عم بتفيدونا بشي، إنه لازم يعملوا شي يغيّروا الوضع”. وأفاد أحمد من سكان المنكوبين أنّه “في ناس، لو مع الزعيم، عم تنزل على الثورة وتقطع طريق وتحرق لأن جاعت، الزعيم ما عم يكفيهم”.
في عمله البحثي[14] حول مبادئ الزبائنية، يفسّر جان فرانسوا ميدار أنّ العلاقة الزبائنية هي علاقة واجب والتزام أخلاقي على عاتق الطرفين. وفي طرابلس تحديداً، علاقة الالتزام هي أساس العلاقة بين زعماء المدينة وسكانها تعززها الخدمات المقدّمة من قبل جمعيات الزعماء الخيرية[15]. من جهة الزعيم، هناك واجب تجاه “من هو أدنى منه”، واجب يتمثل بـ”فروض النبالة” (noblesse oblige)، يقابله من جهة أخرى واجب أو فروض الزبون بردّ الجميل[16]. ولكن يبدو من منظار “الزبائن” أنّ الزعماء تخلّوا عن واجبهم والتزامهم وسط الانهيار المعيشي، ممّا يهدد العقد القائم بين الطرفين والذي يعود بالنسبة إلى البعض إلى 1990 أو حتى إلى ما قبلها (كما هي حال آل كرامي).
من جهة أخرى، تُبنى الروابط الزبائنية على الثقة بين الزعيم والزبون، فيجب أن يكون لكلا الطرفين ثقة بأنّ الطرف الآخر سيؤدّي واجبه تجاهه أو سيوفي بوعده[17]. فعلى سبيل المثال، يؤدي الزعيم خدمات قبل الانتخابات ويثق أنّ الزبون سيفي بوعده تجاهه عند هذا الاستحقاق، أو يصوّت الزبون للزعيم قبل أن يحصل على الخدمات الموعودة، واثقاً أنّ الزعيم سيقدّمها في مرحلة لاحقة. هذه هي الثقة التي تشهد تزعزعاً لدى الزعيم كما لدى الزبون.
فمن جهة الزعيم، يعتقد خالد أنّ عدداً كبيراً من السّكان الذين ينتفعون من خدمات زعيمهم لن يفوا بوعدهم في الانتخابات المقبلة ولن يصوّتوا له: “المال عم يغري الفقير، بس يجوا الانتخابات رح ياخدوا (الزبائن) المال (المقدّم من الزعيم) بس بشك عدد كبير يصوّتولوا”. وبحسب الناشط عبيدة تكريتي، فإنّ عدم ثقة الزعيم بمناصريه هي سبب عدم تقديم الزعماء مساعدات اليوم: “بدهم يعطوا للناس ليكسبوا ولاءات بس برأيي حالياً ما عندهم ناس يجيّشوهم وراهم بالقدرة الخيالية اللي كانت موجودة قبل… مش حاسّين (الزعماء) إنّهن قادرين ياخدوا ولاءات أي ناس فما رح يكونوا مهتمّين يعطوا خدمات، ما رح يعملوها عمل خير يعني بحت”. ويمكن مقارنة مقاربة السياسيين هذه بالمشهد في مدينة صور مع حركة أمل.
فقد ورد في مقابلة أجرتها “المفكرة” في الأسابيع الأولى من الحجر الصحي مع أحد “كوادر” الحركة الذي ترك حزبه مع اندلاع الثورة: “ليه هلّق مسكرين النواب البيوت وما بتسمع نفسهم؟ … أنا صرلي 40 سنة معهم بفهم، بيجوْعُوك بيِزِرْكوك بيِزِرْكوك آخر شي بيعطوك منفس صغير (حصة غذائية) بتقول خي ريّحوني… ناطرين الناس تنحشر تنحشر بس ترفع صوتها الناس بينزّلولهم مساعدات”. فهل الزعماء يراهنون على تفاقم الحاجة لدى جماهيرهم وبلوغها ذروتها قبل أن يفوا بـ”فروض النبالة” بعدما تزعزعت ثقتهم بزبائنهم؟
من جهة “الزبائن”، يفسّر عبيدة أنّ الثقة اهتزّت أيضاً: “الناس منهن قادرين يصدّقوا أي شي بيقولوه (الزعماء)، وحتى لما يصير تحرّكات قدّام بيوتهم، منهم حتى قادرين يجيبوا ناس يوقفوا بوجّهم (الثوار)”. فلم يعد يثق المناصرون أنّ الزعيم سيفي بوعده في المستقبل، ويفضّلون أنّ يحصلوا منه على الخدمة (المال في هذه الحالة) قبل أنّ يعبّروا عن أيّ ولاء له. فمثلاً، لا يعود تجمهرهم لحضور مناسبة يدعو إليها الزعيم كـ”تحصيل حاصل” بل يصبح مشروطاً بحصولهم على مقابل مالي بصورة مسبقة أو على الأقل فورية.
فكيف يتجلّى اضطراب علاقة الالتزام والثقة بين الزعيم ومناصريه؟
نشهد هذا الاضطراب في المثال الذي تناولناه أعلاه أي مثال المناصرين الذين يشترطون الحصول على مبلغ ماليّ للتجمهر أمام منزل زعيمهم. ففي هذه الحالة، نرى أنّهم ولئن لم يتخلّوا عن زعيمهم أو ينخرطوا في الثورة، إلّا أنّ شروط العلاقة بينهم وبين هذا الأخير قد شهدت تغيّراً هامّاً تبعاً لتراجع ثقتهم فيه وعدم اكتفائهم بالوعود.
كما نشهد هذا الاضطراب لدى فئة أخرى من الأفراد الذين لا يزالون ينتفعون من خدمات الزعيم ويقدّمون وجه “المناصر” له، ويشاركون في تحرّكات الانتفاضة، أي وجه “الثائر”: “في ناس بيقولولك نحنا ضدّ فلان وبينزلوا على مظاهرة ضد فلان، هنّي نفسهم بتلاقيهم بحشد لفلان بس يجي على طرابلس… الناس صار عندها وجهين، وجه للثورة ووجه للزعيم وخدماته”.[18] وقد يعود ذلك إلى خوف الطرابلسيين من التخلّي عن خدمات الزعيم، وكأنهم يريدون الانضمام إلى الثورة مع “حفظ خطّ الرجعة” في حال لم “تنجح” الثورة نظراً إلى حاجاتهم إلى خدماته. بحسب أحمد، “كل الناس قلبهم وروحهم مع الثورة، بس عم بيضلّوا إجر هون ونص إجر هونيك، فزعانين، العالم كلها حابّة التغيير، خايفين إنّه هيدي الثورة ما تنجح لوين بدهم يرجعوا؟ بيكحشهم (الزعيم) بيبطّل يعطيهم”.
خلاصة
بعدما تزعزت مبادئ العقد القائم منذ أمد (وبخاصّة بعد حرب 1975-1990) بين الطرابلسيين وزعمائهم، ونظراً إلى اشتداد الأزمة الاقتصادية، وانتشار وباء كورونا، وازدياد الحاجات المعيشية، هل سينهار العقد الزبائني الطرابلسي كلياً؟ والأهم، ماذا سيحلّ محله في حال انهياره؟
انطلاقاً من حذر سكان طرابلس المزمن إزاء الدولة والذي تطرّقنا إليه بداية، ومن انهيار ما تبقّى من خدماتها في خضمّ الأزمة الحالية، قد يكون التنبّؤ ببروز الدولة على أنقاض الشكل الحالي للزعامة تسرُّعاً لا يخلو من اللغو. فهل هذا يعني أنّ طرابلس ستشهد أشكالاً جديدة من الزبائنية والزعامات، أو بالأحرى أشكالاً أخرى مبتكرة من التضامن الاجتماعي في المرحلة المقبلة، لم يختبرها لبنان بعد؟ فلنتابع.
[1] خالد، وكيل لأحد الزعماء في طرابلس، 18مقابلة مع “المفكرة”، 18/6/2020.
[2] Michel Seurat, “Le Quartier De Bâb-Tebbâné à Tripoli (Liban). Étude D’une ‘Asabiyya Urbaine,” in Syrie, L’État De Barbarie (PUF, 2012), pp. 235-284.
[3] المصدر أعلاه.
[4] المصدر أعلاه.
[5] ماهر، من سكان أبي سمراء، مقابلة مع “المفكرة”، 17/6/2020.
[6] أحمد، من سكان المنكوبين ومناصر لفيصل كرامة، مقابلة مع “المفكرة”، 2/7/2020.
[7] Dewailly, Bruno, “Transformations du Leadership Tripolitain: Le Cas de Nagib Mikati” in Leaders et Partisans au Liban, edited by Frank Mermier (Karthala, 2012), 165-185.
[8] Dewailly, Bruno and Le Thomas, Catherine, Pauvreté et conditions socio‐économiques à Al‐Fayhâ’a: Diagnostic et éléments de stratégie, Agence Française de Développement (2009).
[9] لمى كرامة، “في صناعة الفقر وتغريبه: كيف تعاملت السلطات مع الفقر؟”، موقع “المفكرة”، 30/4/2020: https://legal-agenda.com/article.php?id=6776
[10] خالد، وكيل لأحد الزعماء في طرابلس، مقابلة مع “المفكرة”، 18/6/2020.
[11] تركيبة الشبكة الزبائنية هذه تعتمد من قبل زعماء عدّة في طرابلس بحسب خالد.
[12] عبيدة تكريتي، ناشط ومؤسّس خيمة النقاشات “ساحة ومساحة”، مقابلة مع “المفكرة”، 3/7/2020.
[13] لقراءة المزيد: Jean-Louis Briquet, “Les Formulations Savantes d’Une Catégorie Politique. Le Clientélisme Et l’Interprétation Sociohistorique Du « Cas Italien »,” Genèses, no. 62 (2006): pp. 49-68.
[14] Medard, Jean-François. “Le rapport de clientèle : du phénomène social à l’analyse politique”. In: Revue française de science politique, 26ᵉ année, n°1, 1976. pp. 103-131.
[15] Dewailly, Bruno and Le Thomas, Catherine, Pauvreté et conditions socio‐économiques à Al‐Fayhâ’a : Diagnostic et éléments de stratégie, Agence Française de Développement (2009).
[16] Medard, Jean-François, op.cit.
[17] Allen Hicken, “Clientelism,” Annual Review of Political Science 14, no. 1 (2011): pp. 289-310, https://doi.org/10.1146/annurev.polisci.031908.220508.
[18] خالد، وكيل لأحد الزعماء في طرابلس، 18مقابلة مع “المفكرة”، 18/6/2020.