في إطار جهودها لتعزيز المشاركة الاقتصادية للمرأة، أصدرت الحكومة الأردنية نظام العمل المرن في عام 2017. ويُفترض في هذا النظام أن يستجيب للتحدّيات التي تواجه المرأة العاملة، مثل الجمع بين المسؤوليات العائلية ومتطلبات العمل، إضافة إلى تعزيز فرص الحصول على عمل لبعض الفئات الأخرى مثل الطلبة العاملين والأشخاص ذوي الإعاقة. وقد أثار صدور النظام العديد من التساؤلات وتعرّض للعديد من الانتقادات، فضلا عن الأسئلة المطروحة حول مدى قانونيته أو الجدوى من إصداره.
فمن المعروف أنّ عقد العمل يتّصف بالرضائية والمرونة، فإذا تمّ التوافق بين العامل وصاحب العمل على صيغة عمل مرنة مثل العمل عن بعد أو العمل لبعض الوقت، فلا يوجد مبرّر أن يصدر نظام لهذه الغاية. كما أن النظام لم يحدّد حقوق العامل أو العاملة المستفيدة من هذا النظام فيما يتعلق بالحماية الاجتماعية والاشتراك في الضمان الاجتماعي.
في العام 2019، تم تعديل قانون العمل وتمّ إضافة تعريف للعمل المرن باعتباره “كل جهد فكري أو جسماني يبذله العامل لقاء أجر ضمن أحد أشكال عقد العمل المرن المحدد وفق نظام يصدر لهذه الغاية”[1]، وبالتالي أصبح لازما على الحكومة إصدار نظام جديد للعمل المرن بعدما اكتسب شرعية وجوده.
في العام 2024، صدر نظام العمل المرن رقم 44/2024 الذي لم يختلف كثيرا عن النظام السابق رقم 22/2017، إلا أنه حاول تلافي بعض الانتقادات التي تمّت إثارتها سابقا. وبحسب مجلس الوزراء الأردني، يهدف هذا النظام إلى رفع نسبة التَّشغيل في سوق العمل، والمساهمة في الحدِّ من معدَّل البطالة، وزيادة نسبة مشاركة المرأة الاقتصاديَّة في سوق العمل، والتَّخفيف على العمَّال والسَّماح لهم بأداء أعمالهم بما يتواءم مع مسؤوليَّاتهم العائليَّة وظروفهم الاجتماعيَّة وبما يتوافق مع أنماط العمل الجديدة. ويهدف النِّظام كذلك إلى خفض الكُلف التَّشغيليَّة، وخفض معدَّلات الدَّوران الوظيفي، وتمكين وزارة العمل من القيام بالمهام والأدوار المحدَّدة لها بموجب القانون في تنظيم سوق العمل بشكل عام، وتنظيم أشكال العمل المرن بشكل خاصّ.
لكن تكررت الانتقادات السابقة للنظام من قبل الجهات المعنية بالحقوق الاقتصادية وخبراء التأمينات الاجتماعية. في جميع الأحوال يتطلب الموضوع موافقة صاحب العمل، وهو الأمر الذي يضعف هذا النظام، كما ينفي الحاجة إليه في الوقت نفسه؛ إذ في حالة توافق العامل وصاحب العمل على شكل من أشكال العمل المرن، لا يوجد ما يمنع من تنظيم عقد بهذه البنود من دون الحاجة للنظام من الأساس.
اعتمد النظام أشكالا محدّدة للعمل المرن[2]، وهي:
_ العمل عن بُعد: العمل الذي يؤدّيه العامل لقاء أجر خارج المواقع المخصصة للعمل.
_ العمل لبعض الوقت: الاتفاق على أن يعمل العامل لساعات أقلّ من ساعات العمل المنصوص عليها في القانون إذا كانت طبيعة العمل تسمح بذلك.
_ العمل ضمن ساعات مرنة: الاتفاق على توزيع سيضمن ساعات العمل اليومية المحددة للعامل خلال اليوم على أن لا يقلّ مجموع عدد ساعات العمل اليومي التي يتم توزيعها عن عدد ساعات عمله المنصوص عليها في القانون أو النظام الداخلي للمؤسسة.
_ أسبوع العمل المكثّف: الاتفاق على توزيع ساعات العمل الأسبوعية على عدد أيام تقلّ عن عدد أيام العمل المتفق عليها، على أن لا تتجاوز ساعات العمل في اليوم الواحد إحدى عشرة ساعة.
_ السنة المرنة: الاتفاق على العمل في أشهر محددة من السنة، على أن يتم توزيع أجر الأشهر التي يتم العمل بها على السنة كاملة، وأن لا تزيد مدة الانقطاع عن العمل خلال السنة الواحدة على شهرين.
النظام عالج استخدام أي عامل ضمن أحد أشكال العمل المرن أو تحويل عقد العمل الاعتيادي (غير المرن) إلى عقد عمل مرن، إذا كان من الفئات التالية:
_ العامل المنتظم في أحد البرامج الأكاديمية أو المهنية بجميع مراحلها.
_ المرأة المرضع والمرأة الحامل إذا استدعت حالتها الصحية ذلك بموجب تقرير من الجهة الطبية المعتمدة من قبل المؤسسة.
العامل الذي يتولى رعاية طفل أو أكثر.
_ العامل الذي يتولى رعاية أحد أفراد الأسرة أو الأقارب من الدرجة الأولى الذين هم بحاجة إلى مساعدة للقيام بأعباء حياتهم اليومية وذلك بناءً على تقرير من الجهة الطبية المعتمدة من قبل المؤسسة.
_ العامل ذو الإعاقة.
_أي عامل في المؤسسة تنسجم طبيعة عمله مع أي شكل من أشكال العمل المرن المنصوص عليها في هذا النظام.
ومن الأحكام المستحدثة في النظام، النص صراحة على أنه ” لا يجوز لصاحب العمل تحويل صفة عقد العمل إلى عقد عمل مرن أو بالعكس، إذا كان ذلك من شأنه أن ينتقص من حقوق العامل المنصوص عليها في قانون العمل”.
وبالرغم من أهمية هذا النص، إلا أن تطبيق نظام العمل المرن قد يؤدي في الواقع العملي إلى الانتقاص من حقوق العامل بشكل غير مباشر.
فعلى سبيل المثال، في حالة العمل لبعض الوقت أو الأسبوع المكثّف أو السنة المرنة، سيؤدّي ذلك بالضرورة إلى إنقاص الراتب الشهري ليتلاءم مع عدد ساعات العمل الأسبوعيّة، ومن المحتمل أيضا أن يفقد العامل أو العاملة الحماية الاجتماعية.
ففي الأردن، المؤسسة الرئيسية التي تقدم الحماية الاجتماعية للعاملين في القطاع الخاصّ هي المؤسّسة العامة للضمان الاجتماعي، حيث يتمّ اقتطاع ما نسبته 6.5% من أجر العامل الشهري و11% من صاحب العمل[3] حتى يتمتع العامل بتأمين الشيخوخة والعجز والوفاة، ويتمّ اقتطاع 1% من راتب العامل و0.5% من صاحب العامل لتأمين التعطل عن العمل[4]. كما تقوم مؤسسة الضمان بصرف للعاملة المتمتعة بإجازة الأمومة، والبالغة 70 يوم، بدل يعادل أجرها وفقا لآخر أجر خاضع للاقتطاع عند بدء إجازة الأمومة[5] مقابل اقتطاع ما نسبته 0.75% من رب العمل[6]. ويلتزم رب العمل بدفع ما نسبته 2% من راتب العامل أو العاملة كتأمين ضد إصابات العمل[7].
واعتمادا على ما تقدم، يقوم صاحب العمل بدفع ما نسبته 14% من راتب العامل أو العاملة كمجموع كلي للضمان الاجتماعي، ويتم اقتطاع ما نسبته 7.5% راتب العامل أو العاملة مقابل الانتفاع من حزمة التأمينات التي تقدنها مؤسسة الضمان الاجتماعي.
إلا أن التزام صاحب العمل بإشراك العامل في الضمان الاجتماعي ودفع الاشتراكات والاقتطاعات المترتبة عليه مشروطة بعمل بطبيعة عمل العامل. فبحسب قانون الضمان الاجتماعي، إذا كانت علاقة العامل مع صاحب العمل مع العامل غير منتظمة لا يكون صاحب العمل ملزما بإشراكه في الضمان الاجتماعي. وتعتبر علاقة العمل غير منتظمة في الحالات التالية:[8]
_ للعامل في المياومة إذا عمل ستة عشر يوما فأكثر في الشهر الواحد.
_ للعامل بالساعة أو بالقطعة أو بالنقلة أو من في حكمهم إذا عمل ستة عشر يوما فأكثر في الشهر الواحد بغضّ النظر عن عدد ساعات العمل أو القطع أو النقلات في اليوم الواحد.
_ للعامل الذي يتقاضى أجرا شهريا بغض النظر عن عدد أيام عمله في الشهر الواحد باستثناء الشهر الأول لالتحاقه بالعمل فيتم تطبيق مبدأ ستة عشر يوم عمل فأكثر في الشهر الواحد.
وبالتالي إذا نتج عن العمل المرن عمل العامل أو العاملة أقل من 16 يوما في الشهر، فلا يكون صاحب العمل ملزما بإشراكه في الضمان الاجتماعي ويوفر على نفسه دفع ما مقداره 14% من راتب العامل أو العاملة كاشتراكات شهرية لصالح الضمان الاجتماعي.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل تتأثر المرأة العاملة الحامل أكثر من غيرها بهذا النظام. ففي الوضع الطبيعي، يقوم الضمان الاجتماعي بتغطية راتبها الشهري لمدة 70 يوم أثناء تمتعها بإجازة الأمومة، بشرط أن تكون مشمولة بأحكام تأمين الأمومة خلال الأشهر الستة الأخيرة التي تسبق استحقاقها إجازة الأمومة أو أن يكون لها ستّة اشتراكات متصلة أو متقطعة في الإثني عشر شهراً التي تسبق استحقاقها هذه الإجازة. فإذا لم تكن المرأة العاملة مشمولة بأحكام تأمين الأمومة سيضطر صاحب العمل بتغطية راتبها أثناء إجازة الأمومة، وبالتأكيد هذ الأمر لا يناسبه. وبالتالي تكون النتيجة المترتبة الابتعاد عن تعيين النساء الحوامل أو النساء اللواتي من المحتمل أن يحملن في المستقبل من نظام العمل المرن الذي يؤدي إلى تقليص عدد أيام العمل خلال الشهر إلى أقل من 16 يوما، مع العلم أن الهدف الأساسي من هذا النظام بحسب الحكومة هو رفع نسبة المشاركة الاقتصادية للمرأة.
لا نستطيع أن ننكر فوائد العمل المرن بالنسبة للعامل أو العاملة؛ إذ يمكنهم التوفيق بين التزاماتهم العائلية أو الدراسية وتسهيل إمكانية العمل بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، لكن التوسّع في استخدامه يؤدّي إلى نتائج سلبية، أهمها:
_ غياب الأمن الوظيفي ومحدودية الحماية القانونية خاصة في حالات الفصل التعسفي.
_ انخفاض أو انعدام الحماية الاجتماعية.
_ انتشار أوسع لقطاعات العمل غير المنظمة.
_ ضعف الحوار الاجتماعي؛ إذ يضعف قدرة النقابات العمالية على التفاوض مع أصحاب العمل، مما يقلل من قدرة العمال على الدفاع عن حقوقهم.
بالمقابل يحقق هذا النظام مجموعة من المنافع لأصحاب العمل، المتمثّلة في خفض التكاليف من خلال استغلال الفجوات القائمة في النظام القانوني الحالي لتجنّب الالتزامات الماليّة لصالح برامج التأمينات الاجتماعية.
بالرغم من أن أهداف الحكومة المعلنة لإقرار نظام العمل المرن الحدِّ من معدَّل البطالة، وزيادة نسبة مشاركة لبعض الفئات مثل النساء والأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أنّ النتيجة العملية المترتبة هي هشاشة العاملين والعاملات الأمر الذي يعتبر نتيجة للتوجّهات النيولبراليّة القائمة على حرية السوق والسماح للشركات بتقليل تكاليف العمالة عن طريق اللجوء إلى عقود عمل تؤدّي بالنتيجة إلى تقليص الحماية الاجتماعية.
[1] المادة 2 من قانون العمل رقم 8/1996 بحسب التعديل الذي بموجب القانون المعدل رقم 14/2019.
[2] المادة 2، نظام العمل المرن رقم 44/2024.
[3] المادة 59 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2014
[4] المادة 48 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2014. لا تشمل العاملين والعاملات في الدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والعامة.
[5] المادة 45 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2014.
[6] المادة 42 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2014. لا تشمل العاملين والعاملات في الدوائر الحكومية والمؤسسات الرسمية والعامة
[7] المادة 24 من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2014.
[8] المادة 4/ب من قانون الضمان الاجتماعي رقم 1/2017.