"الإمعان في تشويه الشاطئ اللبناني" هو عنوان ما نشره نقيب المهندسين في بيروت وعضو المجلس الأعلى للتظيم المدني جاد تابت عبر صفحته على فايسبوك بتاريخ 17 أيار 2018. منشور تابت جاء على خلفية موافقة مجلس الوزراء على مشروعين لإشغال الأملاك العامة البحرية أحدهما في زوق مكايل [1]، والثاني منطقة الدامور، وذلك "على الرغم من رفض المجلس الأعلى للتنظيم المدني المشروعين بالإجماع".
وقد حذّر تابت في المنشور نفسه من تسارع "مسلسل تدمير الشاطئ اللبناني في المستقبل القريب". فالمجلس الأعلى للتنظيم المدني رفض البارحة (16 أيار 2018) مشروعاً جديداً يقضي بإشغال مساحة 30990 متر مربع من الأملاك العامة البحرية و38875 متر مربع مسطحات مائية مقابل العقار 912 في أنفة، الذي يعود ملكه لدير سيدة الناطور، بهدف إنشاء مشروع سياحي ضخم". يضيف تابت مذكراً بأن "الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية اعتبرت أن هذا الجزء من الشاطئ يرتدي أهمية بيئية كبرى تمثل الآثار الأخيرة المتبقية من الأنظمة الساحلية التي لم تتدهور أحوالها بعد بفعل تدخلات الانسان".
أنهى تابت منشوره بالتعبير عن خشيته "أن يقوم مجلس الوزراء مرة أخرى بتشريع هذه المجزرة البيئية الجديدة لأبسط قواعد الإدارة السليمة لثورتنا الطبيعية، وذلك رغم القرار الرافض للمجلس الأعلى للتنظيم المدني الذي اتخذ بالإجماع". هي خشية مبررة في سياق معمم بين السلطات الحاكمة، ينتهي إلى تكريس المزيد من التعديات على الأملاك العامة.
المجلس الأعلى… لحماية الشاطئ
فوز تابت في إنتخابات نقابة المهندسين العام الفائت، شكّل بارقة أمل للمدافعين عن الحق بالأملاك العامة البحرية، على اعتبار أنه يصبح بفعل ذلك عضوا حكميا في المجلس الأعلى للتنظيم المدني. يقول تابت في اتصال مع المفكرة القانونية أن "هناك قرار في المجلس الأعلى للتنظيم المدني أن لا نسمح بعد الآن بمشاريع على الأملاك العامة البحرية ما لم تكن ذات منفعة عامة، ذلك أن ما تبقى من هذه الأملاك هو فقط 20%، أما الـ 80% فهي محتلة". هذا الإتجاه لدى المجلس الأعلى للتنظيم المدني يتطابق مع نظام إشغال الأملاك العامة البحرية (المرسوم رقم 4810). والمرسوم المذكور يكرس قاعدة عامة هي عدم إكتساب أحد أي منفعة على هذه الأملاك تخولها إقفالها لمصلحة خاصة. بالمقابل يعتبر النظام "السماح بتخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال أفراد أو مجموعات وحصر هذا الانتفاع بهم من دون سواهم يكون عملاً إستثنائياً يمكن تطبيقه في حالات خاصة". هذه الحالات معلقة على "أسس" يبينها المرسوم بشكل واضح، أولها "أن يكون المشروع المنوي القيام به ذا صفة عامة وله مبررات سياحية أو صناعية حسب إفادات تصدر عن الدوائر المختصة (المجلس الأعلى للتنظيم المدني)".
بهذا المعنى يقول تابت أن "المجلس الأعلى رفض بالإجماع، وبرر رفضه هذا بعدم مطابقة الرخصتين المقدمتين مع المرسوم 4810". غير أن هذا التعليل لا يبدو كافياً من وجهة نظر مدير عام وزارة الأشغال والنقل عبد الحفيظ القيسي، والذي يأخذ على المجلس الأعلى أنه "رفض من دون تعليل قراره".
يضيف القيسي أن "المتقدمين بطلبات الترخيص يملكون عقارات خاصة متاخمة للأملاك العامة البحرية، بالتالي يحق لهم الحصول على رخصة إشغال كأي مالك لعقار متاخم". والحق أن المرسوم 4810 يعتبر امتلاك عقار متاخم للأملاك العامة البحرية أساسا من الأسس العامة الواجب توافرها لمنح الرخص وبشكل استثنائي. إلا أن النظر في منح الإستثناء من عدمه لصاحب ملك متاخم، يرتبط أولاً بتحقيق مصلحة عامة يقدرها المجلس الأعلى للتنظيم المدني. الرأي الأخير يتمسك به تابت، مؤكداً أن لا مصلحة عامة في المشاريع التي منحت لأجلها الرخص. بكلام آخر، ما هي المصلحة العامة من إنشاء المزيد من "المارينا"، والمنتجعات السياحية على الشاطئ اللبناني؟
رأي التنظيم المدني ملزم للحكومة؟
إذن، ترافقت عضوية تابت للمجلس الأعلى للتنظيم المدني بصفته نقيباً للمهندسين، مع بروز اتجاه واضح وحاسم في حماية الأملاك العامة البحرية، اتجاه مفاده أن الترخيص بإشغال الأملاك العامة استثنائي ولا يسمح به إلا في حال توفر مصلحة عامة. والأهم أن هذا الاستثناء لا يكون مبررا بعدما أصبح إشغال الشاطئ أو احتلاله هي القاعدة. إلا أن هذا المجهود اصطدم ببناء صلب أقامه النظام الحاكم، يستسهل تخطي القوانين والقفز فوق صلاحيات الهيئات المختصة ذات الصلاحيات في حماية المصالح العامة في الدولة.
في هذا السياق، يقدم الرئيس الأسبق لمجلس التنظيم المدني محمد فواز في إتصال مع المفكرة، مطالعة قانونية تبين مكامن بطلان مرسوم مجلس الوزراء المتعلق بمنح تراخيص جديدة على الأملاك العامة البحرية.
يقول فواز أن "صلاحيات المجلس الاعلى للتنظيم المدني محددة في قانون تنظيمه ضمن الصيغة التالية: ويتولى، بصورة خاصة، إبداء رأيه". وفقاً له "بادئ الأمر كان يعتبر أن مضمون الرأي إلزامي. لكن لاحقاً طلبت فتوى من وزارة العدل أدت إلى اعتبار طلب الرأي إلزاميا لكن مضمونه ليس كذلك". لكن هذا النقاش لا ينطبق على حالة الأملاك العامة البحرية، حيث يوجد نص خاص هو تنظيم إشغال الأملاك العامة البحرية رقم 4810/1966. ذلك أن " قرار المجلس الأعلى للتنظيم المدني بالنسبة لإشغال الأملاك العامة البحرية ليس ابداء رأي، إنما هو قرار ملزم". وهو يستند في هذا المجال إلى مضمون المادة 1 من المرسوم 4810 السابق الذكر، التي تربط منح التراخيص الاستثنائية بصدور إفادات عن المجلس الأعلى للتنظيم المدني. بالتالي، فإن "عدم وجود هذه الإفادة الإيجابية من قبل المجلس الأعلى للتنظيم المدني تعني فقدان أحد الأسس العامة المفروضة للسماح باستثمار الشاطئ، وأن مرسوم الترخيص باشغال أملاك عامة بحرية مع عدم موافقة المجلس الأعلى للتنظيم المدني يعتبر مخالفاً ويستدعي الإبطال أمام مجلس شورى الدولة"
خطورة المرسوم الصادر عن مجلس الوزراء، وفقاً لـ فواز، هي بما ينطوي عليه من أبعاد تتخطى مسألة التعدي على الأملاك نفسها. يعتبر فواز أن "إعطاء الترخيص بموجب مرسوم في مجلس الوزراء هو محاولة لاعتبار مرسوم الترخيص تعديلاً ضمنياً للمرسوم 4810/1966 (تنظيم إشغال الأملاك العامة البحرية) المتخذ في مجلس الوزراء". ذلك أن "إجازات الإشغال المؤقت على الأملاك العمومية الخاصة للدولة تعطى بقرار من رئيس الدولة، بالتالي هي تعطى بمرسوم عادي ولا حاجة لمرسوم مجلس الوزراء".[3] لكن هذه المحاولة نفسها تجعل المرسوم مستدعياً "للإبطال أمام مجلس شورى الدولة". حيث أنه تنظيمي الطابع، بالتالي يكون أخذ رأي مجلس شورى الدولة قبل إقرار هكذا تعديل ملزما".
أي دور حمائي للقضاء؟
إذ تتجه الأنظار اليوم إلى القضاء وتحديدا إلى مجلس شورى الدولة للطعن في المرسومين الصادرين، عقد بالمقابل ائتلاف حماية الشاطئ ومن ضمنه "نحن" و"الخط الأخضر" والمفكرة القانونية" مؤتمرا صحافيا بتاريخ 28 أيار 2018 حول قضية الإيدن باي التي ما تزال عالقة أمام هذا المجلس وذلك تحت عنوان: "حق الناس بالشاطئ مرتبطا بحقهم باللجوء إلى قضاء مستقل، عادل وفاعل". وبعدما ذكر المحامي نزار صاغية أن عدم قانونية رخصة بناء الإيدن باي لم تعد موضع نقاش جدي في ظل تقرير نقيب المهندسين جاد تابت (والذي أثبت ثماني مخالفات أساسية)، أبدى بعض الملاحظات على مسار الدعوى، بهدف إبقاء الرأي العام في الصورة. ومن أهم هذه الملاحظات، الآتية:
– تراجع المجلس غير المبرر عن قراري وقف تنفيذ الرخصة رغم .[2]
– إهمال تقرير نقيب المهندسين جاد تابه وإهمال طلب تنفيذ الرخصة المقدم على أساسه.
– إلزام الجهة المدعية بتحمل أكلاف باهضة لتعيين خبراء من دون تمكين الأخيرين من القيام بمهامهم.
يذكّر البيان بالسياق الذي أدى إلى تكليف تابت بوضع تقرير حول المخالفات التي ينطوي عليها مشروع الإيدن باي. ذلك أن "المشهد السريالي في الرملة البيضا وما تخلله، دفع وزارة مكافحة الفساد – بحث من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون – إلى تكليف نقيب المهندسين النظر في مدى قانونية رخصة البناء. التقرير جاء قاطعاً لا يحتمل أي لبس". يضيف صاغية أنه بناءً على صدور التقرير، "طلبنا مجدداً من الغرفة الثالثة في مجلس شورى الدولة وقف تنفيذ المشروع منذ شهر تموز 2017". غير أن الغرفة المذكورة "أغفلت النظر في هذا الطلب وكأنما تقرير نقيب المهندسين الصادر بتكليف من مرجع حكومي وبحث من رئيس الجمهورية مسألة غير هامة". والحال أن "الغرفة لا تزال تمتنع عن النظر في طلب وقف التنفيذ رغم تكراره مراراً".
بالمقابل، عمدت الغرفة الثالثة إلى "الاكتفاء بتعيين خبيرين مع مطالبتنا بتسديد أتعاب مرتفعة بلغت 6 ملايين ليرة لبنانية". يقول صاغية أن "تأمين المبلغ لم يكن سهلاً، ولكن ما إن نجحنا في ذلك حتى أصدرت الغرفة من تلقاء نفسها، ومن دون أن يطلب إليها أحد ذلك، تعيين مهندس مساح ثالث مكلفة إيانا تسديد أتعاب إضافية بلغت مليون وخمسمائة ألف ليرة لبنانية". على الرغم من هذه التكاليف، لا يزال الخبراء منذ 5 أشهر عاجزين عن القيام بمهامهم، والسبب هو أن "الشركة منعتهم ببساطة من الدخول إلى المبنى، بحجة أن المهمة التي حددها المجلس لا تنص صراحة على حقهم بالدخول إلى المبنى".
وقد أنهى صاغية كلمته بأن أعلن أن "الخط الأخضر" قدم طلبا لرئيس مجلس شورى الدولة هنري خوري بنقل الدعوى من الغرفة الثالثة الناظرة فيها الآن إلى مجلس القضايا الذي يرأسه خوري نفسه، أملا بالعدالة، ولو أتت متأخرة.
[1] – مساحة ١٣٩٥٧ م٢ من الاملاك العامة في اليابسة و١٨٧٦٣م٢ مسطح ماءي وذلك مقابل العقارين ٨٠٦ و٨٠٧ ذوق مكاييل بهدف انشاء مشروع سياحي ضخم.
[2] – المرصد المدني لاستقلالية القضاء وشفافيته، شورى الدولة يرفع حمايته عن الرملة البيضا: مساعٍ لقطع التواصل بين القضاء والناس، المفكرة القانونية، 19/5/2017
[3] – المادة 16 من قانون 145S/1925