أمس، أصدر رئيس مجلس النواب بيانا بشأن عقد جلسات تشريعية ورقابية بواسطة تقنية الفيديو، نظرا للظروف الإستثنائية المتمثلة بسياسة اللاتخالط منعا لانتشار فيروس كورونا. هذه الدعوة تشكل المؤشر الأول لاهتمام المجلس النيابي بما يحصل في البلاد وما يترتب عليه من استحقاقات تشريعية. لكن هل حقا نحن أمام وضع إستثنائي يمنع النواب من الحضور إلى المجلس؟ أليس هنالك آلاف الموظفين والعمال الذين ما برحوا يلتحقون بنشاطات عملهم للقيام بخدمة عامة أو بعمل يقتضيه الحد الأدنى من استمرار الحياة العامة، آخرها ما تناوله قرار مجلس الوزراء أمس لجهة المؤسسات المستثناة من قرار التعبئة العامة وعمليا من تعليق العمل فيها؟ ثم، ماذا عن قانونية عقد جلسات كهذه، لجهة إشكالية العلنية أو توفر النصاب أو ضمان تداول النواب بحرية من دون أن يكونوا تحت أي ضغط أو إكراه غير مرئي أو حتى حسن التداول؟ وما الضمانة بأن النواب الحاضرين في الجلسة هم حقيقة على الأراضي اللبنانية وليسوا في أي بلد آخر مما يهدد السيادة اللبنانية؟ وماذا إذا استخدمت هذه الآلية لتمرير قوانين إشكالية مع تجاوز الإعتراضات الشعبية العارمة ضد جدول أعمال المجلس كما حصل في تشرين الثاني 2019 اعتراضا على قانوني العفو العام والمحكمة المالية الخاصة؟ وكيف نضمن علانية الجلسات؟ وما يزيد هذه الأسئلة إلحاحا هو سوء النية في إدارة شؤون المجلس والتي تجلت في أشكال عدة في السنوات الأخيرة، كإعلان المصادقة على قوانين كان عدد الموافقين عليها أقل من عدد المعارضين لها، أو فتح الجلسة قل توفر النصاب. وإذ ننشر هنا مقالا للباحث في الشؤون الدستورية والإدارية وسام اللحام حول مسألة النصاب، فإننا نفتح صفحات المفكرة لمزيد ممن المساهمات للإحاطة بهذه المسألة.
وأكثر ما نخشاه ونحذر منه هو أن تعطي جلسات مماثلة المجلس النيابي ما يشبه بساط ريح يمكّنه من القفز فوق اعتراضات الشعب الذي يفترض أنه يمثله على أعماله أو توجهاته، بساط ريح يمكّنه من تجاوز أي حصار شعبي مشروع يفرض عليه. فبعد الفواصل والحواجز التي وضعها المجلس النيابي لمنع الناس من الوصول إلى ساحته، ثمة مخاوف مشروعة من أن يستخدم هذا المقترح كأداة للهروب من أي مسؤولية تجاه الشعب، كأداة للقفز في الهواء تمهيدا لفرض قرارات من فوق (المحرر).
أصدر رئيس مجلس النواب في 24 اذار 2020 بيانا أعلن فيه عقب التشاور مع مكتب مجلس النواب " عقد جلسات نيابية تشريعية ورقابية إذا اقتضى الأمر من خلال تقنية الفيديو" بسبب وباء كورونا ما يطرح إشكالية دستورية هكذا جلسة تعقد دون الحضور الجسدي للنواب داخل حرم مبنى مجلس النواب.
تنص المادة 34 من الدستور على التالي: "لا يكون اجتماع المجلس قانونياً ما لم تحضره الأكثرية من الأعضاء الذين يؤلفونه وتتخذ القرارات بغالبية الأصوات". إن معرفة جواز عقد جلسة لمجلس النواب بتقنية الفيديو يتوقف على تفسير مصطلح "تحضره" الذي يرد في المادة المذكورة. فهل الحضور يجب تفسيره حصرا بالحضور الجسدي للنواب، أو يمكن التوسع بتفسير مفهوم الحضور كي يشمل الحضور الذهني ايضا دون الحاجة إلى التواجد الحسي في المكان؟
من الأكيد أن مجلس النواب خلال تاريخه المديد منذ 1926 وحتى اليوم قد فهم النصاب بالحضور الجسدي للنواب وهذا ما يظهر جليا من خلال تحليل المادة 49 من أول نظام داخلي مكتمل ومفصل جدا أقره مجلس النواب سنة 1930 إذ نصت صراحة على التالي: "توضع دفاتر حضور في غرفة رئاسة قلم المجلس تحت تصرف الأعضاء قبل موعد افتتاح الجلسة بنصف ساعة يوقعون عليها متى حضروا، ومتى حل موعد الافتتاح يطلع الرئيس على الدفاتر فإذا تبين له أن العدد القانوني لم يتكامل فله أن يؤخر فتح الجلسة نصف ساعة، فإذا لم يبلغ العدد النصاب القانوني يؤجل الرئيس عقد الجلسة إلى أول يوم يصح فيه اجتماع المجلس ويبلغ الأعضاء ذلك حالاً". فالنظام الداخلي لسنة 1930 كان يفرض توقيع النواب على دفاتر خاصة كي يتم التأكد من حضورهم الشخصي. لا بل أن مشروع النظام الداخلي كان يتضمن عند التصويت عليه مادة تمنع النائب من مغادرة الجلسة بعد افتتاحها إلا بإذن من رئيس المجلس، لكن النواب رفضوا تبنيها فتم حذفها لكنها تشير أيضا ان الحضور المقصود في المادة 34 من الدستور هو الحضور الجسدي.
وقد كرر النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 1953 هذا الفهم للنصاب إذ أعلنت المادة 50 منه التالي: "لا تفتح جلسة المجلس إلا بحضور أكثر من نصف أعضائه ولا يجوز التصويت إلا بحضور هذا النصاب في قاعة المجلس". فالنص واضح لجهة ربط النصاب بالحضور في قاعة المجلس.
أظهرت الممارسة أن بقاء النواب داخل القاعة لساعات طويلة هو أمر متعذر. فلو كان وجود النصاب بشكل دائم شرطاً لمتابعة كامل أعمال مجلس النواب لكان ذلك سببا لتعطيل الجلسات بسبب الخروج المتكرر للنواب. لذلك تبنى لبنان التجربة الفرنسية التي تقول بأن النصاب ضروري للتصويت وليس للمناقشة[1]. وقد تكرّس هذا الأمر لاحقا في النظام الداخلي لسنة 1982 ومن ثم في النظام الداخلي لسنة 1994 إذ نصت المادة 55 منه على التالي: "لا تفتح جلسة المجلس إلا بحضور الأغلبية من عدد أعضائه ولا يجوز التصويت إلا عند توافر النصاب في قاعة الإجتماع. أما المناقشات فلا تستوجب استمرار توافر النصاب". فاستمرار النقاش لا يتطلب الحضور الجسدي للنواب لكن غند افتتاح الجلسة وعند التصويت يصبح الحضور الجسدي للنواب شرطا ضروريا لتكوين النصاب والتصويت.
أن الغالبية التي تشكل النصاب لا تختلف فقط عن غالبية المناقشة لكنها تختلف أيضا عن غالبية التصويت لأن القوانين تحتاج كي يتم إقرارها إلى عدد من الأصوات قد يكون أقل من غالبية النصاب. فغالبية التصويت متحركة بينما غالبية النصاب ثابتة لا تتبدل. وهذا ما يعني أن النصاب لا يرتبط بالتصويت بل بالحضور الفعلي للنائب في قاعة المجلس[2].
لذلك فإن التفسير الحرفي للحضور كما تم فهمه حينها يقودنا حكما إلى القطع بأن النصاب لا يتحقق الا من خلال الحضور المادي (presence matérielle)، وفقا لتعبير "أوجين بيار"، للنواب في قاعة البرلمان.
إن هذا الفهم ينسجم مع مدرسة التفسير التقليدي (école exégetique) التي تعتبر أن فقه النص يقوم على معرفة نية المشترع المباشرة من خلال مقارنة النص مع نصوص أخرى شبيهة، أو عبر مراجعة الأعمال التحضيرية أو المحاضر التي جرى خلالها مناقشة وإقرار النص المعني. فمن خلال هذه المنهجية يصبح جليا لنا أن الحضور تم فهمه بوصفه الحضور المادي ولا يمكن التوسع أكثر من ذلك في التفسير.
لكن هذه المدرسة التقليدية في التفسير تعاني من مشكلتين أساسيتين: الأولى نظرية تتعلق بنظرية القانون كما صاغها "كلسن" والتي تعتبر أن النص القانوني فور إقراره ينفصل تماما عن إرادة الجهة التي تولت اقراره، أي أن معرفة نية المشترع قد تكون مفيدة لكنها في مطلق الأحوال غير ملزمة. أما المشكلة الثانية فهي عملية، إذ قد يكون النص أقر منذ زمن بعيد تختلف ظروفه وأحكامه عن الزمن الراهن، ما يعني أن نية المشترع لم تعد صالحة ولا يمكن بالتالي تعميمها واتخاذها قاعدة دائمة للعمل. لذلك ظهرت المدارس الحديثة للتفسير والتي تعتقد أن كنه النص يحتاج إلى معرفة الغاية التي من أجلها تم وضعه. فالمدرسة الغائية تعتبر أن "مقاصد" النص هي التي تحدد تفسيره عبر التوفيق بين النص والواقع الاجتماعي المتبدل دائما عبر العصور. فدور التفسير لا ينحصر بمعرفة نية المشترع حينها، بل بمحاولة تحديد نية المشترع لو كان عليه أن يقرّ النص اليوم في واقعنا التاريخي الاجتماعي الراهن. وهذا أساسا ما ذهب إليه "جيني" (Gény) الذي اعتبر أن التفسير يجب أن يعكس حاجات المجتمع دون التقيد الحرفي بالنص، وذلك كي يظل القانون شيئا حيا يتفاعل مع الواقع.
جراء ما تقدم، وفي حال اعتبرنا أن الغاية من المادة 34 من الدستور ليس الحضور المادي بل إثبات حرية إرادة النائب من خلال مشاركته في الجلسة، يمكن لنا في حال اعتمدنا منهجية المدرسة الغائية تفسير الحضور بمقاصده أي كل تعبير حر ومباشر يضمن المشاركة الفعالة والكاملة للنائب في مجريات الجلسة وتفاعله مع سائر النواب. وبالتالي يصبح عقد جلسة لمجلس النواب عبر تقنية الفيديو من الأمور الجائزة دستوريا شريطة تمكين النائب من ممارسة كل مهامه وضمان عدم وجود طرق تقنية تسمح بالتلاعب بمجريات النقاش أو التصويت.
إن هذا التفسير يصطدم مع موقف سابق لرئيس مجلس النواب الذي، من خلاله رأيه الحالي بجواز عقد جلسة بتقنية الفيديو، يكون قد ناقض نفسه. فقد أعلن الرئيس نبيه بري أكثر من مرة أن التصويت الإلكتروني للنواب داخل القاعة يخالف المادة 36 من الدستور التي تنص على أن "تعطى الآراء بالتصويت الشفوي أو بطريقة القيام والجلوس". وهكذا يكون رئيس المجلس قد خالف موقفه السابق إذ اعتبر أن التصويت الإلكتروني بحضور النواب هو مخالف للدستور وللنظام الداخلي بينما يذهب الآن إلى حد التحرر من حضور النواب والاكتفاء بعقد جلسة عبر الفيديو. إن هذا الرأي، علاوة على مصادرته إرادة الهيئة العامة لمجلس النواب التي يفترض بها أن تفصل بالموصوع، يطرح مجددا المسألة التي عارضها رئيس المجلس سابقا كون التصويت من خلال تقنية الفيديو هو شبيه بالتصويت الإلكتروني لكن هذه المرة عن بعد ودون الحضور الجسدي للنواب.
إن الظرف الاستثنائي الذي يشكله انتشار وباء خطير لا يجب أن يمنع مجلس النواب من ممارسة دوره التشريعي والرقابي لا سيما في حالة الضرورة. فكما أن المادة 26 الدستور التي تنص على أن بيروت هي مركز البرلمان لم تمنع مجلس النواب خلال الحرب الأهلية من الاجتماع خارج العاصمة بسبب الظروف القاهرة، كذلك يمكن قياسا على هذه التجرية افتراض إنتقال المجلس ليس فقط من مكان إلى آخر، لكن أيضا انتقاله إلى حيز افتراضي تتوفر فيه كل المقومات الضرورية لتأمين حرية ارادة النائب.
مسألة أخيرة تبقى دون حل لا تتعلق بمجرد التصويت لكن بالانتخاب الذي يتطلب الاقتراع السري كانتخاب رئيس الجمهورية على سبيل المثال. ففي هذه الحالة لا تسمح تقنية الفيديو والبث المباشر باحترام مبدأ سرية الاقتراع، ما يجعل عقد مثل هكذا جلسة متعذراً من الناحية الدستورية، إلا في حال تم التوصل إلى وسيلة تقنية حديثة تتيح هذا الخيار، وهو أمر دونه محاذير لكنه متروك لتقدير أرباب الاختصاص.
[1] « Le quorum est nécessaire pour voter et non pour discuter » (Eugène Pierre, traité de droit politique, électoral et parlementaire, p.1135)
[2] Eugène Pierre, traité de droit politique, électoral et parlementaire, p.1128. « En France, il est formellement établi depuis 1878 que la présence et non la participation au vote de la moitié plus un du nombre légal des membres est nécessaire pour la validité des votes de la Chambre des députés ».