نزيلات السجن على خشبة المسرح: تكثيف المعنى في ساعة من الحريّة


2024-11-29    |   

نزيلات السجن على خشبة المسرح: تكثيف المعنى في ساعة من الحريّة

كانت إحدى أعوان سجن النّساء في مَنّوبَة تستحثّ عددًا من الأشخاص الجالسين في المقهى من داخل المُركَّب الشبابي والرياضي بالمنزه السادس، على الالتحاق بقاعة العروض المخصّصة لمسرح الحريّة؛ وهو فعالية تنظّمها نوادي المسرح بالسجون ومراكز الإصلاح للقُصَّر، تُتيح للسّجناء والسجينات تقديم عروض مسرحيّة، وتُنَظَّم للمرّة الثامنة على التوالي في إطار أيام قرطاج المسرحية، التي تدور فعالياتها بين 23 و30 نوفمبر 2024.

يُبدي أعوان الاستقبال والتسجيل ترحابًا بالوافدين والوافدات على العرض المسرحي “لعبة البنايين” الّذي عُرِض في المُركّب الشبابي والثقافي بالمنزه السادس يوم الأربعاء 27 نوفمبر، أدّته عشر نزيلات مودَعَات في سجن النساء في منوبة، تتعلّق بهنّ قضايا مخدّرات لا تقلّ مُدَدها عن عشر سنوات سجنًا. وحفاظا على حماية المعطيات الشخصية للسجينات تم التأكيد على عدم استخدام الهواتف لتسجيل مقاطع فيديو أو التقاط صور أثناء العرض. 

كان الحضور مجانيًّا، ورغم ذلك فإنّ عدد الوافدين قليل، لأنّ العروض المسرحيّة تمتدّ من الساعة العاشرة إلى منتصف النّهار، تزامُنًا مع أوقات العمل الإداري. كان لا بدّ من توظيف كلّ الحواسّ لحفظ لقطات المسرحيّة ومختلف مشاهدها في الذاكرة، دون إسقاط أيّة تفاصيل، لمحاولة توثيق العمل الّذي كتبته النزيلات وأخرجته رباب بوزيدي التي تشتغل مُدرّبة إصلاح في السجن المدني في منوبة.

دام العرض أكثر من الساعة تقريبًا. واستغلّت النزيلات ذلك الحيّز الزّمني للحديث عن الهيمنة والتنمّر والعنف والكسب السريع والدّور الصّوري للمنظمات الأممية في “إحلال السلام”، بحضور عائلاتهنّ وعدد من أعوان وزارتَي الثقافة والعدل وممثلي وممثلات وسائل الإعلام.

لا تبدو على الممثلات وهنّ تَعتلين خشبة المسرح، علامات الرّهبة أو الخوف. في اللوحة الأولى، كانت إحدى الممثلات تستعرض أبرز الأحداث التي جدّت منذ نكسة 1967، وصولًا إلى طوفان الأقصى. وفي الأثناء، يدور حوار بين ثلاث فتيات، لا يخلو من السخرية والكوميديا السوداء. إحداهنّ تتحدّث بغنج ودلال عن التجميل وتكبير الأرداف والصّدر واستخدام الانستغرام والتيكتوك لجني الأموال عبر البثّ الحيّ والاستعانة “بالتكبيس”، لتقول إحداهنّ إنّ هذه الممارسات ممنوعة قانونًا وقد يُعاقَب مرتَكبُها بالسّجن، لتردّ بسخرية: “اللطف! رَبِّي يْبَعِّد عْلِينَا السِّجْنْ”، مُثيرةً بذلك ضحك الحضور. يتواصل الحديث، ليدور حوار فيما بينهنّ عن “حريّة التعبير”، فتُثير هذه العبارة الأخيرة ضحكهنّ، ثم تَرقصن على  نغم أغنية شعبيّة تتغنّى فيها الفنانة فاطمة بوساحة بسيارة حبيبها كمال بالقول “يَا كَرَهبة كمال رنّي رنّي” (بمعنى يا سيّارة كمال اصدحي)، ولكنّها تُصبِح في المسرحية “يا حريّة التعبير رِنّي رنّي”، على لسان الفتيات الثلاث.  ثمّ تتحدّث كلّ شخصيّة بمُفردِها عن العنف الزّوجي المسلّط على النّساء والاغتصاب والوصم الّذي يتعرّض له الأطفال الّذين وُلدوا خارج إطار الزّواج، وانتقال فيروس فقدان المناعة المُكتَسبة إلى الزوجة الحامل، بسبب العلاقات غير المحميّة التي يُمارسها الزّوج.

في لوحة أخرى، تُجسّد إحدى الشخصيات ببراعة دور امرأة فلسطينيّة مات ابنها، وراحت تحتضنه مردّدةً عبارة “رُوح الرُّوح”، في استحضار لمشهد الجدّ الّذي فقَد حفيدته ريم في بداية الحرب على غزّة. يدور حوار بين هذه المرأة وإحدى الصحفيات التي تدعوها إلى مغادرة المكان، فتُذكّرها بأنّ كلّ الأماكن غير آمنة، وأن لا حلّ إلا البقاء على تلك الأرض. فيُقصَف المكان وتموت الصحافية وتُدثّرها الشخصية الأخرى بعباءتها الفلسطينية. تُطلّ امرأة شقراء تتحدّث بلغة عربيّة ركيكة مشحونة بعبارات انجليزيّة وهي تحمل حقيبة إسعافات، ولكنّها تَسخر من الجثث المتراكمة، وتقول بفخر إنّها المُتسبّبة في كلّ هذا الخراب، عبر مشاركتها في هذه الإبادة، في إحالة على دور “القوى العُظمى”، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، في تمويل العدوان وحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، وسيطرتها على القرارات الأمميّة من خلال استخدام “سلطة الفيتو” ورفضها في كلّ مرّة وقف إطلاق النّار في اجتماعات مجلس الأمن.

ثمّ قدّمت إحدى الشخصيات لوحةً جسّدت من خلالها “بِزنس” مخابر الأدوية واللقاحات، متوجّهةً بالحديث إلى فئران تجارب، فتُفصح لها عن رغبتها في إبادة أكبر عدد ممكن منها، من خلال نشر الأوبئة. تحدّثت عن “إيبولا” وإنفلونزا الطيور” وإنفلونزا الخنازير” وصولًا إلى وباء كورونا، وقالت إنّ القضاء على 5% فقط من البشر غير كافٍ لفرض سيطرتها على كوكب الأرض. ثمّ تأتي مرة أخرى الشخصية التي تتحدّث اللغة العربية بلكنة انجليزيّة لتتحَالف مع عاملة مخبر الأدوية لتعميم الخراب والموت في الأرض.

لم يَكن الوقت كافيًا ولا السياق مناسبًا لطرح أسئلة عن أحوالهنّ وظروف إقامتهنّ داخل السجن والأكل ومواقيت الاستحمام، وعن الاكتظاظ وسلوك الأعوان معهنّ، والعلاقات بينهنّ، وعن ظروف “البروفا” والإعادَات، وكيفيّة اشتغالهنّ على تغيير الإضاءة والديكور، والتنسيق بين المشاهد والتوزيع المُحكم للأدوار وتوظيف المؤثرات الصوتية. لم يكن الوقت كافيًا للسؤال عن كلّ تلك التفاصيل، لأنّ المساحة التي أُتيحَت لهنّ لنيل قسط من الحريّة أكبر من أن تُختزَل في أسئلة صحفيّة. كُنّ مشتاقات لأمّهاتهنّ وأطفالهنّ، وفيهنّ من تقدّم بها العمر وهي تحلم بالزواج والإنجاب. كن يَتُقن إلى الحريّة بالأساس.

وسط التصفيق الّذي لا يكاد ينقطع ودموع الإكبار والتأثّر، وقفَت النساء وانحنَين أمام الحاضرين والحاضرات، وتسلّمن جوائز مُشاركة في إطار فعاليات مسرح الحريّة، ربّما تكون رمزيّة ولكنّها تُمثّل اعترافًا لهؤلاء النساء بأنهنّ جديرات بالتقدير وبأن يحظَين بفُرصة ثانية. “ما كتبناه وما قُلناه يُعبّر عن هواجسنا نحن النساء. نحن نقضي عقوبةً لا تقلّ عن عشر سنوات سجنًا، ولكنّنا مازلنا نحلم. فينا من ماتت أمّها ولم تحضر جنازتَها. فينا من يكبر ابنها بعيدًا عنها، ومنّا من يتقدّم بهنّ السنّ وتقلّ حظوظهنّ في أن يصرن أمّهات”، تقول إحدى السجينات، لتُضيف زميلتها: “نحن متحصّلات على شهادات علميّة، وفينا من تحمل شهادة ماجستير في اختصاصات مختلفة، وأخريات بصدد إعداد أطروحاتهنّ من داخل السجن. أنا لا أبرّر الخطأ، ولكنّنا قطْعًا نستحقّ فرصة ثانية”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني