نرمين صفر: الحقُّ في “الابتذال البهيج”


2024-09-24    |   

نرمين صفر: الحقُّ في “الابتذال البهيج”

في كلّ مرّة أزور فيها تُونس العاصمة، أمرّ على نهج الدبّاغين حيث تباعُ الكتب القديمة والنّادرة. ذلك طقسٌ رئيسي من طقوس العاصمة بالنّسبة لي. تنحسرُ مساحة الكتب في كلّ مرّة أعود فيها إلى الشّارع، وتأخذ مكانها سلعٌ أخرى. في ذلك النّهج الطّويل كان ثمّة مكتبة كبيرة، ومزدحمة، من ثلاث طوابق، كانت على ملك المرحوم خالد شطيبة الذي رحل عن عالمنا منذ أسابيع. أحبُّ تلك المكتبة كثيرًا، بضيقها وكتبها العتيقة وروائحها وغبارها. وكانت تجمعني بصاحبها، رحمَه الله، علاقة صداقة متينة حيثُ يتركني لساعات أقلّب في الأرجاء، وكلّما انتهى من شأنٍ من الشؤون التحقَ بي ليحدّثني عن تاريخ المكان وعن المثقفين والساسة والمشاهير الذين مرّوا على مكتبته. وفي ذلك المكان عثرتُ عن ما يُمكن اعتباره “غنيمة” العام. 

فقد كُنت منذ صيف العام الماضي، قد بدأتُ مشروع كتابٍ تأريخي/فنّي مع الزّميل أحمد نظيف حول الفنّانة التّونسيّة “فتحيّة خيري”، كنّا قد حصلنا على مذكّراتها التي نشرتها في السبعينات جريدة “العمل” (صحيفة الحزب الاشتراكي الدّستوري الحاكم حينها)، وحرّرها على حلقات الصّحافي الثقافي الكبير محمّد السقانجي

لاحقًا -وبالبحث- عرفنا أنّ الرّجل يمثّل ما يمكن تشبيهه بـ”ذاكرة الفن التونسي المُعاصر”. كاتب صحافي متخصّص في الشّأن الثقافي وأصدرَ عددًا من الكتب ذات المواضيع القيمة جدًا في التاريخ الثقافي الوطني. وقد كان الحصُول على تلك الكتب أشبه بالمعجزة لقِدَم طبعتها. وبضربة حظ، في تلك المكتبة عثرتُ على كتابين للسقانجي، أحدهما بعنوان “الرّشيديّة: مدرسة المُوسيقى والغناء العربي في تونس”، وقد كان ذلك تماما ما نحتاجه كأحد أهم مراجع الكتاب/المشروع. 

تتقاطعُ مسيرة فتحيّة خيري مع الرّشيديّة. وتتقاطعُ الرشيديّة مع تاريخ البلاد المُعاصر كلّه. فهذه المؤسسة الثقافية العريقة التي انبلجت في ثلاثينات القرن الماضي من قلب الجدالات الواسعة حول “الهويّة التّونسية”، تلك التي رافقت وأعقبت المؤتمر الأفخارستي، ومن صميم رغبة صادقة من النّخب التّونسيّة في مقاومة المشروع التغريبي للاستعمار الفرنسي، وأيضًا في سياق تحوّل جذري في الحركة الوطنيّة. حيث تزامن تأسيس الرّشيديّة -مثلاً- مع ميلاد الحزب الدستوري الجديد بزعامة المحامي الشاب حينها ورئيس تونس الأوّل -لاحقًا- الحبيب بُورقيبة. وُلِدَت الرشيّديّة في منتصف الثلاثينات، ذلك العقدُ الأكثر توهجًا في تاريخ تونس الحديث والمعاصر. عقد كلّ النّقاشات الكبيرة والتأسيسيّة، دُفعة واحدة: الأدب والسياسة واللّغة والموسيقى ووعي الاستقلال وحريّة المرأة

“يحيا الفَن المنحط”

في العام 2015، حدثَ جدل في مصر حول حادثِ تشويهٍ غامض للوحة “مائة عام من التنوير”، فَتحَ مجلس الثقافة -حينها- تحقيقًا في الموضوع، ولم أدْرِ ما كانت نتائجه لاحقًا. لكن تلك اللوحة كانت واحدة من أهم أعمال الفنّان المصري صلاح عناني، والتي “خلّد” فيها أبرز وجوه الثقافة والفكر والفن في مصر خلال القرن العشرين. في تلك اللّوحة تقفُ “أم كلثوم” في قلب الصّورة وبمساحة أوسع من الجميع. ولو قدّر لي -شخصيًا- أن أرسمُ لوحة مشابهة عن “مائة عام من التنوير” في تونس. سأضعُ الفنّانة صليحة بدون تردّد في قلب المشهد وأمنحها مساحة تُشابه ما منحها العناني -في لوحته- لأم كلثُوم. لقد كانت صليحة أهم ركنٍ في مشروع الرّشيديّة، باعتباره أحد أهم المشاريع الثقافيّة الوطنيّة في القرن الماضي. مشروع ذو بعد نهضوي مُقاوم وتحديثي. مركزيّة صليحة داخل هذا المشروع الشّامل يشرحها الكاتب والباحث هيكل الحزقي بوضوحٍ ممتع في مقال جميل. 

كان أوّل رئيس للرّشيديّة هو مصطفى صفر رجل ذو حضور كاريزمي مؤثّر وثقيل في التاريخ الثقافي للبلاد. يكشف السّاقنجي عن أهداف الرّشيديّة في حينها، حيث يُقيم مقارنات بين الأغاني التي كانت سائدة قبل الرّشيديّة وبعدها. وباستهجان كبير يَسرد بعضًا من نماذج تلك الأغنيات التي سادت قبل الثلاثينات، ومن بينها أغنية “على سرير النّوم دلّعني” للفنّانة التونسية اليهوديّة حبيبة مسيكة

كان مشروع الرّشيديّة رائدًا حقًا، وتأسيسيّا بأتم معنى كلمة، انبثق من توصيات مؤتمر الموسيقى العربيّة في القاهرة وقام عليه ثلّة من المثقفين والأدباء الاستثنائيين. ولكن ككل اللحظات التأسيسيّة في التّاريخ، فإنّ السرديات اللاّحقة ستُبنى حتمًا على التشنيع على ما سبقها. كانت الرّشيديّة تأسيسًا لـ”ثقافة عُليا” بمعايير صارمة على أنقاض “ثقافة سُفلى” سائدة تُوصم بالوضاعة والتخلّع والمجون والابتذال. ولا يُمكن مناقشة ذلك في سياقه التاريخي الخاص، في لحظة كانت تعيشُ فيها البلاد صراعًا هَوويًا وتيهًا حضاريًا تحت وطأة التغريب والاستعمار والتخلّف والأميّة وغياب المشروع الوطني الكفاحي الجامع بكل روافده الثقافية والاقتصاديّة والاجتماعية. لكن الثّقافة السّفلى نفسها تحملُ في ذاتها تعبيرًا عن المجتمع العميق، لا مجتمع النّخبة بالتّأكيد. ومع ذلك تبقى تلك النّصوص والأغاني وثائق شاهدةً عن حقبة ما. وتبقى في النهاية جزءًا من تاريخٍ ثقافي، قُمِعَ تحت وطأة الرّغبة النّبيلة في التّأسيس. 

في الثلاثينات، ومع صعود الحركة النازية في ألمانيا وسيطرة هتلر على السّلطة ظهر ما يُسمّى “فن الرايخ الثالث” والذي يُمثّل رؤية هتلر ووزيره غوبلز للفنون، وخاصةً الفنون التشكيليّة. وَصَمَتْ تلك المدرسةُ الفنَّ التجريدي بكونه “فنًّا منحطًا”. وتمّ التضييق على معارض الفن الحديث ومحاكمة الفنّانين وتدمير أعمالهم. وفي النهاية لم تقض مدرسة الرايخ الثالث على الفن الحديث، بل وأكثر ذلك كانت سببًا في ميلاد الحركة السرياليّة -هناك بعيدًا- في مصر، والتي وُلدت -تحديدًا- مع بيانٍ لمجموعة من التشكيليين المصريين يتضامنون فيه مع نظرائهم في ألمانيا (عموم أوروبا) أمام ما يتعرّضون له من قبل النازيين والفاشيين، كان البيان بعنوان “يحيا الفنّ المنحط”.  

ويبدو هذا كجزء من تاريخ الفنون كلّها: صراعٌ بين المدارس والرؤى والمشاريع والتصورات. ولا تخلو حقبة تاريخية واحدة من صراعٍ مُماثل. غير أنّ القمع المُلتحف بالسّلطة (السياسيّة أو الاجتماعيّة) دومًا ما ينعشُ فنونًا بديلة أو متمرّدة أو كاسرةٍ للقواعد “الرّسميّة” التي تضبطها تلك السّلطة. فلاحقًا في تونس وبعد الرّشيديّة بعقودٍ انتشرت فنون الربوخ والمزود والزّندالي، كجزء من الثقافة السّفلى التي تنتعش في المجتمع العميق رغمًا عن الثقافة العليا لمجتمع النّخبة. وطيلة نصف قرن من الاستقلال كانت الدّولة الوطنيّة في تونس (سليلة اللحظة التأسيسيّة في عقد الثلاثينات) تقمعُ تلك الفنون وتدفعها نحو الهوامش في الأحياء والمداشر وتحدُّ من ظهورها في الفضاءات الرّسميّة العامة. لكنها ظلّت حيّة وبدأت تفتكُّ مساحتها منذ التسعينات لتنفجر بعد الثّورة دفعةً واحدة وتسود المشهدَ الفنّي في البلاد. 

ماذا تبقّى اليومَ من الرّشيديّة؟ جمعيّة مهملة بشكلٍ محزنٍ وكئيب. علامةٌ مترسّبة في المخيال الجمعي عن ثقافةٍ متعالية نحو المالوف والموشّحات. لكنها كانت حقًا  -في المُقابل- مشروعًا فارقًا وقفزة كبيرة في التاريخ الثقافي للبلاد. رسّخت تلك المؤسسة موسيقى تونسيّة وحفظَت مقاماتها من الضّياع وحفظت تراثًا شعريًا وأدبيًا قيّما وشيّدت لحياةٍ ثقافيّة ثريّة ورائدة وتأسيسيّة. كان ذلك الجّيل المُؤسّس للرّشيديّة جيلاً يستحقُّ وصفًا من نوع “جيل وطني” أو “جيل تأسيسي”. فرجلٌ من نوع مُصطفى صفر، ترأس الرّشيديّة وترأّس النادي الإفريقي أحد فرق كرة القدم الأكثر شعبيّة في البلاد، وساهم في تأسيس عديد الجمعيات والنّوادي، فتركَ بصمته في هذه البلاد، وإلى الأبد. 

من مصطفى صفر إلى نرمين صفر: 

منذ أشهرٍ نشرت الفنّانة التونسيّة نرمين صفر، كليب أغنيتها الجديدة “على سرير النّوم دلّعني” للفنّانة حبيبة مسيكة بعد أن أعادت توزيعها، تلك الأغنية نفسها التي شُيِّدَتْ الرّشيديّة بتأسيسٍ من مصطفى صفر (كما بيّنا) للقطع معها ومع مثيلاتها من النّماذج التي استهجنها السّاقنجي في كتابه التوثيقي- التأريخي. 

قامت الفنّانة بدعاية ذكيّة للأغنيّة، حين نشرت صورًا من كواليس الكليب على أساس أنّهُ حفل زواجها من رجلٍ مصري. وفي الحقيقة تتقنُ نرمين صفر تسويق نفسها وأعمالها، بشكلٍ تحولت معه إلى ما يشبه “الظّاهرة”. صعد نجمُ الفنّانة -تحديدًا- في فترةِ انتشار فيروس كورونا، حين أمّنت سهرات راقصة في بثّ مباشر من بيتها في ليالي الحجر لتشجيع النّاس على البقاء في البيوت. لاقَت تلك الفيديوات متابعات قياسيّة لم تتحقّق قبلها لأي أحدٍ في تونس، وصنعت بها نرمين صفر لنفسها نجوميّة منقطعة النّظير.

لم تكن قبلها معروفة بالشّكل المتميّز، مجرّد فنّانة نصف مغمورة تقدّم فنًا “مبتذلاً” وحركات “استفزازيّة”، كنزع حذائها في التلفاز والرّقص المتغنّج في البرامج، ونشر كليبات بحركات “صادمة” وكلمات “خليعة”. كان هذا التقييم العام السّائد حينها باختلافات نسبيّة في التعبير والوصف. غير أنّها بخلاف ذلك كانت تلفتُ نحوها النّظر بمواقف من قضايا خلافيّة في المجتمع. وهو ما تُواصلُ القيام به إلى اليوم: مواقفُ مثلاً من قضايا المهاجرين والمثليين والمرأة والتحرّش وتجميد البويضات والتبرّع بالأعضاء. ولا تتردّدُ عن التّصريح بمواقف سياسيّة من كلّ حدثٍ تشهدهُ البلاد.

أمّنت لها عروض فترة كورونا الرّاقصة نجاحًا لاحقًا لأغنيتيها: “تييت تييت” و“جيبولو تاكسي”، كما ساعدها نشاطها على وسائل التّواصل الاجتماعي ودخولها في معارك ومناوشات مع إعلاميين وفنّانين في ترك تلك الجذوة من الشّهرة مشتعلة. تعليقات طريفة ومِيمْز وفيديوات تيك توك وتصريحات إعلاميّة هنا وهناك، جعلت من نرمين صفر تحافظ على حضور مستمر ونوعيٍّ في الساحة الفنّية التّونسيّة. 

غير أنّ ما يميّزها، ربّما من وجهةِ نَظرٍ ما، هو عفويتها وافتقادها للتجهّم والعُبُوس. تبدو كطفلةٍ تلهو. ولا تَخفى أبدًا -عن العينٍ الموضوعيّة- رُوحُها المَرحة. لكن تبدو أيضًا -في المُقابل- كمن يعمل بإستراتيجية ناضجة. وسواء كانت تلك العفويّة فطريّة أم عفويّة مُصطنعة (لو صحّ التركيب) فإنّ نرمين صفر تبدو -كذلك- متصالحة مع نفسها. لا تزعم تقديم فنٍّ طربي ولا تدعّي تقديم نفسها كجزء من مجتمع النّخبة الثقافي، بل هي كما تعلن ذلك باستمرار تقدّم فنًّا استعراضيًا وخفيفًا. قد يصفهُ البعض بالابتذال، نعم. لكنّه من وجهةِ نظرٍ أخرى، مُبهج ولطيف. 

تسعى نرمين صفر أيضًا، وخارج ما هو “فنّي” واستعراضي، إلى الانخراط في الجدالات السياسيّة والنقاشات المستعرة حول مواضيع الشّأن العام، وذلك يَمنحها مزيدًا من الحضور الإعلامي وتسويقًا أكثر لاسمها وصورتها، ويمنحها أيضًا تميّزًا وفرادة في السّاحة الفنيّة. ويبدُو انخراطها في الكثير من القضايا صادقًا، ومتحمّسًا، ومُكلفًا أيضًا. تُلقي مواقفها من قضايَا خلافيّة وحادة فتتلقّى ردودًا عنيفةً أحيانًا وتجد نفسها في دائرة مُرهقة من النّقاشات والفعل وردّ الفعل. 

كان موقفها من ملحمة سبعة أكتوبر -مثلاً- مُخالفًا للمزاج الشّعبي العام المحتفي بالحدث وحتّى للموقف الرّسمي السياسي. حيثُ أعلنت موقفًا نافرًا عن الجميع. موقفٌ اتهاميٌّ اتجاه المُقاومة واتّجاه الحدثَ في حدّ ذاته واتجاه الحماس الشّعبي للمعركة التي أعادت إحياء القضيّة. غير أنّ مواقفها السياسيّة المحليّة هي التي كانت تضعها في دوائر الضّوء أكثر.

فقد بدت منذ شهورٍ مُنخرطة بقوّة وحماسٍ في “معركة الحريّات” الدائرة في البلاد، حيث دعت -مثلاً- في تدوينة لها على الفايسبوك في شهر مايو الماضي إلى إطلاق سراح الإعلاميين مُراد الزغيدي وسنية الدهماني ومحمّد بوغلاّب وبرهان بسيّس وحتّى السياسيّة عبير موسي، ووصفت الوضع القائم في البلاد على أنّه “جفاف اقتصادي و جفاف ديمقراطية”. 

غير أنّ أكثر ما لفت إليها الأنظار أكثر في هذا السّياق، وجَعَلها محورًا للجّدل السياسي في البلاد طيلة اليومين الماضيين، هو دعوتها للمُشاركة في المظاهرة التي دعت لها المُعارضة يوم الأحد الفارط. في ما يشبهُ التّصدير الأدبي للدّعوة كتبت قائلة “نخسر جمهور و لا نخسر وطن”. فقد أثارت تلك الدّعوة ردود فعلٍ واسعة وفجّرت نقاشات محتدمة بين المعارضة والموالاة.

سخر كثيرون من أنصار المسار السياسي القائم من تلك الدّعوة، متندّرين بالـ”رقّاصة” التي تُريد إسقاط النّظام، في حين تلقت المُعارضة تلك السّخريّة بتشنيعٍ كبير على الإساءة والوصم وازدراء الفنون والتنمّر. كتبَ كثيرون في دعمها، كما يمكنكَ أن تقرأ في التعاليق على صفحتها بالفايسبوك. وحرفيًا كانت المواقفُ من تلك الدّعوة منقسمة على أساس التموقع السياسي. وفي مشهديّة تونسيّة سرياليّة وممتعة، كنت ترى كثيرًا من “المحافظين” المنتمين للمعارضة يحتفون بتلك الدّعوة ومنخرطين في الدّفاع عن صاحبتها ضد الحملة التي شُنّت عليها، وكثير من “التّقدميون” المنحازين لـ”مسار” السلطة تراهم منخرطين في تلك الحملة ضد “الرقّاصة”، بشكلٍ يتعارض مع كلّ القيم الفكريّة والثقافيّة التي من المفترض أنهم يتبنونها! 

غير أنّه ومع كلّ هذا، لا تحكي السيرةُ الفنيّة الخفيفة لنرمين صفر ولا مواقفها المتداخلة، سيرةً شخصيّة فقط لفنّانة تقدّم فنًّا استعراضيًا بسيطًا، يصفه البعض بالمبتذلِ، ويصفهُ آخرون بالمُبهج واللّطيف، بل تتكثّفُ في سيرتها -أيضًا- فصولُ تاريخ اجتماعي وسياسي وثقافي تونسي طويل.

ثقلُ التاريخ على خفّة السّيرة: 

قبل أشهرٍ بعيدة، كانت نرمين صفر قد أعلنت تغيير لقبها إلى “سْفر”. فمنذ بداية مسيرتها تعرّضت الفنّانة لحملة عائليّة عنيفة. بالتوازي مع حملة أخرى إعلاميّة (خاصة في بدايتها) مثقلةٍ بشحنة أخلاقيّة، تستهجن ما تقدّمه من استعراض ورقص وحركات “مثيرة”. أتذكّر مقطع فيديو لأحد أفراد عائلتها (ربّما خالتها أو عمّتها، لا أذكر تحديدًا) فيه تبّرٍ صريح منها بسبب “الفن” الذي تقدّمه، باعتباره مُشينًا لتاريخ وسمعة العائلة. وربّما أرادت نرمين صفر بإعلان تغيير لقبها حينها، أن تخرج من تلك الدّائرة الضاغطة، وتتخفّفَ من ثقل “الرأسمال الرّمزي” للعائلة التي تحمل لقبها.  

تشكّل هذا “الرّأسمال الرّمزي” لعائلة صفر عبر قرون، منذ نهايات القرن السادس عشر وصولاً إلى مرحلة بناء الدّولة الحديثة بعد الاستقلال. “رأسمال رمزي” تصوغه سمتان: أولاً، الأدوار العسكريّة والسياسيّة الكبيرة والمؤثّرة جدًا التي لعبتها العائلة طيلة التاريخ الحديث والمُعاصر لتونس. وثانيًا، حَنَفِيَتُها المذهبيّة باعتبارها عنصرًا “عثمانيًا” وافدًا إلى الفضاء الدّيني التونسي المالكي.

تنحدرُ نرمين صْفر من المهديّة (في السّاحل التّونسي). هناك حيث شيّد العثمانيون أحد أقدم الحاميات العسكريّة، وهي واحدة من كثيرات انتشرت على كافة مساحات البلاد خاصة في المدن الكبرى، وبعض الحواضر الأخرى. سكن العسكر العثماني الوافد لردّ الغزوات البرتغالية والاسبانيّة، تلك الحاميات، وسكن جدّ عائلة صفر، المنحدرة في أصولها من ألبانيا، حامية المهديّة. وليتوارث أبناؤه من بعده الخطط المخزنيّة والعسكريّة حتى دخول الاستعمار الفرنسي إلى تونس.

كان أعيان العائلة معظمهم من القيادات العسكريّة العليا في “الجيش التونسي” خاصة منذ التغيير الجذري الكبير الذي أحدثه فيه المشير أحمد باي، ولم يكن حصولهم على مواقع داخل “الجيش الوليد” صعبًا، نظرًا لتقاليدهم الحربيّة العريقة، وامتهانهم الجنديّة والخطط العسكريّة كنوع من التقاليد العائليّة المتوارثة، ومساهمتهم المستمرة في فرض الأمن في السّاحل، ودَعم المحلّة في قمع تمرّدات القبائل القريبة وتسهيل عملها في استخلاص المجبى.

أشهر القيادات العسكريّة على الإطلاق هو أمير اللواء مصطفى صفر الذي كان فاعلاً جدًا في قمع انتفاضة ثورة علي بن غذاهم وقياديًا بارزًا في حملة الجنرال زرّوق على السّاحل، التي تلت الانتفاضة. كان رجلاً عسكريًا مُهابًا وقويًا مُواليًا بقوّة للحسينيين. العشرات من أفراد العائلة كانوا قد تولّوا خططا عسكريّة رفيعة وأخرى مخزنيّة-سياسية طيلة قرون، وبخاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر، واستفادوا من تحالفهم مع المخزن الحاكم في كل الفترات السياسيّة التي مرّت على تونس منذ قدوم العثمانيين.

انتقل بعض أعيانهم الذين تولّوا خططًا مخزنيّة أو عسكريّة عالية للسّكن في العاصمة، مثل بقيّة أعيان البلاد من مماليك وقيّادٍ وخلفوات وغيرهم، وهناك تشكّلت نواة جديدة لعائلة صفر خارج المهديّة. اشتغل عدد من أبناء العائلة أيضًا كخلفاوات في عدد من المناطق، وكانوا فاعلين في دعم السياسات الحسينية في البلاد، ومشاركين بكل قوّة (وتحالف) في كل الأدوار العسكريّة والسياسيّة التي لعبتها السّلطة المخزنيّة الحاكمة في فرض نفوذها على “الأهالي”. 

كان الجيل الأقوى للعائلة والأكثر تأثيرًا وسطوة هو جيل القرن التاسع عشر، وأحفاد هذا الجيل بالذّات، وبعضهم ولد نهايات القرن (قبل أو بعد دخول الاستعمار) أو في بدايات القرن العشرين، كانوا جزءًا رئيسيا في بناء الحركة الوطنيّة (المناضل الطاهر صفر مثلاً كأحد مؤسسي وبناة الحزب الدّستوري وقياداته الرئيسيّة). لا يمكن بالضّبط حصر قائمة بأسماء المناضلين من عائلة صفر طيلة فترة الاستعمار، لكن إسهاماتهم تستحق في حدّ ذاتها تفصيلاً تاريخيًا موسّعًا. 

بعد الاستقلال، تقلّد كثيرٌ منهم خططًا سياسيّة وإدارية عالية في الدّولةـ أعلاها تولّي رشيد صفر (نجل الطّاهر صفر) رئاسة الحكومة عام 1986 والذي توفّي منذ أشهرٍ، وسط تأبينات واسعة من المثقفين والمؤرّخين حول دوره في إنعاش الاقتصاد التّونسي عقب برنامج الإصلاح الهيكلي الذي فرضه البنك الدّولي على تونس إثر أزمة اقتصاديّة خانقة في الثمانينات. 

يُمكن فهم ما يمكن أن يخلّفه كلّ هذا التراث السياسي، والتمايز الثقافي (الحَنفي) وحتى الجذور “العرقيّة” (الألبانية) من شعورٍ بـ”التمايز” و”الرّيادة” لدى العائلة. تراثٌ سياسي عتيق، و”مجدٌ” نضالي كفاحي يُمكنه أن يؤسس لشعور فعلي بـ”السّمُو” الاجتماعي: قديمًا، ثقافةٌ ذات جذور محافظة في انغلاقها “العرقي”، وثانيًا بتمايزها الثقافي/المذهبي. وحديثًا، بأدوار سياسيّة ونضاليّة مهمّة في التاريخ السياسي للبلاد.

هكذا تشكّل هذا “الرّأسمال الرّمزي” لعائلة صفر بين المهديّة والعاصمة، منذ قدوم جدّها المؤسّس منذ نهايات القرن السادس عشر إلى تونس. وهكذا يُمكن فهم حالة “الاغتراب” التي يُمكن أن تعيشها نرمين صفر بميولاتها الفنيّة، شديدة الانحياز عن كلّ ما هو محافظْ، لا فقط اجتماعيًا، بل حتّى فنيًا. ومن هُنا يُمكن فهم، ذلك الاختناق داخل دائرة الانتماء لعائلة مثل عائلة صفر، بالنّسبة لفنّانة استعراضيّة تنكّه عروضها بكثير من “الإغراء” الحركي واللّفظي. يمكن الشّعور بكلّ ما يُمكن أن يُقال لها حول “تلويثها” تاريخ العائلة.

فهمت نرمين صفر ربّما ذلك، وقد تكون أرادت -بإعلان تغيير لقبها- أن تُريحهم، وتريح نفسها. وثمّة تستمتع -بكلّ حريّة وانطلاق وبلا أي قيود- بما تقوم به وتقدّمه من استعراض، وما تجنيه أيضًا من نجاحٍ وثروة و”رأسمال اقتصادي”.

الحقُّ في “الابتذال” والبهجة

 في المُجمل، وبكلّ هذا، تبدو نرمين صفر (سْفَرْ) كدَورَةٍ ارتكاسيّة نحو ما قبل الرّشيديّة، أي ما قبل مشروع مصطفى صفر نفسه. حيث تظهرُ أغنيّة “على سرير النّوم دلّعني” تحديدًا بكل ما تحمله من مدلول تاريخي وثقافي داخل سياق الأغنية التّونسيّة، كلحظة شديدةِ الرمزيّة لهذا الارتكاس الفنّي. أو ربّما -في المُقابل- كلحظةً إحيائيّة لتراثٍ مُتجاوزٍ. تراثٌ تمّ تجاوزهُ بتعالٍ واحتقارٍ نُخبوي في لحظة تأسيس لا يخفى -بأي حالٍ- نُبلُ غاياته.

غير أنّ السياقات -حتّى السياسيّة- ليست نفسها الآن. وما كان غير قابلٍ للتفهّم والاستساغة في ثلاثينات القرن الماضي على صعيد الذّوق والقيم الجماليّة والمعنى، لم يعد كذلك اليوم. حيث تنتشر الموسيقى الرّقميّة وتجد صداها عبر محامل الوسائط الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي. أمّا الموسيقى التقليديّة نفسها فقد تَصَلّبت في أبعادها النّظريّة والتوثيقيّة ولم تعد مهدّدة بالضياع، كما أن الأذواق تنوعت وتطوّرت إمكانيات العرض البصري وتداخلت الفنون وصارت التّخوم بينها غير بائنة بدقّة. 

غير أنّ نرمين صفر، كذلك، وباعتبارها حالة فنيّة “إشكالية”، و”ظاهرة” بمعنى ما، تُمثّلُ أيضًا نوعًا من “الابتذال البهيج”. “ابتذالٌ” بمعايير الثقافة العُليا، و”بهيجٍ” على أمزجة الثقافة السّفلى الرّاهنة، التي لم تعُد ترهقَ نفسها بالمشاريع الكبرى والأحلام الكبيرة، تحت وطأة سُلطة مجتمع الاستهلاك والخِفّة وتحلّل معظم البنى الاجتماعيّة التقليديّة. كما لم يعد الذّوق يُصنع بأمزجة السّلطة وحدها (سياسيّة كانت أم اجتماعيّة)، بل انفتح العالم بمفعول التقنية والعولمة وأنماط الحياة الجديدة، وصار الذّوق يتشكّل وفق مفاهيم من نوع “الترند” مثلاً أو تحت تأثير مقاطع التيك توك والانستغرام.

لا تطرحُ نرمين صفر، في ما هو واضح، على نفسها أي رسالةٍ فنيّة ولا تدّعي تمثيل أيّ مشروعٍ ذو ثقلٍ ثقافي عميق. تقدّمُ نفسها كنموذجٍ للاستعراض. الاستعراضُ كمُرادفٍ للبهجة. ولطالما كان الاستعراض دومًا في تمثّل الثقافة العليا رديفًا للابتذال. غير أنّه في النّهاية حقٌّ لا يُمكن (ولا يجبُ) مُصادرته -اليوم- باسم أي معنى تأسيسي أو نضالي أو حتى فكري. 

في مصرَ يُخاضُ مثل هذا النّوع من النّقاشات حول أغاني المهرجانات وحول فنّان مثل حمّو بيكا مثلاً، وفي الشّام أيضًا حول فنّانات مثل ريم السّواس وسارية الزكريا. مع ذلك تجد تلك “الفنون” وتلك الأسماء صداها وجماهيرها وتحقّقُ نجاحاتها وانتشارها خارج التضييق البيروقراطي وتعطيلات التّراخيص والبطاقات المهنيّة وصرامة القوانين المنظمّة للعروض وصرامة تأويلها. وانتقائيّة تطبيقها 

تُقدّم نرمين صفر “فنّا” استعراضيًا خفيفا. وبمعايير ذوقي الخاص المُتصالح مع الثقافة السّفلى، أعتبره لطيفًا ومُبهجًا. كما تقدّم عُروضًا بصريّة حيّة في كليباتها أو حفلاتها، حيث تكثرُ الألوان والأشكال الصاخبة والمتحرّكة. ثمّة تناسقٌ جمالي يحوّل فَقاعة الألوان والأشكال وتزاحمها إلى توليفة مندمجة مع سياقات النّغم والإيقاع. 

تستخدمُ نرمين صفر كلمات ساذجة في أغانيها، كلماتٌ تافهة بأكثر دقّة، وبمعايير الثقافة العُليا: كلماتٍ مبتذلة. وهي في الحقيقة لا تُعبّرُ عن أي معنى عميق، مهما حاولَت أحيانًا تفسير كلمات الأغاني بتعسّفٍ تأويلي ثقيل. أغانٍ بكلماتٍ وجملٍ غنائيّة لا تحملُ أي معنى، لكنها خفيفة وبسيطة ومبهجة. وهي لا تمنحنا ربّما فنًّا عميقًا بمعايير الانضباط النّخبوي للقواعد والنّظريات والنّقد الشّعري ولا مساحات واسعة للحفر الموسيقولوجي، لكنّها -في المُقابل- تمنح جُمهورها حقّهم الإنساني البسيط في “الابتذال البهيج”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني